ملخص
من خرائب أوكرانيا إلى آثار أفريقية ثم فرس البحر والحب العائد من الموت
تهيمن الغرابة ويسيطر الغموض على مجموعة لا بأس بها من الأفلام المعروضة هذا العام في مهرجان برلين السينمائي (15-25) فبراير (شباط) الجاري، سواء داخل المسابقة أو خارجها، حتى ليمكن الاعتقاد أن المدير الفني كارلو شاتريان الذي يتنحى بعد الدورة الحالية أخذ مجده واختار ما يحلو له، وهو يعلم أن ما من محاسبة أو تداعيات لخياراته، فبقاؤه ما عاد رهناً باختياراته والنحو الذي يتم استقبالها. هذا الذي اتهم بتحويل برلين إلى "لوكارنو ثان" (تولى إدارة الأخير طوال ست سنوات)، جاء بعديد من الأفلام التي لا نعلم حتى إن كانت ستجد شاشات تجارية لعرضها، بعد مرورها من ساحة بوتسدامر، لشدة خروجها عما ألفته عيون المشاهدين. والغرابة لا تعني دائماً تميزاً. أحد الظرفاء علق قائلاً إن مهرجان برلين هو الوحيد الذي يجعل آلاف الصحافيين يجلسون في الساعة التاسعة صباحاً داخل صالة لمشاهدة صخور تتدحرج، وهذا في إشارة إلى فيلم "اركيتكتون" للمخرج الروسي فيكتور كوساكوفسكي، المعروض في المسابقة، الذي يتيح لنا القيام برحلة استثنائية عبر المواد التي تشكل موطننا: الخرسانة وأسلافها الحجرية، ويطرح المخرج من خلال هذا الوثائقي المهموم بالبيئة وحمايتها من شر الطبيعة البشرية، سؤالاً جوهرياً: كيف سنعيش في عالم الغد؟
أما كيف أن فيلماً روسياً شق طريقه إلى المهرجان الذي كان حظر السينما الروسية بعد عدوان بوتين على أوكرانيا، فيجب التذكير أن كوساكوفسكي من أشد المعارضين لسياسة رئيسه، ويقول في مقابلة: "صورت في الفيلم المدن الأوكرانية التي دمرتها الصواريخ الروسية. هذه الآثار أوضح من أي وثيقة، وترينا ما حدث هناك ومن أين انطلقت الصواريخ. بدأنا بتصوير الآثار القديمة. نحن لسنا الحضارة الأولى على هذه الأرض. أعتقد أن الحضارات التي سبقتنا ستبقى هنا إلى الأبد، تماماً كما نعتقد ونتصرف نحن الآن. لكنها انقرضت، بسبب الحروب والأوبئة والفيضانات وغيرها. يشن البشر بشكل منظم الحروب بعضهم على بعض، ويصنعون أعداء مع صعود المدن وهبوطها. ولكن هناك حرباً أخرى تجري الآن: حرب البشر ضد الطبيعة، وهو أمر لا ينبغي أن يمر من دون أن يلاحظه أحد".
فيلم آخر يتمسك بالغرابة على المستويين الشكلي والمضموني: "داهوميه" (مسابقة) للمخرجة الفرنسية السنغالية ماتي ديوب التي تصور رحلة مجموعة من التماثيل والآثار والتحف التي قررت الدولة الفرنسية إعادتها إلى جمهورية بنين، بعدما كانت استولت عليها أيام الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية. إلى هنا، كل شيء عادي، ولكن في لحظة معينة تبدأ التحف بالتحدث عن تاريخها ورؤيتها للأشياء، وهي تقوم برحلتها من متحف باريسي إلى القصر الرئاسي في كوتونو، حيث يستقبلها حشد كبير. هناك مستويان في الفيلم: الأول تحاول عبره ديوب إنجاز عمل خرافي يرتقي بالحدث إلى مرتبة الميثولوجيا، حيث ثمة ربط بين الحاضر والماضي، في حين يتمحور الثاني على السجال الذي تثيره عودة التحف إلى موطنها، علماً أن هناك الآلاف منها لم تستردها بنين بعد. وهذا نقاش يثير آراء متضاربة بين الطلبة في إحدى الجامعات حيث تموضع ديوب كاميراها. لا يكفي أن يعود التراث الأفريقي الفني إلى بيئته الطبيعية، بل هناك كثير مما يجب أن نفعله في هذا المجال. هذا ما تقوله المخرجة التي تقدم فيلماً وثائقياً فيه كثير من الفانتازيا والارتواء من ينبوع الأساطير، ولا يسلم نفسه ألبتة إلى الرؤية والمعالجة التقليدية، أما إذا كان مكانه في المسابقة، فهذا نقاش آخر.
شيء من الأسطورة يعبر أيضاً فيلم "پيپيه" (مسابقة)، للمخرج الدومينيكاني نيلسون كارلو دو لوس سانتوس أرياس. يحمل هذا النص الغرائبي الدلالات والرمزيات التي تجمع الأماكن والأفكار في توليفة سينمائية عجيبة جداً تضلل المشاهد. فرس البحر هو الشخصية الرئيسة، إلى جانب شخصيات أخرى، تدخل الكادر وتخرج منه من دون أن نفهم ما مشكلتها في الحياة، وماذا تريد منا تحديداً. كثر لم يفهموا شيئاً من هذا العمل الذي تشكل مشاهدته تحدياً وضياعاً تاماً في آن واحد. "صوت يدعي أنه ينتمي إلى فرس البحر. صوت لا يفهم إدراك الزمن. پيپيه، فرس البحر الأول والوحيد الذي قتل في الأميركتين، يروي قصته". هكذا يلخص الفيلم الكاتالوغ، لكن على الشاشة، ثمة حكاية أخرى.
إلا أن ذروة الغرابة هي تلك التي بلغها المخرج الفرنسي برونو دومون واكتشفناها في فيلمه الأحدث "الإمبراطورية" (مسابقة). دومون كان دائماً متنوعاً في خياراته، بمعنى أنه انتقل من نوع سينمائي إلى آخر "تفادياً للملل"، كما قال في مقابلة جمعتني به أمس. لكن هذه المرة يذهب أبعد من أي وقت مضى في إطلاق العنان لمخيلته الخصبة والضارية. تجري الأحداث في ريف بعيد على البحر، وهو مسرح لعديد من أفلامه السابقة. إنه مكان يعرفه جيداً ويجيد التعامل معه، سكان الريف من الصيادين متجذرين في بيئة محلية، لغة ومنطقاً وتصرفات. صراع بين الخير والشر يقع في هذه القرية، يتورط فيها سكانها، فينقسمون بعضاً على بعض، وتدور معركة، لكنها ستكون على طريقة دومون، أي لا شيء مألوفاً فيها.
رحلة إلى أقاصي الجنون تخيلها مخرج "حياة يسوع" في عمله هذا الذي يتجاوز كل منطق، بل يملك منطقه الخاص في التعامل مع الأشياء. توقعوا رؤية ما يشبه الصحون الطائرة والمركبات الفضائية وكاتدرائيات تسبح في الفضاء وبالونات مطاطية تنطق وتأمر وتذكي الصراع القائم. يحدث هذا كله في ضوء بهلوانات الممثل فابريس لوكيني الذي استوحى دومون الزي الذي يرتديه من لوي جوفيه في دور دون جوان!
حتماً، لا نفهم كل التفاصيل، لكن لا بأس، ليس هذا المطلوب من المتفرج، هناك دائماً جانب من الغموض والظلال في أعمال هذا السينمائي، وهذا ما يصنع سحرها، لكن الأهم هو الاستمتاع بالمشهدية العريضة التي يضعها دومون أمامنا. لا يهتم بالصح والصواب، عالمه غير واقعي تماماً، ولا يوظف الفن لأهداف اجتماعية نبيلة، بل كل ما يهمه هو أن يبث الفوضى طوال ساعتين، انتقاماً من عديد من الأفلام الأميركية التي، على حد قوله، تنمط الصراع بين الخير والشر، خصوصاً في سينما علم الخيال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في فيلمه الأبوكاليبتي هذا، يقول ما تقوله تلك الأفلام الأميركية، ولكن بلغته الخاصة وأساليبه المختلفة. يعلق قائلاً "لي عالمي السينمائي، لذلك ما كنت مهتماً به، هو أن أجدد من خلال إدخال عالم جديد إليه، وهذا العالم الجديد هو السينما المضادة لسينماي. إنها السينما الأميركية الترفيهية. وهما لا تلتقي إحداهما بالأخرى، تتحدثان عن شيء واحد، لكن كل بطريقتها الخاصة، وما كان يهمني هو أن أصنع مواجهة بينهما، كي أراقب ما الذي سيحدث بعد ذلك".
لا يمكن عزل هذه الغرابة التي تلقي بظلالها على أفلام المهرجان عن التطور التكنولوجي الحاصل أو الذي يتخيله السينمائيون الرؤيويون. وهذا ما نراه في "نهاية أخرى" (مسابقة) للإيطالي بيارو ميسينا. منذ أن فقد سال حبيبته زوي، أصبح يعيش فقط في ذكرياته: الذكريات كشظايا مرآة مكسورة لا يمكن جمعها مرة أخرى. لكن، ثمة تكنولوجيا باتت تتيح تخفيف آلام الانفصال من طريق إعادة الفقيد إلى الحياة لفترة وجيزة. ما تم كسره فجأة، يجتمع مرة أخرى. ولكنه فرح هش، عابر، بل وغادر.