ملخص
العام الثالث من الحرب في أوكرانيا يجب أن يحدد ما تعتبره كييف وشركاؤها الغربيون نجاحاً قابلاً للتحقيق
عامان من حرب دموية في أوكرانيا خلفا أكثر من نصف مليون جندي بين قتيل وجريح، فيما اضطر ما يربو على 6 ملايين أوكراني إلى الفرار خارج بلادهم سعياً إلى اللجوء. ومع ذلك، لم تشهد خطوط الجبهة أي تغييرات تذكر منذ عام حتى الآن.
ونحن نستشرف مستقبل الحرب، ثمة قرارات مصيرية يجب اتخاذها مثل تحديد ماهية أنظمة الأسلحة الغربية التي سيتم تزويد أوكرانيا بها في الخطوة التالية وإمكان تبني كييف لاستراتيجية أكثر دفاعية. بيد أن هناك ثلاثة دروس ومؤشرات حاسمة لمستقبل الحرب توحي بطبيعة التوجهات التي قد يسلكها هذا الصراع من الآن فصاعداً.
علينا أن ننصت جيداً لما يقوله بوتين - فالدلائل موجودة دائماً.
على رغم استعداده الدائم للكذب والتضليل، يعمد فلاديمير بوتين عادة لإخبارنا بما يريد. حين قام بعملية الغزو، بدا مؤمناً بشكل حقيقي أن الأمر لن يعدو كونه نزهة سريعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى نحو ما كرر بوتين في النصف ساعة الأولى من مقابلته مع تاكر كارلسون في وقت سابق من هذا الشهر، حين قدم للمذيع الأميركي المحافظ رؤيته الخاصة للتاريخ الروسي - الأوكراني منذ القرن التاسع، فهو لا يؤمن حقيقة بوجود دولتين مستقلتين.
بل على العكس من ذلك، لقد افترض أن الأوكرانيين سيتقبلون من دون قتال فعلي تقريباً فرض حكومة جديدة أكثر طواعية وراغبة في الحفاظ على أوكرانيا ضمن دائرة النفوذ الروسي.
وإلى حد ما، لا يزال هذا هدفه المعلن. ولكن من جهة أخرى، هناك اختلاف بسيط بدأ يتجلى في خطابه ويجب أن ننتبه له.
ما زال بوتين يريد منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، لكن هناك تلميحات من شخصيات رسمية ومن مراكز البحوث والتحليل – بأنه سيكون على استعداد لرؤيتها تنضم إلى الاتحاد الأوروبي.
إذا تمكنت روسيا من الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها، فالاحتمال يشير إلى أنه يمكن السماح لبقية أراضي أوكرانيا بدرجة من الاستقلال ما دامت تحافظ على حيادها.
بالطبع، هذا أمر غير مقبول في نظر القانون الدولي ولا عند الأوكرانيون. ومع ذلك، فإنه يوضح أن حتى مطالب بوتين الإمبريالية ستتحدد وفقاً لما يعتقد أنه قادر على الحصول عليه.
ويدخل بوتين عام 2024 في وضع قوي. لقد صمدت قواته أمام الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا العام الماضي ولديها كميات ذخيرة أكبر. ويعقد آمالاً على إمكان حدوث تغيير سياسي في الغرب، لا سيما إذا فاز دونالد ترمب بالرئاسة.
على أية حال، ينبغي ألا نتوقع أية رغبة حقيقية لدى بوتين لإجراء محادثات، ناهيك عن تقديم تنازلات. مع تقدم العام الحالي، وإذا تمسكت أوكرانيا بخطوطها وجهزت قواتها لعمليات متجددة عام 2025، وبدأ الإنتاج الغربي للذخيرة في التوسع بالتزامن مع الحفاظ على العزيمة، عندها سنحتاج إلى الانتباه والتأهب لأية إشارات تدل على أن بوتين بدأ يشعر بالضيق.
إن حدث ذلك فقد يشكل مؤشراً على إمكان إجراء مفاوضات - لكن على المدى الأقصر، فالأرجح أنه سينذر بتصعيد أو خطوة يائسة، في محاولة منه لاستعادة زمام المبادرة.
القوى البشرية تظل عاملاً حاسماً - لكنها مشكلة لطرفي الصراع
يدور كثير من النقاش في الغرب حول مسألة الأسلحة التي يجب إرسالها إلى أوكرانيا، إضافة إلى انتقادات سابقة بأن "المناسبة" منها لم ترسل بالكميات "المناسبة" وفي الوقت "المناسب".
بطبيعة الحال، وتيرة وحجم ونوع المساعدة العسكرية أمور جوهرية، لكن الحقيقة أنه لا يوجد سلاح سحري قادر على قلب موازين الحرب بمفرده. فعندما جرى توفير أنظمة صواريخ "هيمارس" ومدفعيات وصواريخ بعيدة المدى في البداية، روج لها على أنها قادرة على قلب الموازين.
لقد مكنت هذه الأسلحة الأوكرانيين بكل تأكيد من ضرب مراكز القيادة الروسية ومخازن الذخيرة ضمن نطاق أكبر وبقدرة أدق بعد إدخالها في يوليو (تموز) 2022، لكن بمرور الوقت، تكيف المحتلون مع الوضع.
سواء تعلق الأمر بدبابات غربية متطورة أو مقاتلات "إف-16" التي يجري تدريب الطيارين عليها، فإن كل هذه التطورات تقدم تعزيزات إضافية للقدرات العسكرية الأوكرانية، لكنها ليست حلاً سحرياً.
لقد قدمت هذه الحرب تذكيراً صارخاً ودموياً بأن القوى البشرية لا تزال عنصراً حاسماً. فهناك سبب يدفع كلا الجانبين إلى التكتم على خسائره في المعارك الدائرة بينهما، حتى أن كييف لا تخبر حلفاءها عن العدد الحقيقي للخسائر التي تكبدتها.
قتل أو أصيب عدد أكبر من جنود بوتين، لكن عدد سكان روسيا يبلغ أربعة أضعاف سكان أوكرانيا. ونسبة إلى عدد السكان، فإن الأوكرانيين يتكبدون خسائر أكبر.
تأمين الجنود هي أحد الموارد العسكرية التي لن يوفرها الغرب. صحيح أن عملية "إنترفليكس" Interflex البريطانية قامت بتدريب ما يزيد على 30 ألف جندي أوكراني، إلا أنه لا توجد أصوات قوية تدعو إلى إرسال قوات للقتال والمخاطرة بتوسيع دائرة الحرب مع روسيا.
وأصبحت قضية القوى البشرية معضلة متفاقمة لكلا الجانبين. تبدو مزاعم موسكو بتطوع 1000 إلى 1500 روسي للخدمة العسكرية بشكل يومي مبالغ فيها إلى حد كبير، ومع ذلك، فمن الواضح أن بوتين لا يريد تكراراً للتعبئة المكروهة إلى حد كبير التي جرت في سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) 2022 قبل الانتخابات الرئاسية في مارس (آذار).
لكن إذا لم يقم بوتين بتجنيد مزيد من الرجال، فإن فرص تمكن قواته من شن عمليات هجومية كبيرة ومستمرة عام 2024 ستكون محدودة. بالتالي سيكون ذلك مؤشراً رئيساً علينا مراقبته.
لقد تسبب طلب الجيش الأوكراني تجنيد ما بين 450-500 ألف جندي إضافي بتوتر بلغ ذروته بين الرئيس فولوديمير زيلينسكي والقائد العام لقواته الجنرال المحبوب فاليري زالوجني. وتقوم أوكرانيا بالفعل بإنفاق أكثر من ثلث ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، والسؤال هو ما إذا كان بالإمكان تحمل تكاليف هؤلاء الجنود الإضافيين.
وبعدما قام زيلينسكي بإقالة زالوجني لا يزال قانون تجنيد جديد قيد المناقشة. الخوف هو أنه بينما يصبح التجنيد صارماً وشاملاً أكثر فأكثر، قد يؤدي ذلك - على حد تعبير دبلوماسي أوروبي مقيم في كييف - إلى "تقويض الروح المعنوية الأوكرانية، بل وقد يجعل نوعاً من الاتفاق مع بوتين أقل استحالة للتصور".
للنصر والهزيمة معان مختلفة الآن
هناك حديث بلا معنى يثار في كثير من الأحيان عن الانتصار والهزيمة. في بداية الحرب، عندما كانت القوات الروسية تتقدم نحو كييف، كان من السهل نسبياً تعريف النصر والهزيمة، مثلاً بقاء أوكرانيا كأمة مستقلة وذات سيادة مهدد بشكل مباشر. بعد عامين، بفضل التحدي الاستثنائي للشعب الأوكراني، أصبح تحديد أي منهما أصعب من ذلك بكثير.
هل الانتصار الأوكراني يقتصر على طرد كل جندي روسي من كل شبر من الأراضي المحتلة، بما فيها شبه جزيرة القرم؟ لن تكون تلك بمهمة يسيرة، بل إنها لن تنتهي بالضرورة بحلول الحرب، بل ستنقل خط المواجهة ببساطة إلى الحدود الوطنية.
سيظل بوتين حراً في إعادة تجميع قواته من أجل هجوم آخر فيما يقذف الطائرات المسيرة والصواريخ على المدن الأوكرانية وخطوط الكهرباء.
هل تعني الهزيمة الأوكرانية إخضاع الأمة؟ يبدو هذا أمراً مستبعداً للغاية الآن بعد أن تكبدت قوات روسيا مثل هذه الخسائر الفادحة. إن أسوأ السيناريوهات، وفقاً للاستراتيجيين البريطانيين والأوكرانيين على حد سواء، هو أن تتمكن روسيا من التقدم إلى نهر دنيبرو الذي يخترق البلاد، واحتلال الشرق بأكمله.
سيكون هذا أمراً مروعاً، خصوصاً للأوكرانيين العالقين في الأراضي التي تسيطر عليها روسيا، لكنه لن يدمر الأمة الأوكرانية.
وفي الوقت الحالي، تلتزم أوكرانيا رسمياً بالمفهوم الأقصى للنصر، لكن حتى في كييف هناك أصوات هادئة تعترف بأن البلاد قد تواجه معضلة رهيبة: مواصلة الحرب إلى أجل غير مسمى أو قبول خسارة بعض الأراضي للتمكن أخيراً من المضي قدماً، لا سيما بعد الحصول على عضوية حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
وكما اعترف أحد المسؤولين "لسنا قاب قوسين أو أدنى من هذا الأمر على الإطلاق، لكن قد نضطر يوماً ما أن نقرر إذا كانت أرواح الأوكرانيين أهم من الأراضي الأوكرانية".
لن يكون ذلك بالقرار السهل. فقد استبعد زيلينسكي أي تنازلات، بل من شأن ذلك أن يتعارض مع الدستور، على رغم وجود طرق للالتفاف على ذلك – كألا يجري الاعتراف رسمياً بأية مطالبات روسية بالأراضي المحتلة.
ومع ذلك، ونظراً إلى عدم إمكان وجود استراتيجية ذات مغزى من دون وجود تصور واضح للهدف، بات من السوي أن نشهد في هذا العام الثالث من الحرب مناقشات حذرة وسرية تهدف إلى تحديد ما تعتبره كييف وشركاؤها الغربيون نجاحاً منطقياً وقابلاً للتحقيق.
الدكتور مارك غاليوتي هو مؤلف كتاب "حروب بوتين: من الشيشان إلى أوكرانيا" Putin’s Wars: From Chechnya to Ukraine وأصبح متاحاً بنسخة ورقية
© The Independent