عقود طويلة مضت على الشابة الصغيرة التي كانت تواظب في خمسينيات القرن الفائت على تعلم الغناء والموشحات والقدود في "مدرسة النضال العربي" في حلب. هناك تعلمت ثناء دبسي (1941-2024) أيضاً رقص السماح والرقصين الشرقي والشركسي، وحلمت أن تصير مطربة. ومع أنها لم تفكر في يوم أنها قد تصبح ممثلة، لكن ومع ندرة الفتيات اللاتي كن يشتغلن في التمثيل آنذاك، شاركت دبسي مع شقيقتها الفنانة ثراء دبسي في عروض كانت تقدمها "فرقة نادي المسرح الشعبي" برفقة كلٍ من أحمد عداس وعمر حجو وبهجت حسان وحسن بصال، فقدمت أول عروضها على "مسرح دار الكتب الوطنية" في عاصمة الشمال السورية.
وبعد هجرة معظم فناني مدينة حلب إلى دمشق في عام 1960، انتقلت دبسي هي أيضاً للعمل على مسارح عاصمة بلادها، وشاركت برفقة كلٍ من نهاد قلعي وعبد اللطيف فتحي ورفيق الصبان ومحمود جبر في تأسيس المسرح القومي، وكان أول عرض مسرحي لعبت بطولته بعنوان "شيترا" عن نص لشاعر الهند طاغور.
تاريخ هذه السيدة كان مسرحياً بحق، فعناوين العروض العديدة التي قامت ببطولتها تشهد على ذلك، فمن أدائها لشخصية "ريجينا" في مسرحية "الأشباح" لهنريك إبسن مع الفنان رفيق سبيعي، لعبت ثناء دبسي بطولة العديد من العروض، وكان من أبرزها مسرحيات "رجل القدر" عن نص لبرنارد شو، و"مروحة الليدي وندرمير" لأوسكار وايلد، و"أنتيغون" لجان أنوه، و"الأخوة كارامازوف" لديستويفسكي، إضافةً لعروض مثل: "الحيوانات الزجاجية" لتينسي وليامز، و"الملك لير" لشكسبير، و"الأشجار تموت واقفة" لأليخاندرو كاسونا، و"البخيل" لموليير، و"عرس الدم" للوركا وغيرها الكثير.
ثم توقفت نجمة المسرح القومي عن العمل على الخشبة عام 1978، وغابت لأكثر من اثنين وعشرين عاماً، وذلك لأنها رفضت أن تعامل كموظفة عليها أن تنجز حجم عمل وتشارك في عروض متواضعة، فآثرت الاشتغال مع فرقة "المسرح الجوال" التي كانت تجوب المدن السورية، لتعود عام 2000 إلى الخشبة مع صهرها الفنان ماهر صليبي في عرض من إخراجه حمل عنوان "تخاريف" إلى جانب الفنان الفلسطيني الراحل عبد الرحمن أبو القاسم.
تاريخ درامي
عملت دبسي في إذاعة دمشق مع مؤسس الدراما الإذاعية في سورية الراحل مروان عبد الحميد، وسجلت عشرات الساعات معه، ولا يزال أرشيف إذاعة دمشق يحتفظ لهذه المرأة بأرشيف خاص بصوتها. هناك تعلمت وراء الميكروفون أساليب النطق الصحيح، وتتلمذت على أستاذها في اللغة العربية جورج السيوفي، فاتسع خيالها وتدربت أنفاسها على فن النطق والصمت، وشحن الصوت بالعاطفة وإلباسه سمات الشخصية بالنسبة لمخيلة المستمع.
بداياتها في التلفزيون السوري كانت حذرة، ومع أنها كانت من الممثلات المؤسسات للدراما التلفزيونية السورية، إلا أنها عملت في البداية في مجال ما أطلق عليه يومها بـ "المسرح التلفزيوني" تحت إشراف المخرج الراحل سليم قطايا، وهو مسرح يتم تصويره في استوديو كما لو أنه يقدم أمام جمهور، وذلك لصعوبة إعادة التصوير في ذلك الوقت. ومن تلك التجارب التي لعبت ثناء بطولتها في هذا المجال الذي دمج التلفزيوني بالمسرحي: "المستوصف"، "عشاء الوداع"، و"رجل الشمع"، و"القناع"، و"راكبو البحار". ورغم خصوصية هذا النوع من الفن إلا أن الأشرطة التي تم تسجيل هذه الأعمال عليها تم فقدانها أو التسجيل عليها، ولم يعثر إلا على عمل واحد قام التلفزيون بإهدائه للتلفزيون المصري أيام دولة الوحدة.
في بداية السبعينيات من القرن الفائت، ومع عودة بعض المخرجين الذين أوفدتهم الدولة السورية للدراسة في الخارج، عملت ثناء مع المخرج الراحل علاء الدين كوكش في مسلسلات عديدة منها: "الأميرة الخضراء"، و"حارة القصر"، و"زينة"، و"الانتظار". واشتغلت مع المخرج الراحل غسان جبري في مسلسله "الفندق". ورغم توقفها عن العمل لمرات عديدة بسبب تفرغها لرعاية أسرتها بعد زواجها من الفنان سليم صبري، إلا أن ذلك لم يمنعها من المشاركة في أعمال درامية عربية حققت لها الانتشار الواسع، فاشتغلت مع التلفزيون المصري في مسلسل "المتنبي" إلى جانب أمينة رزق وأحمد مرعي، وقدمت في الأردن أعمالاً وصفت نقدياً آنذاك بالمهمة والمختلفة مثل: "الميراث"، و"القفص"، للمخرجين عروة زريقات وصلاح أبو الهنود، و اشتغلت مع المخرج اللبناني الراحل أنطوان ريمي في مسلسلي "شجرة الدر" و"صبح والمنصور".
سينما ومسرح
وسجلت دبسي في تاريخها السينمائي أدواراً لا تنسى في أفلام عديدة، منها: "المخدوعون" عام 1973 مع المخرج المصري توفيق صالح، وفيلم "قيامة مدينة" عام 1989 للمخرج الفلسطيني باسل الخطيب، وفيلم "اللجاة" عام 1993 للمخرج السوري رياض شيا، ولعبت دور البطولة في فيلمين روائيين قصيرين من إخراج ماهر صليبي. الأول كان بعنوان "حدوتة مطر"، أما الثاني فجاء بعنوان "شوية وقت" (إنتاج المؤسسة العامة للسينما).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مطلع تسعينيات القرن العشرين ومع فورة الفضائيات العربية عادت الفنانة الراحلة للحضور بقوة في أعمال الدراما التلفزيونية السورية، لكن هذه المرة كان عملها مع القطاع الخاص، فأعادها دور "الحاجة أمون" في مسلسل "الثريا" لمؤلفه نهاد سيريس ومخرجه هيثم حقي، إلى واجهة المشهد الفني، لتتابع بعد ذلك مسيرتها في أدوار عديدة لعبت فيها شخصية الأم، كما في مسلسلات "سيرة آلا الجلالي" و"ذكريات الزمن القادم" للمخرج هيثم حقي، و"عصي الدمع" لمخرجه حاتم علي، و"غزلان في غابة الذئاب" و"زمن العار" و"بنات العيلة" لمخرجته رشا شربتجي.
ظهرت ثناء دبسي بعد هذه الأعمال في شكل متفرق في مسلسلات حاولت من خلالها أن تبتعد عن الأدوار الفجائعية، والتي كرسها فيها بعض المخرجين، فقدمت تجربة خاصة في مسلسل "ترجمان الأشواق" مع المخرج محمد عبد العزيز، ومسلسل "وراء الشمس" لمخرجه سمير حسين، إلا أنها بقيت غير راضية عن الصورة النمطية لدور الأم في أعمال الدراما التلفزيونية السورية، وهذا ما صرحت به غير مرة في مقابلاتها الإعلامية والصحفية.
رحلت ثناء دبسي في منزلها في دمشق عن عمر ناهز 83 عاماً بعد معاناتها من مرض عضال، ونعتها نقابة الفنانين السوريين ووزارة الثقافة السورية، وكتب العديد من زملائها في الوسط الفني في رثائها على حساباتهم الشخصية في فيسبوك، ومنهم المخرج محمد عبد العزيز: "عن شجرة الحياة اليانعة، عن النبل عن الفرادة عن الكلمة بمداها وعمقها وقدسيتها، عن النقاء عن الحب والجمال والحرية والنزاهة. عن ثناء دبسي الباقية في ذاكرة الروح (...). أنارت وستنير الشاشات وخشبات المسارح، شكراً لأنكٍ منحتِ للحياة قيمها وقيمتها... وداعاً ثناء".