سارس بوتري بلدة صغيرة تقع على هامش خريطة فرنسا السياحية لوقوعها في أقصى الشمال. لكنها على خريطة الفن، تحتل موقعاً مهماً بفضل احتضانها منذ قرون عدة نشاطاً فنياً وحِرَفياً لافتاً بمادة الزجاج، تشهد عليه مجموعة "متحف الزجاج" فيها التي تتحاور داخلها أعمال لفنانين كبار من مختلف أنحاء المعمورة، وقطع مدهشة صُنعت في هذه البلدة بين عامي 1801 و1937، وانحرف بها "فشلها"، على مستوى المعايير التقليدية لحرفة نفخ الزجاج، إلى عالم الخيال والعجب.
بموازاة هذه المجموعة الفنية التي تستحق وحدها زيارة المتحف، ينظم القائمون عليه بانتظام معارض فنية مهمة، آخرها معرض جماعي انطلق حديثاً تحت عنوان "تخمّة"، ويطمح، من خلال أعمال زجاجية لفنانين غربيين وأسيويين معاصرين، إلى استكشاف مختلف جوانب مجتمع الاستهلاك المفرط (surconsommation) ومخاطره، من زوايا عدة: العلاقة بالمال التي تكيّف كل التجاوزات؛ هدر الموارد الطبيعية والإهلاك المبرمج للمنتجات، وهما يولدان أطناناً من النفايات ويعرّضان التوازن البيئي للكوكب للخطر؛ وفقر معايير الجمال الطاغية، وصعوبة بلوغها في الوقت نفسه. وبين صورية مألوفة، وتمثّلات رمزية، ومراجع ثقافية وتاريخية، وأعمال "تجريمية"، تعرّي القطع المعروضة كل التجاوزات المعاصرة.
العمل الأول الذي يستقبل زوار المعرض يحمل العنوان التحريضي "إلدورادو"، وهو عبارة عن تجهيز ضخم للأخوين المكسيكيين إينار وجامكس دو لا توري، تتوسّطه مائدة مزخرفة بإفراط ومحمّلة بالمأكولات، تعكس الجشع، وعموماً، الجوانب السلبية لنمط حياة رأسمالي، محكوم حتماً بالخيبة. وبتطويقهما هذه المائدة بورق جدران تعلوه رسوم ونماذج "كيتش" يتشابك فيها بسخرية ذكية التاريخ والأسطورة والأدب والرموز المعاصرة، يمنحنا الفنانان تأمّلاً حاذقاً في الطبيعة البشرية.
فن الوجبات السريعة
في منحوتة "نيو تايمز رومان" (2011)، المجاورة لـ "إلدورادو"، يستعيد الأميركي جون موران الصورية الدينية الكلاسيكية، وتحديداً منحوتة مايكل أنجلو "لا بييتا"، مستبدلاً السيدة العذراء المكلومة بمهرّج يجسّد بألوان ثيابه أشهر علامة تجارية للوجبات السريعة، ويهدهد في حضنه مستهلِكاً هامداً ومتخماً بالطعام. عملٌ غايته التأمل في فكرة الارتهان، وتسليط الضوء على التكلفة البشرية وراء أرباح الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات. وضمن المسعى نفسه، أنجز مواطن موران، جون ميلر، منحونة "علبة بطاطا" (2023) التي لا تشكّل فقط هجاءً للمجتمع الأميركي الذي يميل إلى الاستهلاك المسعور، بتجسيدها كليشيه الوجبات السريعة، بل تدل أيضاً على التهديد الصحي الدولي الناتج من رواج هذه الوجبات في مختلف أنحاء المعمورة.
البولندية أولا غولداس، تدعونا في منحوتتها "الذبح" (2022)، إلى تجربة جمالية مقلِقة. ففي صحنٍ زجاجي، تقدّم لنا وجبة من الأعضاء المقرفة التي يصعب التعرف إلى طبيعتها، تستحضر موضوع هدر الطعام، كما تسائل حمية اللحوم وضررها. مقلِقة أيضاً منحوتة "29 ساعة أمام شاشة التلفزيون" (2008) التي أنجزها الأميركي مات إيسكوش انطلاقاً من قمامة (علب مشروبات غازية، قناني ماء، أكواب قهوة، علب سجائر...)، وتفضح ما يستهلكه مشاهد عادي أثناء ماراثون تلفزيوني. طبيعة صامتة ــ صارخة، تتحول الطاولة المغمورة بعلب البلاستيك أو الكرتون إلى تمثيل مجازي لغرور عالمنا الحديث وتفاهته، نستنتج فيه ارتهاننا إلى الشاشة، وأيضاً إلى المأكولات والمشروبات المعالَجة بإفراط، والمولِّدة قمامة هائلة بطريقة تصنيعها وتغليفها.
ومن خلال عملية سردٍ تدريجية، يحثنا عمل الألمانية كارولا ديشينجر، "الشجرة الأخيرة"، الذي يتألف من عدة لوحات لأشجار لم يتبق منها سوى أكعاب جذوعها، على التأمل في جنون الاستهلاك الذي يدفع إليه النظام الرأسمالي، وعلى التحرك بسرعة لمواجهة التغيير المناخي الخطير الناتج منه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللوحة الثلاثية المصاريع "صوت الخراب" التي تقارب الأميركية إيبريل سورجينت فيها موضوع الأرض القاحلة والمقفرة بفعل سلوك البشر.
التلوث البحري
ومن اليابسة، ينقلنا الألماني جينس غوساك إلى اليم في منحوتته "سفينة نازفة" (2023)، بوضعه في أعقاب سفينته سائلاً أحمر، هو استعارة واضحة للبترول الذي تسكبه السفن في البحار، مدمِّرة النظام البيئي البحري وكائناته الحية. وفي السياق نفسه، يتناول الياباني شيجي فوجيشيرو في تجهيزه، "تحت سطح الماء" (2023)، الاعتبارات البيئية المرتبطة بالتلوث البحري. فالنفايات التي تنتشلها شِباكه المكوّنة من خرز ملوّن، وتظهر عليها شعارات الماركات التجارية الكبرى، تستحضر هذا التلوّث الذي بلغ حد انبثاق قارة سابعة تتكون حصراً من القمامة.
وفي منحوتة "باناسونيك"، التي تقتصر على جهاز راديو كاسيت قديم، تندد الأميركية جينيفر كريسكويلو بثقافة الاستبدال في مجتمعاتنا، التي تقف خلفها الشركات الكبرى لتصنيع الأجهزة الإلكترونية. فبحجة تنافسها على بيع منتجاتها، تغري هذه الشركات المستهلك بأجهزة أكثر حداثة، وفقاً لإيقاع محموم، الأمر الذي يُبطِل وظيفة ملايين الأجهزة "القديمة"، على رغم جودتها، وبالنتيجة، يستهلك موارد الطبيعة، ويُفاقم الصراعات المرتبطة بهذه الموارد، ويخلّف أطناناً من النفايات التي يصعب أو يتعذر تدويرها. وفي منحوتة "أرغوس تاور"، يسائل الهولندي فينسينت بريد الواقع بموشور الاستعارة. فالعيون العملاقة التي يتألف عمله منها، وتتكدس بعضها فوق بعض على شكل برج، تحيلنا إلى الإشباع الصوري الناتج من مصادر مختلفة: الشاشات، الطائرات بدون طيار، الأجهزة البصرية... مصادر توسّع آفاق إدراكنا البصري، لكنها تشكّل في الوقت نفسه الأدوات التي تسمح في وضع أفراد المجتمع تحت الرقابة الدائمة، الأمر الذي يستحضر رواية جورج أورويل، "1984".
ويتشارك الأميركي جيف زيمر والكندي ماتيو غرودي هاجس استكشاف المشكل المرتبطة بإساءة استخدام السلطة في عالمنا المعاصر. لكن بينما يركّز زيمر على موضوع التعدّي على خصوصيات حياة الناس، في سلسلته "CCTV" التي تتألف من شاشات تلفزة، منتقداً نظام كاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان، والتلصص المشين الذي يسمح به، ويُبرَّر بحجة توفير الأمن؛ يستخدم برودي مادة الزجاج ليخطّ فنياً اقتباسات أدبية شهيرة حول إساءة استخدام السلطة السياسية، أو لتسليط الضوء على ازدواجية السلطة وعبثيتها. ففي منحوتته "بانكسر"، يحضر المصرفي الممثّل فيها كنموذج كاريكاتوري، جالساً بشكلٍ مهيب في الرفاهية التي يوفّرها له ثراؤه، محاطاً بالرموز التي ينسبها الخيال الجماعي لوظيفته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولتصوير تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على حياة الناس، وإدانته، تلجأ الهولندية كريستا يسرايل في "مواجهة إدماني" (2016) إلى تقنية الزجاج المصبوب لصنع ذراع ضخمة، بقبضة مغلقة، تسلّطها فوق قوارير صغيرة مملوءة بسائل أزرق، هو لون موقع "فيسبوك"، أفيون الشعوب الجديد. وبغية تفكيك ثقافة المظاهر، الطاغية على مجتمعاتنا، ونقد ذلك البحث المستمر عن الكمال الجسدي وفقاً لمعايير جمالية بعيدة المنال، تضع الأرجنتينية سيلفيا ليفينسون تحت أنظارنا منحوتة تتألف من قوارير زجاجية حمراء تستحضر تلك التي تُعبّأ فيها العطور ومساحيق التجميل، لكن بدلاً من الماركات الشهيرة، تحمل على سطحها عبارات تروّج للأصالة ومعانقة الاختلاف والثقة بالنفس.
وبينما تسعى الكورية الجنوبية يون كيونغ كيم، في "دولار"، إلى التعبير عن الطابع اليوتوبي لـ "الحلم الأميركي"، ولشعارات المجتمع الرأسمالي عموماً، عبر رسمها ورقة الدولار النقدية على شكل لوحة زجاجية ضبابية، مقلِقة بقياساتها الضخمة؛ تشكّل "أقزام" الألماني فيلهالم فيرنيم مكثّفاً للمجتمع، بتمثيل كل قزم فئة اجتماعية معينة تحددها صفة شكلية بارزة فيه. تماثيل صغيرة غاية الفنان منها الإشارة إلى أن المجتمع غالباً ما يفرض على أفراده ضرورة الامتثال لفئة واحدة، حارماً إياهم من حق التمتع بحرّية أن يكونوا مَن يريدون، من دون التقيد بالحدود التي تفرضها التصنيفات الاجتماعية.