Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"التموين"... كبش فداء وصمام أمان في مصر

الوزير علي المصيلحي أصبح الأشهر في حكومة مدبولي بعدما طاولته سهام الانتقاد من البرلمان والشارع

وزير التموين المصري علي المصليحي أثناء افتتاحه أحد معارض أهلاً رمضان للسلع الغذائية (الصفحة الرسمية للوزارة على فيسبوك)

ملخص

في الأزمة الاقتصادية الطاحنة الحالية لا سيما في ما يتعلق بأسعار السلع الغذائية، تضاءل الحديث عن "الحكومة" وصار موجهاً صوب أشخاص بأعينهم على رأسهم وزير التموين علي المصيلحي

المنافس الوحيد لتصريحات وقرارات وزير التموين والتجارة الداخلية المصري علي المصيلحي في الكثافة والتواتر هذه الأيام هو كم الغضب الشعبي والمساءلة البرلمانية والسكوت الرسمي غير المعهود على صب جل الغضب وتوجيه كل السخط إلى الوزير.

الوزير علي المصيلحي أصبح الأشهر في الحكومة المصرية، لكنها شهرة من نوع غريب. فلا هي محمودة أو مرجوة، ولا ترتبط بالضرورة بمعرفة اسم الوزير، أو مدة بقائه في منصبه، أو نوعية الملفات التي تقع ضمن مسؤوليته.

جرى العرف المصري الشعبي على مدى عشرات العقود على أن يجري توجيه الغضب صوب "الحكومة"، واعتبارها المسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة يعانيها بما في ذلك دور الزكام وتعب "المدام"، وبالطبع جنون الأسعار وارتفاع الدولار وجشع التجار. إنها "الحكومة" في مقابل الشعب، حتى حين تداهم الشرطة وكراً للمخدرات، أو تنتشر في الشوارع لتأمين المنشآت يشير إليها المواطن باعتبارها "الحكومة".

لكن، في الأزمة الاقتصادية الطاحنة الحالية، لا سيما في ما يتعلق بأسعار السلع الغذائية، فقد تضاءل الحديث عن "الحكومة"، وصار موجهاً صوب أشخاص بأعينهم في الحكومة، على رأسهم وزير التموين، الذي أصبح المصريون يلقبونه بـ"الوزير".

على رأس الوزير

94 طلب إحاطة وسبعة أسئلة برلمانية دقت على رأس "الوزير" المصيلحي في أسبوع واحد الشهر الماضي. وعلى رغم شعور عام يعتري كثراً بأن مجلس النواب (البرلمان) يعمل في صمت أو سرية، وأن هالة من الغموض تحيط بجلساته وما يجري فيها، بل وتلويح البعض بأن البرلمان في حكم الميت إكلينيكياً، فإن الأخبار المتداولة عن كثافة تحرك البرلمان ونوابه ضد "الوزير" تلقى شعبية ومتابعة ومباركة.

الشعبية بين الناس، والمتابعة من نصيب الإعلام، والمباركة كما يلوح خبثاء من قبل الدولة. السنوات الماضية شهدت تقلص هوامش النقد الإعلامي والاعتراض العلني الشعبي للمسؤولين. الأسباب كثيرة وغير متفق عليها. فبين ضرورة الحفاظ على الأمن العام والسلم الاجتماعي من قلاقل الاعتراض وكروب الاحتقان مما استدعى تضييق هوامش التعبير، واستيعاب عام بأن ما يجري في العالم من حروب وصراعات وتوابع وباء كورونا مما يعني قدراً أوفر من الصبر والتحمل، وجهود "تنظيم" الإعلام بشكل يضمن وحدة الرسالة، وتناغم الأهداف وتطابق الخطاب بعيداً من الانتقاد والهجوم، تراوحت الأسباب التي قلصت هوامش الاعتراض على الأوضاع الاقتصادية، واستهجان ما بدا أنه إما تجاهل رسمي، وإما فشل حكومي.

مبادرات الحماية

باستثناء الرئيس عبدالفتاح السيسي وسلاسل مبادرات الحماية الاجتماعية التي يدشنها وحديثه المستمر عن إدراكه ما يتحمله المواطن المصري، إضافة إلى تصريحات رئيس الوزراء مصطفى مدبولي المشيرة إلى قرارات الرئيس، يسود شعور عارم بين المصريين إنهم ومشكلاتهم الاقتصادية المتفاقمة في واد، و"الحكومة" في واد آخر.

اختلاف الوديان ربما يكون ناجماً عن تقلص حضور "الحكومة" في جهود حل الأزمة أو التخفيف منها، تزامناً مع تفاقمها يومياً وليس شهرياً أو حتى أسبوعياً. وقد يكون سببه كما يشير البعض حاجة المواطن إلى قدر أوفر من الوعي بما يجري حول مصر من أزمات متواترة تضع البلاد في خانة "اليك" والعباد في مرمى العك العنكبوتي.

عنكبوتياً، يتابع قطاع عريض من المصريين من شتى الفئات والطبقات ما تنضح به منصات الـ"سوشيال ميديا" من محتوى بات بعضه متخصصاً في الهبد السياسي والرزع الاقتصادي. المنصات، كما هي عامرة بتدوينات وتغريدات وفيديوهات مناصرة للرئيس وللدولة في المحن التي تحيطها من كل جانب، ممتلئة أيضاً بكم غير قليل من فيديوهات لسيدة في كامل زينتها تعلن أنها ستصرخ الآن من شدة الضغط الاقتصادي والارتفاع الجنوني للأسعار، وأخرى لصانعي محتوى لهم قنواتهم ومنصاتهم التي يدلون فيها بدلوهم (بغض النظر عن مدى ارتكاز الدلو على معرفة أو خبرة) في الوضع الاقتصادي، وأوجاع الناس المعيشية وآلامهم اليومية.

في هذا المحتوى الصاخب الذي ينتشر على مدى الساعة انتشاراً يليق بثقل الأزمة، تختلط الآهات الحقيقية بالمحتوى المصنوع من قبل أتباع جماعات هنا، أو لجان إلكترونية مأجورة من جهة، أو كيان هناك هدفه الصيد في مياه الأزمة الاقتصادية العكرة، أو آهات صادقة من وجع الغلاء.

صخب متصاعد

هذا الصخب المتصاعد طردياً مع تصاعد الأزمة الاقتصادية ظل مصحوباً على مدى الأشهر الماضية بتأكيدات متعددة مصرة على أن "الوضع تحت السيطرة"، أو أن "الأزمة سيجري حلها بعد ستة أشهر أو ثمانية أو تسعة أو سنة أو ست"، أو أن "الدولة قادرة على جعل مصر ضمن أفضل 30 اقتصاداً في العالم بحلول عام 2030". حتى قناة السويس، ظلت التصريحات الرسمية حتى أسابيع قليلة مضت تؤكد أن حركة الملاحة "لم تتأثر" بالأحداث الدائرة في البحر الأحمر على وقع حرب القطاع.

قطاع من المصريين وقع في حيرة من أمره. التأكيدات الرسمية تشير إلى أن الوضع تحت السيطرة، وأن الأزمة إلى زوال، لكن الحال في محال السوبرماركت ومحال الخضراوات والفواكه وغيرها تشير إلى أن الوضع إما أبعد ما يكون عن السيطرة أو تحت السيطرة فعلاً، لكن سيطرة التجار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قطاع آخر وجد في منظومة "كباش الفداء" الكلاسيكية خير ما يفش فيه غله الاقتصادي، وينفث عبره همومه. ويبدو أن ما تفتق عنه ذهن هذا القطاع وجد صدى طيباً لدى جهات عدة. التجار "الجشعون"، ومافيا التعطيش والاحتكار، والإنفاق غير الرشيد، وعصابات جمع الدولارات، وتهيؤات تجعل البعض يتخيل أن هناك أزمة في سلعة أو مبالغة في سعر، وتعطيش السوق على أيدي متاجرين بهموم البسطاء وغيرها من الكباش يتداوله المصريون على مدى أشهر، تارة بالتصديق وأخرى بالتكذيب. وطاولت القائمة "الوزير" وزير التموين والتجارة الداخلية علي المصيلحي الذي وجد نفسه في خانة "اليك".

توالى الكشف عن قضايا فساد مسؤولين في الوزارة مما أسعد المصريين في خضم أزمتهم. وتصاعدت أعداد طلبات الإحاطة في مجلس النواب (البرلمان) بصورة غير مسبوقة، لدرجة أن النائب عبدالمنعم إمام قال للوزير قبل أسابيع "اعتذارك (عن ارتفاع أسعار السلع) مرفوض يا سيادة الوزير. ليس هناك أزمة زيادة أسعار، بل هناك أزمة زيادة اللصوص"، واصفاً الوزارة بأنها أصبحت "وزارة المعاشات" مما أثلج صدور الملايين. وحين وصل النائب لـ"الجزء الناري" في كلماته الموجهة للوزير بقوله "على وزير التموين أن يأخذ أربعة آلاف جنيه (الحد الأدنى للأجور، قبل أن يصدر الرئيس السيسي قراراً برفعه إلى ستة آلاف قبل أيام)، وعيش نفسك أسبوعاً. وهناك خيار آخر، وهو أن توريني عرض أكتافك وترحل (تستقيل)"، أطفأت النيران لهيب الأوجاع الشعبية لبضعة أيام، وذلك قبل أن تعود الأسعار الملتهبة لتنكأ جراحهم وتضعضع أحلامهم.

تسكين وتنفيس

الأسعار تستمر في الارتفاع وأحلام الخروج من الأزمة تعاني الإجهاض المتكرر، لكن عمليات التسكين والتنفيس عن الضغط الزائد لا تتوقف. كثيراً ما قام الإعلام في دول العالم بدور تنفيسي مهم، يسمونه تارة تعبيراً عن أوجاع الناس من أجل الضغط على المسؤولين للتحرك واتخاذ اللازم، أو على سبيل التخفيف قدر المستطاع من حجم الضغط، ولو النفسي والعصبي، الواقع عليهم، وذلك عبر سماع من يتحدث عن مشكلاتهم وما يمرون به من مصاعب.

أستاذة علم النفس في جامعة سانتا كلارا الأميركية ديان درهر تقول في ورقة بحثية عنوانها "لماذا الحديث عن مشكلاتنا يجعلنا نشعر بتحسن؟" 2019، إن مجرد التحدث عما يواجه الناس من مشكلات، والاستماع إلى آخرين يتحدثون عن مشاعرهم السلبية أو الهموم التي يواجهونها، التي تتطابق مع الآخرين من شأنه أن يمثل شكلاً من أشكال العلاج، إذ يقلل من التوتر ومعدلات الاضطراب الجسدي والعاطفي.

عواطف المصريين تصبح جياشة، وهم يتابعون محتوى برامج "التوك شو"، التي ظلت لسنوات منصة تنفيساً عميقاً وصمام أمان أكيداً لهمومهم ومشكلاتهم، وذلك قبل أن يخضع المحتوى ذو الطابع التنفيسي لعمليات ترشيد لأسباب عدة.

رسائل متناقضة يتلقونها عبر الشاشات. إعلامي شهير يتساءل مستنكراً عن تهمة "الوزير" (التموين) ليتلقى كل هذا الهجوم. مشيراً إلى أنه "لو جبتوا (أحضرتم وزيراً من سويسرا، هيعمل إيه (ما الذي سيفعله)؟"، وذلك في إشارة إلى أن الوزير ليس لديه ما يمكنه من أن "يوزع على الناس"، لأن الأزمة الاقتصادية تعني أن "الأشياء" لن تكون متوافرة. إعلامي شهير آخر يطالب "الوزير" (التموين) بالاستقالة في ظل هذا الفشل الذريع، وإخفاقه في توفير السلع، وخفض الأسعار مما أغضب المواطنين.

"بنغ بونغ" الوزير

وبين هذا وذاك، يفش المواطنون غلهم بمجرد الاندماج مع نيران "بنغ بونغ" الوزير. ويستمر مجلس النواب (البرلمان) في القيام بدور افتقده الناخبون لسنوات طويلة، لدرجة أن البعض نسى أن هناك برلماناً. طلبات إحاطة، ومطالبات بالاستقالة، وتحميل "الوزير" ما لا تحتمل مسؤولياته، وإشاعة جو "مبهج" من المساءلة باسم الشعب والمحاسبة دفاعاً عن الناس، مما يهدئ الغضب قليلاً، ويسكن الألم بعض الشيء، حتى لو كان "الوزير" بالفعل كبش فداء الأزمة.

ويصر البعض من المراقبين على النبش في مسألة الكبش. خبير الشؤون البرلمانية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عمرو هاشم ربيع قال في تصريحات صحافية إن ما يجري في البرلمان في شأن "الوزير" هو "تفعيل لسلطات مجلس النواب بشكل مفاجئ". مشيراً إلى أن المجلس "لم يتغير أداؤه"، لكن "الوزير يعتبر كبش فداء للحكومة".

كبش اليوم

كباش الفداء ليست اختراع مأزق اليوم أو أزمات الأمس. إنها منظومة قديمة قدم التاريخ وعريقة عراقة السياسة. إنها نظرية إلقاء لوم خطأ، أو إخفاق أو تقصير على شخص آخر غير الفاعل، أو اختيار أحدهم ليتلقى اللوم نيابة عن الآخرين.

ليس هذا فقط، بل هناك مراجع عديدة تتطرق وتحلل مبدأ "كبش الفداء" في السياسة والإدارة، وحتى في العلاقات الإنسانية، لكن يظل كبش الفداء في السياسة الأكثر إثارة. ساسة ومسؤولون في كل أنحاء العالم يلجأون إلى إعادة توجيه مسار اللوم الشعبي وقت حدوث مشكلات، وأزمات تزعج الشعوب وتغضبها، إذ يجري "تعيين" كبش يقوم بمهمة تلقي اللوم، مع أثر جانبي إيجابي آخر ألا وهو التنفيس عن الغاضبين للحفاظ على صمام أمان فاعل للشعوب، لا سيما في الضوائق الاقتصادية.

بين الحين والآخر، يتداول المصريون على صفحات الـ"سوشيال ميديا" وجهات نظر وآراء، بعضها يصيب في تحقيق الهدف المرجو، ألا وهو تهدئة الناس، والبعض الآخر يخيب، إذ تعيد الأزمة إلى المربع الصفر، وتحديداً جذورها.

جذور أزمة الاقتصاد وغلاء الأسعار وشح السلع، وهي أس المعضلة، تغيب أحياناً في خضم ما يعتبره البعض "كباش فداء"، وما يصنفه البعض الآخر "صمامات أمان"، يجري تركيبها والتأكد من عملها.

مسؤولية الحكومة

مضت أسابيع منذ قال الكاتب الصحافي والإعلامي إبراهيم عيسى إن وزير التموين ليس وحده المسؤول عن الأزمة، وإن كل ما يفعله الوزير هو تنفيذ سياسات الحكومة، وإنها جاءت برضا وموافقة الحكومة. لكن يجري إعادة تداول "توجيه الاتهام" للحكومة بين الحين والآخر، وهو ما يستنفر غضب البعض، معتبرين ذلك عداءً للدولة وتخريباً للسلم الاجتماعي، ومؤامرة على الشعب. لكنه يشفي غليل آخرين، يعتبرون "الحكومة" بكل معانيها هي المسؤول الأول والأخير، إن لم يكن بسبب سوء الإدارة، فمن منطلق سوء التعامل مع الأزمة. وإن لم يكن هذا أو ذاك، فانطلاقاً من طول تأكيد أن الأزمة إلى زوال قريب، أو أنه لا توجد أزمة من الأصل.

الأصل في الأزمات المصارحة والمكاشفة، ولحسن الحظ أن الرئيس السيسي نفسه هو من قام بالمهمة الصعبة. في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر ومعرض مصر الدولي السابع للطاقة "إيجبس 2024" قبل أيام، أرجع الرئيس السيسي الضائقة إلى عدد من الأزمات، أبرزها فيروس كورونا، الذي أثر في العالم ومصر على مدى عامين، وحرب روسيا في أوكرانيا، وما يجري على الحدود المصرية مع كل من ليبيا والسودان، وأخيراً غزة.

وعلى رغم أن الرئيس لم يشر إلى تفاصيل إدارة الاقتصاد بصورة عامة، فإن المكاشفة جاءت في وقتها. ليس هذا فقط، بل تحدث الرئيس عن دخل مصر من قناة السويس الذي تراجع بنسبة تراوح ما بين 40 و50 في المئة، بعد ما كان يدر لمصر نحو 10 مليارات دولار سنوياً.

المكاشفة أسعدت البعض ممن اعتبروها ردعاً لكل من تسول له نفسه أن يتحدث عن عدم وجود أزمة. البعض الآخر تعامل مع مكاشفة الرئيس السيسي بجزء من حقيقة الأوضاع، باعتبارها نقطة إيجابية بعد أشهر من الغضب جراء تضارب تصريحات بعض المسؤولين مع الواقع، وهو ما اعتبروه إهانة لذكائهم أو استهانة بأوجاعهم التي تسكنها كباش أو تهدئها صمامات.صمام المصارحة، الذي وصفه وزير التعاون الدولي الأسبق والمتخصص في الشأن الاقتصادي زياد بهاء الدين بـ"نقطة بداية مهمة" في التعامل مع الأزمة الاقتصادية، يتزامن كذلك وسلسلة إجراءات وقرارات ومشروعات، على رأسها "مشروع رأس الحكمة"، الذي يعتقد أو يأمل أو يحلم كثر بأن يكون "بادرة انفراجة".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات