Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جويس منصور رفضها العرب وأنصفتها حركة السوريالية الفرنسية

محسن البلاسي ينجز أول سيرة بحثية بالعربية حول تجربة الشاعرة المصرية الفرنكفونية التي تركت أثراً بارزاً

الشاعرة المصرية الفرنسية جويس منصور (دار صفصافة) 

ملخص

محسن البلاسي ينجز أول سيرة بحثية بالعربية حول تجربة الشاعرة المصرية الفرنكفونية التي تركت أثراً بارزاً

تجربة الشاعرة والكاتبة المصرية الفرنكفونية جويس منصور (1928-1986) ومؤلفاتها السوريالية وحياتها المرتبكة وسيرتها المسكوت عنها، هو في حقيقة الأمر فعل انغماس في الغموض والقلق والمخاطرة، إذ يقود النبش في أوراقها ومراسلاتها وتفاصيل حكاياتها، والحفر في كتاباتها والمكتوب عنها، والتفتيش في ارتحالاتها ومحطاتها بين القاهرة وباريس، إلى كشوفات مثيرة غير مستقرة، لا تقدم إجابات نهائية، بقدر ما تنفتح على الفوضى الخلاقة، وتقتبس من الإبداع متعته ودهشته وروحه المحملة بالاحتمالات والأسئلة والمغامرات المتلاحقة.

وهكذا يأتي التشويق عنصراً أساسياً جوهرياً في كتاب "جويس منصور... طفلة مسك الروم"، الصادر حديثاً عن دار صفصافة للنشر في القاهرة (2024). وقد أنجزه الكاتب والتشكيلي والمترجم المصري محسن البلاسي، المسؤول عن المجلة السوريالية الدولية "الغرفة". وهو كتاب بحثي ضخم (611 صفحة)، يكاد يتضمن أول سيرة مكتملة مكتوبة بالعربية عن جويس منصور، حياتها وعلاقاتها وأوراقها ومؤلفاتها الشعرية والقصصية أيضاً "إذ قد لا يعرف القارئ أن منتج جويس القصصي يتجاوز منتجها الشعري بمراحل عديدة"، كما يوضح المؤلف.

وهذه الأطروحة البحثية الموسوعية هي تتمة عمل آخر للبلاسي لم ينشره بعد، على رغم أنه أنجزه أولاً، هو كتاب يتضمن ترجمته لأعمالها الإبداعية الفريدة والمجهولة، التي لم تصدر من قبل بالعربية، حيث لم تكن جويس منصور فقط أعجوبة متجولة، ولكن أعمالها "تكهنات نبوئية محفزة، بشكل شاعري، منقوشة عبر وعي غلافها الجوي المسكون بها"، بحد وصف الشاعر والناقد الأميركي ويل ألكسندر.

هي شاعرة أرادت أن تمضي بلا صخب في الليل، متخلصة من جسد ماضيها، وأن ترحل بلا حقائب إلى السماء، يخنقها الاشمئزاز، إذ تغرق موسيقى الفوانيس من حولها. أما لسانها، ذلك الساحر المراوغ، فإنه لا يكف عن ارتكاب جرائم القول الكاملة من جرأة وحدة وإيروسية وبشاعة وفزع وتمرد وانفلات وعصيان ورغبات مجنونة وحرية في التعبير عن الروح والجسد والمشاعر المضطربة المتنوعة، لكنه يبقى طاهراً بفنياته النقية، وجمالياته الاستثنائية "لا جدوى من غناء الترانيم، حين يضرب البرق السن المجوف، في منتصف الليل. لا فائدة من حمل المشاعل، في بطن الأرض، تنفجر الفراولة البرية".

علاقة بالسوريالية قبل بريتون

يستلهم محسن البلاسي عنوان كتابه من الشاعر الفرنسي السوريالي الرائد أندريه بريتون (1896-1966)، صديق جويس منصور، الذي أطلق عليها "طفلة مسك الروم"، نسبة إلى زهرة مسك الروم النادرة، ذات الرائحة المثيرة، التي يمكن استنشاق عطرها بعد يومين من قطفها. وقد اشتهرت جويس بهذا اللقب المتميز في باريس، إلى جانب وصف بريتون الآخر لها بأنها "حديقة هذيان هذا القرن".


ويجد البلاسي في جويس منصور صورة من إيروس الأزلي، إله الحب والرغبة والجنس الذي لا يفنى، ومن ثم فإن طفلة مسك الروم في اعتقاده "لم ترحل، ولن ترحل أبداً". ويستند البلاسي في نظرته إلى الحب وآلهته، وقوته الخفية الأبدية، وعلاقته بالحياة وبالشعر، إلى مقولة بريتون أيضاً في "الحب المجنون"، وهي المقولة التي يستهل بها البلاسي كتابه "أنا لا أنكر أن الحب له علاقة بالحياة، أقول إنه يجب أن يغزو ويحتل. ليصل إلى النصر يجب أن يكون قد ارتقى إلى مثل هذا الوعي الشعري لذاته، بحيث تذوب كل الصراعات العدائية، والذي يصادفه بالضرورة في النهاية، الذوبان في قلب مجده".

ومما يذهب إليه محسن البلاسي أن جويس منصور التي عاشت في حي الزمالك في القاهرة مراهقة صغيرة، ثم زوجة وشاعرة شابة، لم تكن مدللة من السورياليين الذين احتلت وسطهم مكانة رفيعة، فقط لإعجاب أندريه بريتون بها. ولكنها قبل ذلك كله، وقبل سفرها النهائي إلى باريس عام 1956 "أحدثت ثورة فلسفية وشعرية وسوريالية، لها ملامحها الخاصة وطريقها الخاص، منذ فترة مراهقتها المبكرة التي عاشتها في القاهرة، حيث عانت تمزقات وجودية واجتماعية أرقت راحتها كسليلة لعائلة غنية ومستقرة".

وقد ولدت جويس منصور في بودين في إنجلترا لأبوين مصريين يهوديين عام 1928، وانتقلت مع والديها إلى القاهرة. واتصلت جويس بالحركة السوريالية الباريسية وهي لا تزال تعيش في مصر. وفي تلك الفترة تزوجت مرتين، الأولى عام 1947، وتوفي زوجها بعد ستة أشهر وهي لم تتجاوز الـ19 من عمرها. وكان الزواج الثاني عام 1949، وقسمت مع زوجها سمير منصور، الذي أخذت منه اسمها المعروف، أوقاتهما بين القاهرة وباريس، حيث كانت جويس قد بدأت الكتابة باللغة الفرنسية.

وحتى لو لم تكن جويس منصور تعرف أندريه بريتون، ولو لم تكن جزءاً من الحركة الباريسية، ولا عضوة رسمية في الحركة السوريالية المصرية، فإنها مثلما يرى محسن البلاسي قد شعرت بألفة مع السوريالية، بعدما عرفها الكاتب والشاعر السوريالي المصري جورج حنين (1914-1973) على البيان الأول للسوريالية، والحركة السوريالية الطليعية في مصر. وواكبت جويس من القاهرة السوريالية الفرنسية وسائر الحركات الأوروبية الجديدة الأخرى.

وفي نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الـ20 بدأ يتشكل الحس السوريالي لدى جويس منصور ومجموعة من الشعراء المصريين، الذين اعتادوا حضور الصالونات الأدبية الفرنسية في القاهرة ولقاء السوريالي الملهم جورج حنين، وعلى رأسها صالون ماري كافاديا، الكاتبة والشاعرة الرومانية ذات الأصول اليونانية، التي تكتب بالفرنسية.

وهكذا، كما يذهب البلاسي، ندرك عند قراءة أعمال جويس منصور "التأثيرات التي قد تعرضت لها في صالون ماري كافاديا. الرموز الباطنية في كتابها الأول في هذا الوقت كانت مألوفة بالنسبة إلى مفرداتها الشعرية، كما تضفرت مفرداتها مع عنفها الإيروتيكي، حيث خط الدم والعرق والدموع ينسجم مع موضوعات الحب والموت. لقد تأثرت كثيراً بترددها الدائم على هذا الصالون، ولقائها جورج حنين، وسفرها المتواصل إلى فرنسا، وذلك قبل رحيلها النهائي إلى باريس عام 1956".

ومما يكشف عنه البلاسي من أوراق جويس منصور ومقابلاتها الخاصة أنها لم تلتق أندريه بريتون وجهاً لوجه قبل عام 1956، وكانت المقابلة بالموازاة مع نشر كتابها الثالث "يوليوس قيصر"، في العام ذاته الذي غادرت فيه مصر. وانخرطت جويس قبل ذهابها إلى باريس وبعده في نسيج الموجة الثانية للسوريالية العالمية، إذ سعى بريتون ورفاقه وأصدقاء الحركة في سائر الأرجاء إلى تجديد دمائها وتطوير أدائها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.

وتوالت مجموعات جويس منصور الشعرية التي دعمت الحركة السوريالية بروافد من الطقوس الشرقية والميثولوجيا المصرية وطقوس الحضارة الفرعونية، ومنها "صرخات" (1953) و"دموع" (1955) و"الجوارح" (1960) و"المربع الأبيض" (1965) و"اللعنات" (1967) و"النجوم والكوارث" (1969) و"زهور السندان" (1970) و"هرج ومرج" (1976) و"الحواس المحظورة" (1979) و"اللهب الساكن" (1985) و"الثقوب السوداء" (1986). كما أنتجت سرداً ونثراً أعمالاً تضعها في صدر هذه الموجة من السوريالية العالمية، منها "الراقدون الراضون" (1958) و"زرقة الصناديق" (1968) و"تلك" (1970) و"قصص مؤذية" (1973) وغيرها.

اللغز والمقترحات

ومثلما ينظر محسن البلاسي إلى كتابات جويس منصور كلغز يخضع للتفسيرات والتأويلات المتعددة لتبيان جذوره ومنابعه ومقوماته وتشكلاته وخصائصه، فإنه يتعاطى مع تفاصيل حياتها وكل ما يتصل بعلاقاتها الأدبية والاجتماعية وبسيرتها الذاتية المعلنة والسرية من المنظور ذاته. وهو في فصول كتابه جميعاً يحاول أن يدلي بدلوه بتقديم ما يتراءى له من مقترحات واجتهادات لإضاءة ما هو خفي من تجربة واحدة من أبرز السورياليات في العالم، خصوصاً أنها لم تلق الاهتمام البحثي الواعي الكافي في المشهد العربي، بل لعلها أسيء تقديمها في بعض الأوساط الثقافية العربية المحافظة.

ويرى البلاسي أنه على مدى أكثر من 30 عاماً "تم تقديم جويس منصور للشرق الأوسط فقط كشاعرة إيروتيكية. وقيدت في ذلك الإطار عبر حركة نقدية تحمل رؤوساً حجرية، وتم تجاهلها تماماً كقاصة وفنانة، بل وناقدة ومفكرة سوريالية، شاركت بصورة جذرية ومركزية في صياغة وتشكيل تاريخ الحركة السوريالية الدولية، من الخمسينيات حتى الثمانينيات من القرن الماضي". وإن الإيروسية لدى السورياليين ليست مرادفاً للجسدانية الشهوانية، ولكنها "تجسيد للرغبة البشرية، وأعمق نبضاتها وأكثرها حميمية ونقاءً وشفافية وصدقاً، كما أنها وسيلة للخوض في بعد أوسع للحياة والتجربة الإنسانية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويجد المؤلف أن منتج جويس منصور السردي، غير الشائع، على وجه الخصوص، أعجوبة لغوية ليس لها مثيل، فهو "نزف من الحكايات لا يتوقف عن الفيضان، نجم أسود بعيد، ذو مدارات سحيقة ومستحيلة التلاشي". ولقد أنتجت جويس ذلك الخطاب العالمي، لأن صوتها ببساطة هو "صوت امرأة واعية بقوة اللغة كوسيلة مقاومة للعبودية الجسدية، بشتى أشكالها الاجتماعية". وتنطوي سردياتها على نثارات حية تتمثل ظواهر الأشياء وأعماقها في آن، وتتقاطع فيها اللحظات الواقعية المعيشة والأحلام، والمواقف النابعة من الوعي ومن التخييل العبثي، حيث يلتقي الماضي والحاضر والمستقبل معاً في نسيج درامي فانتازي يصعب إدراك كينونته وماهيته.

ويتنقل المؤلف في فصول كتابه بين مدارات متشعبة متشابكة، منها: حياة جويس منصور في القاهرة، ونشأة حركة السوريالية في مصر، واهتمام جويس بالسوريالية قبل معرفتها بأندريه بريتون، والرحيل من مصر إلى باريس، وتجذرها في المجتمع الفرنسي وفي حركة السوريالية العالمية، وعلاقاتها بأصدقاء الكلمة واللون، والمحطات البارزة في رحلتها الإبداعية والحياتية. وتضم السيرة البحثية ببليوغرافيا لأعمالها وإسهاماتها كافة، في الشعر والنثر، كما تتضمن مجموعة مقدمات لكل من: الشاعر والناقد الأميركي ويل ألكسندر، والأكاديمي الفرنسي مارك كوبيغ الأستاذ في جامعة السوربون، والشاعر الفرنسي لوران دوسيه، والشاعرة الأميركية ريكي ديكورنيه، والشاعرة والباحثة الأميركية اليونانية جورجيا بافليدو.

ووفق محسن البلاسي، فإن جويس منصور هي المسؤولة بشكل مباشر، وربما تلقائي، عن تكثيف هالة اللغز الذي أحاطها. ويقترح في تفسيره أن ذلك الأمر الملتبس قد حدث بمزجها الحديث عن حياتها المبكرة، بسير ذاتية في معظمها تنبع فقط من مخيالها الشعري، وليس من الواقع الفعلي. فلقد كانت "تعيد خلق حياتها المبكرة في قصائدها، والمساحات الحسية والنفسية لشخصيات قصصها القصيرة، وحكاياتها الخاصة مع أصدقائها. وكانت تنتشي ببث الارتباك مع الفكاهة لتصنع ماضياً شعرياً لها، لتكتب أسطورتها الحياتية والأدبية قبل رحيلها الجسدي".

ووفقاً لسيريل، ابن جويس منصور، وزوجته ماري منصور، اللذين ينقل عنهما البلاسي، فلقد أرادت جويس باستمرار تعميق اللغز الذي يحيط بها. ومن ثم "لم تصحح أية معلومات خيالية حتى بين دائرة أصدقائها أبداً، معلومات السيرة الذاتية الأدبية التي رافقت كتاباتها، والإشاعات التي دارت حول حكاياتها".

أوراق ورسائل خاصة

وتحفل سيرة جويس منصور بكثير من المكاتبات والأوراق المجهولة، التي لم تنشر من قبل، خصوصاً مراسلاتها مع أعضاء حركة السوريالية المصرية والعالمية، في أثناء إقامتها في القاهرة وبعد ذهابها إلى باريس. ومن ذلك مثلاً مجموعة رسائل بعثها إليها جورج حنين، يبدي فيها إعجابه بأعمالها التي نشرت لاحقاً في مجموعتها الشعرية "صرخات".

أما المراسلات المتبادلة بين جويس منصور وأندريه بريتون فإنها تحيل على وجود علاقة خاصة بينهما، إذ كان بريتون "ينجذب إلى هذا السحر القادم من هذه الشابة الغريبة، وموهبتها الشعرية المفترسة"، وقد لاحظ أعضاء مجموعة باريس هذه العلاقة الخاصة بينهما، حتى بدأت جويس تصبح "ملهمة للسورياليين الجدد".

وكانت أول رسالة من أندريه بريتون إلى جويس منصور، كما يكشف محسن البلاسي، في الأول من مارس (آذار) 1954، قبل استقرارها في باريس، وذلك بعد قراءته كتابها الشعري "صرخات". وفي هذه الرسالة يقول بريتون "يكفي أن أخبرك أنني قرأته في جلسة واحدة هذا الصباح، وأنني سأعيد قراءته بجرعات صغيرة، في بعض الأحيان، حسب الاقتضاء. لقد تأثرت بهذه الكلمات، بكتاباتك التي منحتني النعمة لمرافقتها. أنا أعشق الشيطان فقط وأنت تعيدينه للحياة".

واستلهمت جويس منصور مجموعتها الشعرية الثانية "دموع" من تلك المشاعر تجاه أندريه بريتون، كما يذهب البلاسي في كتابه البحثي، وبعد صدور المجموعة أخذتها إليه بنفسها. وقد احتوت المجموعة على صورة لأندريه بريتون وجويس منصور، بينما جاء إهداؤها له على النسخة الخاصة به كما يلي "إلى أندريه بريتون، الساحر الأسود غير القابل للذوبان، إلى الشخص الذي لم ينزل أبداً من قلعة النجوم!".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة