ملخص
يشير المؤلف إلى أن كتباً عن ألمانيا النازية هي التي هيأت الأميركيين لدخولهم الحماسي في الحرب العالمية الثانية، وأن الكتب يمكن أن تستغل في تقوية المقاومة وتشجيع الوطنية وكذلك بالقطع في توسيع آفاق العقول.
أول ما خطر لي حينما قرأت عنوان كتاب المؤرخ البريطاني أندرو بيتيغري (الكتاب في الحرب: المكتبات والقراء في أزمنة الصراع) الصادر حديثاً عن "بروفايل بوكس" هو المشهد الهمجي الذي درسناه صغاراً فعلق في أذهاننا: كتب بغداد في نهر دجلة وحوافر خيول المغول تطأها من ضفة إلى أخرى. من ينسى الإشارة إلى اسوداد مياه نهر دجلة بحبر الكتب؟ ومن ينسى الحسرة على ضياع ذلك التراث العظيم؟ ثم تبين أن لهمج الماضي نسلاً أقرب بنا عهداً، بل ومعاصراً لنا، وأن إحراق الكتب لم يتوقف تقريباً على مدى تاريخ الإنسانية.
في استعراضها الكتاب (واشنطن بوست ـ 6 ديسمبر (كانون الأول) 2023) تكتب مكانا آير أن بيتيغري أستاذ التاريخ الحديث بجامعة سان آندروز الاسكتلندية يستكشف في كتابه كيف تقود الكلمة البشر في أوقات الصراعات، ويذهب إلى أن الكتب والحرب يتضافران بشدة، إذ تهيئ الكتب القراء لتوقع الحرب ثم لمناصرتها، فهي ناقلات الأيديولوجيا وغنيمة المنتصرين. وهي أيضاً السند الحق في أوقات القتال، للمدنيين وللجنود على السواء.
كتبت كلوديا روث بيربونت (ذي نيويوركر ـ الـ19 من فبراير "شباط" 2024) أن من أوائل الصراعات التي يدرسها بيتيغري الحرب الأهلية الأميركية في علاقتها برواية "كوخ العم توم" المناهضة للعبودية لهارييت بيتشر ستو التي "أجرت الدمع في عيون قرائها وأحالتهم إلى مناهضين للعبودية" حتى قيل إن أبراهام لينكولن وصف ستو بـ"المؤلفة الصغيرة التي بدأ كتابها الحرب". يشك بيتيغري وكثر في نسبة هذا القول إلى لينكولن، ويشك أيضاً في الأثر الفعلي للرواية على أحداث الحرب ويرى أن مناهضة الرواية للعبودية لم تؤثر كثيراً في الحرب أو تفض إلى الإقبال على التجنيد، لكنه يوثق نهوض مشاعر معادية للرواية في الجنوب الأميركي، فقد "أحرقت نسخ منها علناً، وظهرت موجة روايات (مناهضة لتوم) تصور العبودية نظاماً قويماً وتفند تصوير ستو القاسي لحياة الجنوب". وهكذا قد لا تكون الرواية سبباً في الحرب، لكنها بمعنى ما كانت ساحة من ساحاتها.
الكتب والحروب
يقدم بيتيغري بحسب ما تكتب آير أمثلة للحظات عدة ارتبطت فيها كتب بحروب فمن ذلك "الدور المحوري الذي لعبته رواية "الترانسفال من الداخل" لبيرسي فيتزجيرالد في حشد الدعم البريطاني لمحاربة البويرز في جنوب أفريقيا، ومنها دور صحف بريطانيا في القرن الـ19 إذ غرست في نفوس الشبان الاستعداد لحمل السلاح. كما يكتب عن الجنرال البروسي فريدرتش فون بيرنهارد وكتابه "ألمانيا والحرب القادمة" المنشور عام 1911 الذي قوبل بحفاوة واسعة النطاق وناصر فيه حرباً "من أجل وضعنا بوصفنا قوة عالمية". ويكتب أن كتباً عن ألمانيا النازية هي التي هيأت الأميركيين لدخولهم الحماسي في الحرب العالمية الثانية، ليبين بيتيغري أن "الكتب يمكن أن تستغل في الخير أو الشر، بتقوية المقاومة وتشجيع الوطنية وكذلك بالقطع في توسيع آفاق العقول".
غير أن مكانا آير تأخذ على بيتيغري ولعه بالتفاصيل واستغراقه فيها، واستسلامه للاستطراد إلى حد تقديمه سرداً قد لا يحتمله قارئ غير متخصص لتوسع التعليم العسكري في القرن الـ19، لكنه يرشد هذا الميل مع منتصف الكتاب ويبدأ "في الكشف بتفصيل دقيق عن ثمن الحرب الأدبي. فمنذ العصور القديمة دأبت الجيوش على نهب المكتبات، وإرسال محتوياتها ذات القيمة أو الأهمية إلى الوطن. شهدت الحرب العالمية الثانية تدمير الكتب على نطاق هائل. ففي شتى أرجاء أوروبا نهب الألمان المكتبات اليهودية، وأرسلوا كتباً نادرة إلى ألمانيا وأتلفوا أو أحرقوا ما بقي منها. فخسرت بولندا 90 في المئة من محتويات مكتباتها العامة والمدرسية، ومن ذلك 300 ألف كتاب في مكتبة وارسو العامة أحرقها الألمان في أواخر أيام احتلالهم. وفي ما بين تقدم القوات الألمانية وتراجعها خسر الاتحاد السوفياتي أكثر من 100 مليون كتاب. وإجمالاً، أبيد في أوروبا قرابة 500 مليون كتاب خلال القتال".
كتبت بيربونت أن "من أشهر صور الحرب العالمية الثانية صورة في لندن لمجموعة رجال هادئين معتمرين القبعات يفحصون كتباً على أرفف سلمت بمعجزة من قصف مكتبة قصر كنسنجتن. يوشك بيتيغري أن يقطع بأن الصورة ليست عفوية، لكنها تعبير صادق عن استعمال الكتب في أوقات الأزمات عزاءً وإلهاماً ورمزاً لمقاومة البربرية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضافت "ذلك ما فهمه الألمان، الذين كانوا ذات يوم عظيمي الثقافة ثم باتوا عظيمي الخوف من الكتب". يري بيتيغري أن من أبعث ذكريات الحرب العالمية الثانية للخوف كتاب أعدته القوات الخاصة الألمانية سراً في عام 1940 ونشرت ترجمة له لاحقاً بعنوان (الغزو-1940). كان جزءاً من التجهيز لغزو بريطانيا، واحتوى خلاصة وافية بمعلومات أساسية عن جغرافيا بريطانيا واقتصادها وسياستها، مذيلة بـ"قائمة المطلوبين الخاصة" التي ضمت أسماء 2820 بريطانياً وأجنبياً يجب اعتقالهم فور استيلاء النازيين على السلطة. ومن أولئك ساسة وصحافيون ويهود وعدد من الكتاب البارزين منهم أي أم فورستر وفرجينيا وولف.
يبدو إذاً أن (الكتاب والحرب) لا يسرد تاريخ الكتاب طوال الوقت بوصفه منتجاً ثقافياً أو معرفياً، وإنما بوصفه شيئاً. فمن الواضح أن (الغزو-1940) ليس كتاباً مثلما الإنجيل أو قاموس أكسفورد، لكنه كتاب لأن له شكل الكتاب وحسب. قد لا يعدو المحتوى في جوهره تقريراً محدد الغرض معين الجمهور، لكن الشكل وحده يبدو كافياً ليعده بيتيغري كتاباً، وبما أنه ذو صلة بحرب، فذلك يسوغ إدراجه ضمن كتابه. والحق أن ذلك شرك لا يكاد ينجو منه أحد ممن يؤرخون للأشياء، إذ يتلمسون أوهى الصلات بموضوعهم، وأكثر الإشارات هامشية، ويتغاضون عن الوهن والهامشية وضعف الصلة ليربحوا لكتابهم فقرة أو فصلاً. فلا شك أن جيوش العالم، وشتى المؤسسات في الحقيقة، تصدر كل يوم تقارير ومذكرات وتعليمات وبيانات، لها شكل الكتب المادي، لكن أحداً لا يتعامل معها مطلقاً باعتبارها كتباً. وليس أدل على ذلك من قول بيربونت إن الذين وردت أسماؤهم في قائمة المطلوبين للاعتقال "ما كان بوسعهم أن يعرفوا أن أسماءهم واردة فيها"، وذلك بالضبط ما لا يمكن قوله عن "الكتاب" الذي لعل من أكثر شروطه جوهرية أن يكون معلناً ومتاحاً.
غير أن من حسن الحظ أن بيتيغري لا يتناول تلك "الكتب" إلا نادراً، بل ينصب تركيزه على كتب حقيقية ارتبطت بصراعات كبيرة. وترى بيربونت أنه يبلغ ذروة إجادته في سرده للحرب العالمية الثانية (لعل السبب أن أباه كان ضابطاً في القوات الجوية الملكية خلالها). يتسع سرده لهذه الحرب ليشمل "نطاقاً عريضاً من المواد المطبوعة من خرائط ومنشورات ودوريات علمية" ويخرج منها كثيراً بطرائف مثيرة منها مثلاً أن عالماً في الاستخبارات البريطانية تمكن بمحض تصفحه مجلة فيزيائية ألمانية من اكتشاف أن النازيين لم يخصصوا حتى عام 1941 الموارد اللازمة لصنع قنبلة ذرية، إذ تبين من قائمة محاضرات الفيزياء المقامة في ألمانيا أن أفضل الفيزيائيين الباقين في ألمانيا بعد طرد الفيزيائيين اليهود مبعثرون في شتى جامعات البلد، فكان ذلك طرف خيط انتهى بمشروع منهاتن الشهير، أو بالأحرى سيئ السمعة.
الكتب أسلحة
في عام 1942 قال الرئيس الأميركي روزفلت "في هذه الحرب، نعلم، أن الكتب أسلحة". وكان النازيون قبل عقد من ذلك قد أحرقوا كتباً فتظاهر احتجاجاً على ذلك أكثر من 100 ألف أميركي، ثم أصدر مكتب الاستعلامات الحربية الأميركي ملصقاً لصورة حرق الكتب وعليه شعار "النازيون أحرقوا الكتب لكن الأميركيين الأحرار لا يزالون قادرين على قراءتها".
وفي عام 1943 بدأ ناشرون أميركيون إنتاج (طبعات القوات المسلحة) للجنود في الخارج، فقدموا ملايين النسخ للتثقيف والتسلية بل ولتعزيز السلام. وكانت تلك الطبعات صغيرة القطع مطبوعة على ورق خفيف ومصممة بحيث تلائم جيب الجندي وتحتمل بضعة قراءات فكان الجنود يتبادلونها. طبع 30 عنواناً في البداية، في 50 ألف نسخة لكل منها، وطبعت لاحقاً مئات العناوين وتضاعف عدد النسخ ثلاث مرات، فصدرت روايات وكلاسيكيات وسير وتاريخ وألغاز وعلوم ومسرحيات وشعر. ونقلت مجموعات من الكتب جواً إلى رأس جسر أنزيو في إيطاليا، ثم أسقطت بالمظلات على جزر المحيط الهادئ النائية، وخزنت في المستودعات في ربيع عام 1944، حتى يمكن شحنها إلى مناطق الإطلاق في يوم الإنزال. وتضيف بيربونت أن "كتاباً صدر عن هذه الطبعات وحدها لمولي غوبتيل مانينغ بعنوان (حينما ذهبت الكتب إلى الحرب)".
كان من أكثر الروايات رواجاً بين الجنود رواية "شجرة تنمو في بروكلين" لبيتي سميث التي قدرت عدد الرسائل التي كانت تتلقاها من الجنود في العام بـ1500 رسالة، قال أحدهم في واحدة منها "لقد كنت أفكر في ذلك الكتاب حتى تحت القصف الكثيف" وكتب آخر ما لعله خير تعبير عن جاذبية الكتب في وقت الحرب إذ قال "لا أعرف كيف أفسر الأثر العاطفي لذلك الكتاب في قلبي الميت هذا".
في زمن أقرب كثيراً إلينا من الحرب العالمية الثانية يتلمس بيتيغري علاقة للكتاب بأحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول). ففي السنوات التالية أتيحت قائمة كتب لسجناء غوانتانامو وهم "قرابة 800 رجل وصبي مسلم... وضعت الكتب في مقطورة وكان السجناء يقرأونها في زنازينهم".
يحكي بيتيغري حكاية جلسة محاكمة أقيمت في 2010 للسجين عمر خضر، الذي ولد في تورنتو وقضى بعض سنوات نشأته في باكستان ثم اعتقل عام 2002 في أفغانستان وعمره 15 سنة، يقول "صوره طبيب نفسي من شهود الادعاء بالمتطرف الخطر الذي قضى غالب سنوات سجنه الثماني بغوانتانامو في حفظ القرآن، لكن محامي الدفاع طالب بعرض قائمة الكتب الكاملة التي قرأها خضر فإذا فيها (أحلام من أبي) لباراك أوباما و(مسيرة الحرية الطويلة) لنيلسون مانديلا، وروايات لستيفن ماير وجون غريشام ودانيال ستيل"، فهي قائمة، على حد قول كلوديا روث بيربونت، غير متوقعة من جهادي. و"لم تكن الكتب هي السبب في نقل خضر إلى سجن كندي" لكنها كانت علامة مبكرة على أنه ليس الشخص الذي وصفه سجانوه. تقول بيربونت إن خضر حصل في النهاية على إفراج واعتذار من الحكومة الكندية وتعويض مالي كبير، وتعده "مثالاً حرفياً لفكرة أن الكتب حتى في أحلك السجون يمكن أن تمنحك الحرية".
في ختام مقالتها تكتب مكانا آير أن روايات بيتيغري عن البشر الذين لاذوا بالكتب في أوقات الشدائد "تشجعنا على تأمل حال الجنود في أوكرانيا أو المدنيين في غزة في تفاعلهم مع الكتب في هذه اللحظة".
والحق أن بيتيغري لا يغفل حرب أوكرانيا، فهو يضع بضع أفكار - كما تشير كلوديا روث بيربونت - ناجمة عن "تأمل صورة فوتوغرافية واحدة، التقطت في كييف، وليس فيها بشر، أو عنف، ليس سوى شباك شقة منظور إليه من الشارع، وقد امتلأ من أعلاه إلى أسفله بالكتب المكدسة كأنها الآجر، والمستعملة استعمال الآجر، في صد شظايا القذائف أو الزجاج. تعكس الصورة مقاومة المثقفين للبربرية بقدر ما تعكس ذلك الصورة القديمة للإنجليز".
تكتب مكانا آير أن من أقوى أجزاء كتاب بيتيغري ما يتعلق بالناس، إذ يحتملون أوقات الصراع بعون من الكتب. في غضون أسابيع من استيلاء الحلفاء على شواطئ نورماندي، وصلت صناديق طبعات الكتب الشعبية، فكانت تذكرة للجنود بالحياة بعيداً من الخطر. تداولوها إلى أن أتت عليها الأوساخ وباتت غير قابلة للقراءة. وقال جندي "إن إلقاء كتاب في القمامة قد يكون مؤلماً إيلام ضربك لجدتك".
وإذا كان بيتيغري قد توقف أمام كتب حرب أوكرانيا بعد كل الحروب التي استعرضها، فقد يكون لنا أن نتوقف أمام الكتب في الحرب الجارية في غزة، ففي السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 نشر الشاعر الفلسطيني مصعب أبو توهة في "ذي نيويوركر" مقالة كتب فيها:
"أتذكر بأي بطء أقمت مكتبتي الشخصية، وكم كان أصدقائي يستغرقون من وقت ليرسلوا الكتب إلى غزة بالبريد. حينما رجعت من الولايات المتحدة في فبراير 2021، حشوت حقيبة أسرتي بـ120 كتاباً. كان لزاماً عليَّ أن أتخلص من بعض أحذيتي وثيابي لأفسح للكتب مكاناً. ولما رجعت في مايو (أيار) 2023، حملت حقيبة إضافية فيها قرابة 70 كتاباً. على بعضها توقيعات أصدقائي، وفي الرحلة من القاهرة التوى كتفي من حمل حقائبي الثقيلة".
ثم بدأ قصف غزة وغزوها. يكتب أبوتوهة: "كان من الصعب أن أصدق ما فقدناه، فقررت أن أرجع إلى بيتنا في بيت لاهيا لأرى بعيني رأسي ما جرى له. وفي ما كنت أدنو من منطقة حطام بيتي، توقفت مذعوراً... راجياً لو أعثر فقط على نسخ من ديواني، ربما على مقربة من شجرة الزيتون في بيت جارنا، لكن ليس ثمة إلا حطام... أخطط للرجوع إلى الحطام بحثاً عن كتبي ولإنقاذ ما يمكنني إنقاذه. لن أضع الكتب هذه المرة على أرفف. أريد فقط أن أطمئن إلى أن الصفحات سليمة. وأخي حمزة سيفعل مثل ذلك مع كتبه، كتب النحو والأدب العربي التي قضى 10 سنين وهو يجمعها. كلانا يدعو ألا تمطر في الأيام المقبلة فتغرق الصفحات".
كم أسبوعاً مضى الآن منذ السادس من نوفمبر حين نشر أبو توهة مقاله؟ وكم مرة أمطرت؟ وكم صفحة ذابت؟ وكم فرصة ذابت معها لأن تكون الحياة أكثر احتمالاً؟
عنوان الكتاب: The Book at War: Libraries and Readers in an Age of Conflict
تأليف: Andrew Pettegree
الناشر: Profile Books