منذ أن وقعت كل من إثيوبيا وإقليم أرض الصومال مذكرة التفاهم الخاصة باستفادة الأولى من منفذ بحري على الشواطئ الصومالية في خليج عدن، والعلاقات الثنائية بين أديس أبابا ومقديشو تشهد فصلاً جديداً من الخلافات، إذ قادت الأخيرة نشاطاً دبلوماسياً وسياسياً مكثفاً لدى المحافل الدولية والإقليمية لإجهاض الاتفاق الذي تم توقيعه مع جهة غير معترف بها دولياً.
والواقع أن الخلافات الصومالية - الإثيوبية لم تبدأ حديثاً، إذ إن ثمة أسباباً تاريخية ظلت لفترة طويلة تقف عقبة أمام سياسات حسن الجوار بين البلدين الواقعين في القرن الأفريقي، كما أسهم ذلك في دخول البلدين بحرب مفتوحة منتصف ستينيات القرن الماضي.
فما الأسباب الأساسية لهذا الخلاف التاريخي بين البلدين المتجاورين؟
ذكر المؤرخ الصومالي محمد مختار أن الخلاف المعاصر بين الصومال وإثيوبيا بدأ في العهد الاستعماري، عندما قررت بريطانيا عام 1839 إقامة حامية عسكرية لها بغرض تأمين طرق لوجستية لمستعمرتها في عدن، فاقتطعت جزءاً من الصومال وأطلقت عليه "الصومال البريطاني"، مما دفع فرنسا إلى احتلال جزء آخر عام 1860 عرف باسم "الصومال الفرنسي"، وفعلت إيطاليا الأمر نفسه فأقامت كذلك صومالاً ثالثاً يطلق عليه اسم "الصومال الإيطالي".
وأكد مختار أن روما، في إطار سياساتها التوسعية، اجتاحت منطقة أوغادين (منطقة بين شرق إثيوبيا وغرب الصومال) التي ظلت خاضعة للسيطرة البريطانية وملحقة بإثيوبيا، وضمتها إلى المناطق التي تحتلها شرق أفريقيا، ليجد الصوماليون أنفسهم مقسمين بين ثلاث قوى استعمارية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وانسحاب إيطاليا من مستعمراتها السابقة، كان أمام الصوماليين، أسوة بالمستعمرات الأفريقية الأخرى، فرصة إعلان الاستقلال وتشكيل دولة صومالية واحدة، وهذا ما جرى عام 1960، إذ توحد الصومال الإيطالي والبريطاني، فيما استقلت جيبوتي (الصومال الفرنسي سابقاً) بذاتها، وبقي إقليم أوغادين الصومالي خاضعاً للسيادة الإثيوبية، مما أدى إلى اندلاع حرب مفتوحة بين إثيوبيا والصومال بذريعة استعادة الإقليم الصومالي بالنسبة إلى الأخيرة، في حين سعت إثيوبيا إلى تأكيد أحقيتها التاريخية واستمرت الحرب ثلاثة أعوام (1964 -1967).
وأوضح المؤرخ الصومالي أن بلاده تحوّلت خلال عقد الستينيات من القرن الماضي إلى ساحة معركة للقوى الدولية في إطار ما كان يُعرف بالحرب الباردة، إذ دعمت الولايات المتحدة حليفتها إثيوبيا بالمال والسلاح والتأييد السياسي في المحافل الدولية، بينما وقف الاتحاد السوفياتي والصين وراء النظام الماركسي الذي كان سائداً في الصومال، وقدمتا له المال والسلاح.
الحرب بالوكالة
ونوّه مختار إلى أن "الحرب بالوكالة" التي جرت على حدود البلدين أنهكت العاصمتين أمام فتور الدعم الدولي لهما، مما أدى إلى "هدنة باردة" بينهما، حتى وصول محمد سياد بري إلى الحكم في مقديشو، إذ قرر تبني سياسة جديدة تهدف إلى نقل المعركة لداخل العمق الإثيوبي، من خلال تقديم الدعم المالي والتدريب العسكري لمواطني إقليم أوغادين والمطالبين بعودته للسيادة الصومالية، مما أسفر عن اندلاع حرب جديدة عام 1977 بين نظام بري ومنغستو هيلا مريام في إثيوبيا، لكن عبر أذرع مسلحة يدعمها الطرفان، ولكن قبل أن يتوصلا إلى اتفاق سلام بينهما عام 1988 والذي أوقف الحرب مدة عامين، قبل أن تسهم أديس أبابا بدعم ما يعرف بـ "الميليشيات الوطنية" التي نجحت في إسقاط نظام سياد بري عام 1991، مما أدى إلى تحلل الدولة الوطنية الصومالية ليعيش هذا البلد الممتد على خليج عدن ثلاثة عقود من الفوضى في غياب الدولة المركزية.
وقدّر المؤرخ الصومالي أن انهيار النظام المركزي في مقديشو وتحكم أمراء الحرب في مصير ومقدرات هذا البلد، أسقطا موازين القوى التي كانت سائدة في منطقة القرن الأفريقي، مما جعل أديس أبابا من أكثر المستفيدين من هذا الواقع الجديد، إذ ظلت تدعم القوى المتناقضة داخل الصومال.
أرباع دولة
ورأى مختار أن نظام سياد بري، على رغم ديكتاتوريته، ظل محافظاً على وحدة أراضي الدولة الصومالية، وانهياره تسبب بتشرذم الصومال بين أربعة أقاليم، وهي مقديشو (الصومال الإيطالي سابقاً) وأرض الصومال (الصومال البريطاني) إلى جانب جوبا لاند وبونت لاند، وادعى كل منها استقلاله عن الجمهورية الصومالية في غياب أي اعتراف دولي معلن، لكن بدعم إثيوبي خفي.
وعلى رغم العودة الرمزية لجمهورية الصومال الفيدرالية بمساهمات دولية وإقليمية، وعلى رأسها جهود دولة جيبوتي، الهادفة إلى لملمة أشلاء الدولة الصومالية، وما تبع ذلك من استحقاقات انتخابية (برلمانية ورئاسية) وتعاقب الأنظمة المنتخبة على مقديشو، فإن الأقاليم الثلاثة ظلت في معزل عن العاصمة المركزية للصومال التاريخي.
وشكلت عودة الصومال بقوة للمحافل الدولية، بخاصة بعد انتخاب عبدالله فرماجو رئيساً للصومال، ثم وصول حسن شيخ محمود وما عكسته سياساتهما على المحيطين الدولي والإقليمي من ديناميكيات سياسية ودبلوماسية، مما أقلق أديس أبابا التي قررت التعاطي بشكل جديد من خلال توقيع مذكرة تفاهم مع رئيس "جمهورية صوماليلاند"، تضمن لإثيوبيا منفذاً بحرياً على خليج عدن مقابل اعتراف الأخيرة باستقلال الأولى.
صفقة المصالح المشتركة
من جهته، رأى المحلل الصومالي عيدي محمد أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وعلى رغم تعهداته تجاه استقرار الصومال وعقده اتفاقات عدة مع الرئيس السابق عبدالله فرماجو، وتبشيره بعهد جديد في القرن الأفريقي، في إطار تحالف ثلاثي يضم إثيوبيا والصومال وإريتريا، فإن إدارته لم تتخلَّ عن دعم الجمهوريات الانفصالية في "صوماليلاند" وبونت لاند وجوبا لاند، مضيفاً أن انتهاء الحرب في إقليم تيغراي الإثيوبي بطريقة لم ترضِ حلفاء آبي أحمد في كل من إريتريا والصومال، دفعته إلى تبني سياسات مناقضة لتلك التي ظل يبشر بها في الخطابات الرسمية عن وحدة الأراضي الصومالية.
وقدّر محمد أن تكون أديس أبابا حصلت على تعهدات أميركية بدعم مطالبها في إيجاد منفذ بحري على خليج عدن أو البحر الأحمر مقابل إنهاء الحرب المدمرة في الإقليم الشمالي، في حين أن حكومة "جمهورية صوماليلاند" ظلت قلقة من التحركات التي تقودها مقديشو على المستويين الدولي والإقليمي، وتسعى بصورة حثيثة إلى الحصول على الاعتراف الدولي بها، مما قد يدفعها إلى التنازل عن جزء من شواطئ الصومال مقابل تحقيق هذا الهدف.
الدولة الحبيسة
بدوره، رأى المتخصص في الشأن الإثيوبي محاري سلمون أن إدارة آبي أحمد أدركت منذ البدء أن الاعتماد على منفذ بحري أجنبي واحد لن يحقق الأهداف التنموية لبلاد تجاوز تعدادها السكاني أكثر من 100 مليون نسمة، كما أن تطلعات رئيس الوزراء الإثيوبي تتجاوز واقع الدولة الحبيسة، إذ إنه يسعى إلى أن يتحول إلى قائد محوري في هذه المنطقة، ويشارك بصورة فاعلة في صياغة التحالفات الدولية القائمة في حوض البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وهذا يتطلب بالضرورة تشكيل قوة عسكرية بحرية فاعلة، بخاصة أن دولة جيبوتي تستضيف أكثر من خمس قواعد عسكرية أجنبية.
وأوضح أن هذا الأمر يمثل جزءاً من الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، إذ ترى واشنطن في أديس أبابا حليفة تاريخية واستراتيجية للغرب في المنطقة، وقد لا تتوانى عن دعم تطلعاتها في إيجاد منفذ بحري يسهم على المستوى البعيد في حماية المصالح الأميركية في المنطقة.
ورأى سلمون أن التداعيات التي أعقبت توقيع مذكرة التفاهم بين أديس أبابا وهرجيسا (عاصمة صوماليلاند)، بخاصة على المستوى الدولي، لا سيما دعم دول مثل بريطانيا وروسيا مواقف الصومال الداعية إلى احترام سيادته ووحدة أراضيه، قد فاجأت الإدارة الإثيوبية التي ظلت تعتقد بأن الموافقة المبدئية لواشنطن كافية للحصول السلس على المنفذ البحري والاندماج في سياسات البحر الأحمر، مؤكداً أن انشغال القوى الدولية بتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية والحرب في غزة قد لا يدخل مسألة ضمان المنفذ البحري لإثيوبيا في الأجندات الدولية التي تحظى بالأولوية، كما أن الاحداث التي تهدد الملاحة الدولية في باب المندب ألقت بظلالها على استراتيجيات القوى الدولية الكبرى، مما يجعلها حذرة تجاه أي صراع جديد في هذه المنطقة.