لم يعرف أصدقاء حكيم مرزوقي (1966-2024) أن سهرتهم معه ليل الثلاثاء فجر الأربعاء الماضي ستكون السهرة الأخيرة، فقد رافقوه من مكان سمرهم في محلة المرسى إلى باب بيته في حي باب الخضراء في العاصمة التونسية بعد أن اطمأنوا عليه. كان الرجل الذي يعاني داء السكري يرفض أن يتناول حقن الإنسولين، بل يتندر عليها ضاحكاً، فيروي لهم طوال تلك الأمسية حوادث ونوادر كثيراً ما برع الكاتب والمسرحي التونسي في سردها، خالطاً فيها الجد بالسخرية والحقيقة بالخيال.
وبعد يومين من فقدان التواصل معه وعدم رده على هاتفه الجوال، قرر صديقاه الصحافيان علي القاسم ومحمد المولهي أن يتوجها إلى شقته. وفعلاً وصل الرجلان برفقة طليقته رويدة وابنه إبراهيم إلى المكان، وخلعوا بمساندة من عناصر الشرطة باب منزله ليشاهدوا حكيم وهو في كامل قيافته يجلس إلى حاسوبه الشخصي وقد شخصت عيناه في الشاشة أمامه، وأصابعه متيبسة على لوحة المفاتيح. لن يمضي وقت طويل ليكتشفوا بعد حضور الطبيب الشرعي إلى المكان أنه أصيب بنوبة قلبية قبل يومين من كتابته آخر ما دونه على حسابه الشخصي في "فيسبوك". جاء المقطع لمناسبة عيد الحب، وقال المرزوقي فيه: "أحزن لرجل بهدية واحدة وعشرات الأحضان، ليت لي حضناً آخر يا امرأتي الجميلة".
هكذا رحل الشاعر والكاتب والمسرحي التونسي في عيد الحب عن 58 سنة، ولعله كعادته كان يتأهب للخروج في صباح العاصمة التونسية لتناول فنجان قهوته مع البسطاء والباعة الجوالين، وتحديداً في أحد مقاهي الحي الشعبي الذي يقيم فيه، قريباً من منطقة الأسواق وجامع الزيتونة في تونس العاصمة. هناك فاضت روحه العاشقة فوق مسارح المدينة ومكتباتها وساحاتها التي عرفته شاباً يافعاً وتجاهلته حين عاد إليها، وهذا ما جعله طوال الوقت يعتبر نفسه "منفياً في بلاده". مما يمكن ملاحظته من تجاهل المؤسسات الثقافية التونسية لخبر وفاته، فيما نعته "مديرية المسارح والموسيقى" في وزارة الثقافة السورية ببيان نشرته على موقعها الإلكتروني.
علاقة "عاشق دمشق" تمتد لأكثر من 30 سنة، قبل أن يسافر حكيم مرزوقي لدراسة الأدب العربي في جامعتها، قضى الشاب حياته متجولاً بين باريس وجنيف وبروكسل وبغداد وبيروت، إلى أن حط رحاله في منزل صغير ابتاعه في ضاحية صحنايا (الريف الغربي لدمشق). البيت الذي سيغادره على عجل بعد اشتداد حمأة المعارك عام 2012 مع بداية الحرب السورية.
مبدع في المسرح السوري
المرحلة التي قضاها صاحب "الجار الثامن" في العاصمة السورية كانت هي المرحلة الأغزر في حياته كتابة وإخراجاً للمسرح، فلقد أسس عام 1996 مع كل من رولا فتال ومها الصالح ورائفة أحمد فرقة "مسرح الرصيف"، وأطلق عروضها التي كتب معظمها وأخرجها. وكانت البداية مع مونودراما "إسماعيل هاملت" التي نال عنها الجائزة الذهبية في مهرجان قرطاج 1997. وفي هذا العرض الذي ترجم إلى الفرنسية وقدم على مسرح نجمة الشمال في باريس، أعاد المرزوقي بطريقته رواية أحداث النص الشكسبيري بحس شعبي ساخر عبر شخصية شاب دمشقي ينتقل من مهنته كمكيس في حمام السوق إلى مهنة تغسيل الأموات، وتحديداً إلى تغسيل جثة عمه الذي تزوج أمه بعد موت أبيه. سيرة يتلوها ممثل وحيد على الخشبة كانت بمثابة مفتاح لقريحة هذا الكاتب الذي رأى أن المسرح يجب أن يقدم في البداية للناس، وألا يكون مسرحاً للتعالي عليهم أو مصادرة ذائقتهم بمسرح سياسي أو خطاب جاف ومؤدلج.
تتالت بعدها الأعمال التي انتزعت للمرزوقي مساحة لافتة داخل الريبرتوار السوري، فقدم عدة عروض اشتبك من خلالها مع موضوعات حساسة كظاهرتي الإرهاب والتطرف، كما في عرضه "بساط أحمدي" عام 2009. وقدم حكيم عرضاً بعنوان "المنفردة" تناول فيه لأول مرة أجواء المعتقلات السياسية والعلاقة المزدوجة بين الضحية والجلاد داخل السجون العربية. حاز حكيم عن هذه التجارب أهم الجوائز في مهرجانات عربية ودولية، كان أبرزها جائزة مهرجان بروكسل للفنون المسرحية عام 1998، وجائزة مهرجان "ليفت" في لندن عام 1999.
كانت فرقة "الرصيف" بالنسبة إلى صاحب رواية "سيد الوقت" أشبه بهامش في صفحة مكتظة اسمها المدينة العربية. صفحة تزدحم فيها خطوات المسرعين إلى حتفهم. فالرصيف الذي غنى له يوماً كل من جاك بريل ولوي فيري وفرانك سينترا وفيروز كان يتكون بالنسبة إلى حكيم من أحجار صبورة، بينما يتجسد الطريق من أسفلت قاس وعديم الإحساس. ولهذا وقفت فوق ذلك الرصيف بطلة مسرحيته "عيشة" زهاء 30 عاماً بوردتها الحمراء تنتظر حبيباً لا يأتي، كما وقف أبو عرب ماسح الأحذية وبطل مسرحيته "حلم ليلة عيد" 2006، ومثلهما وقفت شخصية السيدة حكمت 2008 المرأة الدمشقية التي تجد نفسها على قارعة الرصيف بعد أن تزيل السلطات بيتها التراثي.
اتخذ المرزوقي في عروضه المسرحية رموزاً من الذين يفترشون الرصيف بيتاً وعالماً وفضاءً معرفياً كما هي الحال في مدينة باريس، حيث اصطلح الناس على تسمية الرصيفيين بـ"الكلوشار" نسبة إلى "سانت دي كلوش" الفرنسي النبيل الذي كان يجمعهم كعروة الصعاليك في تكية خاصة، ويقدم لهم وجبة من الحساء والكونياك الشعبي لمقاومة قسوة البرد وأصحاب السطوة المالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حقق المرزوقي عديداً من العروض التي لا تزال في ذاكرة عديد من عشاق المسرح في سوريا والعالم العربي، منتصراً لكائنات الهامش لا المتن، ومصغياً لعذابات هؤلاء سواء في كتاباته المسرحية أو الشعرية. فكانت مسرحيات من قبيل "ذاكرة الرماد" 2002، و"الوسادة" 2005. هكذا نعثر في أعماله على أبطال لحكاياته الشعبية الصادمة من مثل أبو عبدو اللحام وأبو سعيد الباطونجي وشخصيتي شاذلي وشمسي في مسرحية "لعي" عام 2003، وسواها من النماذج الشعبية التي درج المرزوقي على حياكة قصصها بقالب ساخر ابتعد فيه المخرج التونسي عن الشعوذة البصرية والتلوينات الحركية الفائضة عن الحاجة.
بعد عودته إلى تونس لم يقدم حكيم أي عمل مسرحي، بل واظب على كتابة زواياه الصحافية في صحيفة "العرب" اللندنية، والتي كانت بمثابة متنفس له للتعبير عن آرائه السياسية والثقافية، من دون أن يتخلى عن كتابة الشعر، إذ دفع قبل رحيله بأسابيع بمخطوط ديوانه الشعري الجديد "وحيد مثل قبلة في الهواء" والذي من أسف سيصدر بعد موته عن دار كنعان في دمشق.
كثر من أصدقاء المرزوقي تنادوا لرثائه على حساباتهم الشخصية في موقع "فيسبوك"، فكتبت الفنانة أمل عرفة تقول "كان عاشقاً لدمشق، يليق به تشييع تونسي كبير. عزائي لأولاده وزوجته وأصدقائه. الله يرحمك يا حكيم"، فيما تناقل عديد من أصدقائه عبارته الشهيرة: "يموت الشاعر فلا يختصم الورثة" مرفقين إياها بصورهم مع الشاعر الذي قام بتأسيس ملتقى "بيت القصيد" مع الشاعر لقمان ديركي، قبل أن ينفرط عقد هذه الشراكة بسفر كل من حكيم ولقمان ومعظم رواد الملتقى الدمشقي، الذي شكل ظاهرة ثقافية استثنائية في قلب العاصمة السورية ما قبل سنوات الحرب.