إذا كان كثر من هواة الفن التشكيلي الإيطالي في العصور الأكثر حداثة يسألون مؤرخي هذا الفن عما حدث له حقاً بعدما ازدهر منذ بدايات عصر النهضة ليصل إلى ذروته بل حتى إلى "نهايته" مع حلول بدايات القرن الـ18، فإن الجواب المنطقي الوحيد الذي يورده أولئك المؤرخون، يدور من حول اسم واحد هو جيان باتيستا تييبولو الذي سيقول المجيبون بكل ثقة إنه حمل وحده عبء الحفاظ على المكانة والاستمرارية، اللتين ختمتا ما كان بدأه الكبار السابقون منذ زمن جيوتو ومن قبله، ممن أسسوا لأنسنة ذلك الفن خلال ثلاثة أو أربعة قرون كان التنافس فيها على أشده بين شتى المدن الإيطالية على يد حكامها وفنانيها، على تأسيس تلك الفنون التي خلقت العالم من جديد على شكل إبداعات لا يخطئ الذين لا يتوانون عن إدراك كونها أعمالاً علّمت ألفية الإبداعات الإنسانية. والحقيقة أن توصيف تييبولو بأنه لا بد أن يعتبر "الأخير" بين أولئك المبدعين، إنما هو نابع من تاريخ حقيقي للنهضة الإيطالية يضاف إليه كونه، وكما كان ينبغي أن تبدو الأمور منذ البداية، نوعاً من عودة الفنون الإيطالية على مختلف جذورها، إلى طابعها الأممي (الكوزموبوليتي) الذي كان ومنذ بداياته في البندقية، قدراً يعبر عن تلك المدينة/ الدولة التي كانت بحياتها وسياساتها ومكانها الجغرافي وفنونها بالتالي، كانت بداية للديمقراطية كما خلقتها الطبقات الوسطى ونقلت معها جوهر تلك الفنون إلى العالم، الأوروبي على الأقل.
استيراد وتصدير
ولعل هذا ما يتعين علينا رصده منذ البداية التي نهلت من ربط الأساليب الفنية بالمستورد من شتى المناطق الأوروبية، وصولاً إلى إعادة تصديره إلى تلك المناطق نفسها. والحقيقة أننا نبدو هنا وكأننا نرسم مسار آخِر النهضويين، تييبولو نفسه، هو الذي دائماً ما يشار إلى "تلمذته" على دور رمبراندت وروبنز ولاحقيهم من بقية الهولنديين والفلامنكيين، بشكل عام، وكذلك على عدد من التقنيين الإيطاليين الذين لم يكونوا أبداً على شهرة أولئك الكبار. ولئن كانت بدايات تييبولو تضفي عليه تلك الكوزموبوليتية، يمكننا كذلك أن نشير إلى سنواته الأخيرة التي سيمضيها حتى رحيله، في مدريد عاصمة إسبانيا حيث كرس فنه العظيم وموهبته وألوانه، بل حتى مواضيعه تلك الـ"إسبانيا" التي كانت في عز نهوضها سياسياً واقتصادياً وفنياً، فيما كانت إيطاليا وفي تلك المجالات جميعاً تبدأ انتكاساتها. وفي السياق نفسه، لا بد أن نشير إلى أن سنوات تييبولو في البندقية نفسها لم تخل هي الأخرى، وإن كانت قد انطبعت بنزعة محلية لا لبس فيها جعلته يعتبر واحداً من كبار المعبرين عن مسرات الحياة وروعة المجتمع والتصاق الفن بأبهة العيش في المدينة البحرية الثرية والعريقة، إلى جانب الثنائي كاناليتو وغواردي (الذي كان صهراً له على أية حال) لم تخل من نزعة أممية أيضاً، ربما تمثلت أكثر ما تمثلت في تلك اللوحات التي رسمها أواسط العقد الخامس من القرن الـ16، ومنها بشكل خاص لوحتان رسمهما تباعاً بين 1743-1747 بنفس الموضوع والعنوان، لكن إحداهما أتت جدرانية والثانية زيتية على القماش تحكيان حكاية اللقاء التعارفي بين ملكة مصر كليوباترا والقيصر الروماني مارك أنطوني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على خطى "عرس قانا الجليل"
والحقيقة أن ما قد يلفت النظر بشكل خاص في الجدارية واللوحة كونهما ينمان من ناحيتهما عن نزوع تييبولو، في تلك المرحلة من مساره الفني على الأقل إلى السير على خطوات سابقه، البندقي هو الآخر، فيرونيزي بخاصة في ربطه اللقاء الذي نعرف أن لم يجر في البندقية نفسها في حقيقته، وإنما في الاسكندرية، ما يعني أن الرسام البندقي الذي لم يزر الاسكندرية في حياته إنما استعار هندسة بندقية عريقة جاعلاً إياها إطاراً هندسياً للقاء الحضاري والغرامي بين ملكين وأمتين وثقافتين، تماماً كما ضافر ذلك، مع ما نزع إليه فيرونيزي من قبله في لوحته العملاقة "عرس قانا الجليل" التي صور فيها تصوره لحكاية زيارة السيد المسيح للمدينة الفلسطينية ليصور من خلال المشهد، الوليمة التي تقام على شرف السيد المخلص ويحضرها كبار القوم، وقد بدا من الواضح أن معظمهم بملابسهم الفخمة وعناصر الوليمة الفاخرة ولكن خاصة بهندسة القصر الذي يقام العرس الجليلي فيه، وصولاً إلى إدماج العديد من الشخصيات التاريخية الحقيقية في المشهد المرسوم، عنصراً أساسياً من تلك اللوحة حتى وإن كانت تعبيراً عن مشهد فلسطيني دار تاريخياً قبل ذلك بألفية ونصف الألفية، كان من المستحيل له أن يكون تصويراً لحقيقة تاريخية ما، وإن كان معظم المعجبين باللوحة المعلقة اليوم في متحف اللوفر الباريسي لتنافس لوحة الـ"جوكوندا" لليوناردو دا فنشي في شعبيتها، لا يشككون في حقيقتها. ومهما يكن من أمر هنا، فإن هذا ليس موضوعنا وإنما تطرقنا إله لنشير إلى اختيار جمالي وحضاري خاضه تييبولو معلناً من خلاله ما لا يقل عن أمرين بالغي الأهمية، أولهما تتلمذه على مواطنه البندقي فيرونيزي، وثانيهما تلك النزعة الكوزموبوليتية التي سيتمسك بها حتى آخر حياته وبخاصة من خلال أعماله الإسبانية الأخيرة، بخاصة لوحته الكبيرة "مجد إسبانيا" (1762 - 1766) التي تعتبر تقريباً خاتمة ما لمساريه الفني والحياتي، وهما على أية حال مساران لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض.
شيء من الذاتية لنهاية ما
غير أن علينا هنا ألا نكتفي مما يمكن أن نعتبره خصائص فن جيان باتيستا تييبولو بذينك الأمرين على أهميتهما، بل لا بد من الإشارة إلى خاصية أخرى أساسية هي علاقته بالتلوين في لوحاته المبتكرة ولكن أيضاً في الحداثة المدهشة التي تطبع هذا التلوين في بعض لوحات استثنائية. ومن ذلك خاصة لوحة "الاستراحة في الطريق إلى مصر". وهي لوحة يمكن النظر إليها على أنها واحدة من أصغر لوحات تييبولو حجماً (57 سم عرضاً مقابل 44 سم ارتفاعاً، وهي اليوم معلقة في متحف شتاتسغاليري بمدينة شتوتغارت الألمانية)، وكانت على أية حال آخر لوحة أنجزها وهو يقترب من يوم رحيله. ما يميز هذه اللوحة في الحقيقة حداثتها المطلقة حتى بالنسبة إلى زمننا هذا. فحتى ولو أن اللوحة تدور من حول موضوع عائلة السيد المسيح المؤلفة من السيدة العذراء وخطيبها يوسف النجار ومن الطفل نفسه خلال تسلل العائلة إلى مصر هرباً من السلطات الرومانية، التي أدركت خطورة الطفل على مستقبلها، فإن مشهد العائلة لا يشغل في اللوحة سوى جزء يسير جداً من مساحتها الجانبية وفي الأسفل، فيما بقية المساحة لا تتجاوز كونها بيئة طبيعية يتسم تكوينها ببعد ذاتي يعبر، في رأي الدارسين، وعلى طريقة الانطباعيين الذين لن يظهروا قبل قرنين على الأقل على يد التيار الذي سينطلق من فرنسا كما من إنجازات الإنجليزي تورنر في انجلترا ويحمل اسم "التيار الانطباعي" على أية حال، عن جوانية الفنان من خلال البيئة الطبيعية للمكان الذي يرسم الفنان حدوث المشهد فيه. فهنا سيصبح المشهد الطبيعي بيئة حاضنة للمشاعر التي يتقاسمها الفنان نيابة عن "العائلة المقدسة" في تعبير تلك البيئة عن المشاعر التي يحملها الفنان بألوانه وخطوطه، معبراً عن قلق العائلة في هروبها من الجور الذي تعاملها به السلطات، التي منذ "إحصاء بيت لحم" (الذي أبدع الفلانكي بروغل الكبير في رسمه) لم تكف عن "مدّ" الفن الديني بموضوع إضافي ينهل منه ومن خلاله عبر تييبولو في آخر حياته عن نوع من العودة إلى الإيمان في بعد ذاتي يخرج عن النطاق الاستعراضي الذي دائماً ما طبع عمله الفني.
ونعرف طبعاً أن ذلك البعد وفي تجليه البصري ونزعته الحكائية، كان واحداً من السمات المميزة لإبداع هذا الفنان الذي لم يعد قيام كثر بانتقاد فنه، على رغم إعجابهم المطلق بتشكيليته، واصفينه بأنه تزييني بأكثر مما هو حامل لمحتوى في مضمونه ومعانيه.