ملخص
بسمة عبد العزيز تتأمل في صور إعادة إنتاج المفردات في الحياة اليومية
ترى الروائية والباحثة اللسانية بسمة عبد العزيز (1976) أنّ "لا مفرَّ من الاعتراف بأن اللغة العربية تواجه اتهامات متكررة بالصعوبة والتعقيد، وأن ثراءها أمسى مبعث احتجاج لا إقبال، وسخرية لا مفاخرة". وتضيف في مقدمة كتابها "مقام الكلام في نكش المألوف من ألفاظ وأحوال" (دار الشروق – القاهرة) أن أزمة العربية تكمن في أطراف المعادلة التعليمية، "فلا المعلم مهتم بأدائه في ظل أوضاع تدعو للرأفة والرثاء، ولا هو في تخصصه كفؤ قدير، ولا الطالب بدوره شغوف حريص، إذ علومه الحديثة تُنْتَج بغير لغته الأم، ومناخ الدراسة ثم العمل منفر بائس". وترى صاحبة رواية "الطابور" التي ترجمت إلى سبع اللغات، أن مَن يرمون اللغة العربية بالجمود والتحجر وعدم القابلية لمجاراة العصر؛ إنما يبادرون مرة بعد أخرى إلى إثبات العكس بألسنتهم، فيطوعونها وفقاً للاحتياج عبر استعمالات مبتكرة لألفاظ قلَّ أن تخطر على بال، بل ويأتون بالغريب القديم، فيحيونه من دون قصد؛ كأنما انبعث من تحت الركام". وتؤكد عبد العزيز التي كرَّمها مجمع اللغة العربية في القاهرة في العام 2017 "تقديراً لجهودها في نشر الثقافة بالعربية الفصحى المُتْقنة"، أن تلك المرونة التي تتبدى في استخدامنا للغتنا العربية، تلقي الضوء على إمكانات تطوير متنوعة تحملها بين جنباتها، وتؤكد كم هي لينة طيّعة، وفي الوقت ذاته قوية متماسكة، تستوعب متطلبات عصرها وتهضمها وتتشكل معها في سلاسة، دون أن تتقادم وتبلى أو تفقد جذورها. ويوافق ذلك ما توليه اليونسكو للغة العربية بتخصيص يوم عالمي لها يوافق 18 ديسمبر / كانون الأول سنوياً، وكذلك باعتبارها واحدة من اللغات المنتجة للأدب الرفيع في سياق اليوم الدولي للغة الأم الذي يوافق 21 فبراير / شباط من كل عام.
خيط اللغة
ويهدف الكتاب إلى لفت الانتباه إلى ما تواجهه اللغة العربية كلغةٍ أم من تحديات في الوقت الراهن، تعتبرها عبد العزيز الأخطر مقارنة بفترات سابقة، في ظل تراجع الارتباط بها من جانب أبنائها؛ ما يقربها من التحول إلى لغة ثانوية في غير بلد عربي، لحساب لغات أخرى، على رأسها الإنجليزية.
فهناك – بحسب ملاحظة الكاتبة - نسبة كبيرة من النصوص والمكتوبات لا تجد العناية الوافية من مؤلفيها، وقد تحوَّل إيقاع الحياة السريع العشوائي إلى نمط ثابت، وصار الترّوي في الأمور مما يعاب على صاحبه ويصمه بالتكاسل، ويستجلب إليه الذمَّ والقدح، وباتت المراجعة وإعادة النظر في فقرة أو نص من أفعال الرفاهة التي لا تجد نصيراً.
يضم الكتاب أربعة وخمسين فصلاً، يجمع بينها خيط اللغة. وعمدت بسمة عبد العزيز، وهي أيضا طبيبة وفنانة تشكيلية، وتنشر مقالات في جريدة "الشروق" القاهرية، تبرز جماليات اللغة العربية، ولا تخلو في الوقت ذاته من تناول قضايا سياسية، في سياق كونها ناشطة في مجال حقوق الإنسان، إلى تسمية كل فصل بكلمة واحدة يدور حولها المتن، ويجول بين معانيها في القواميس والمراجع، ويبين استخداماتها وصور إعادة إنتاجها في الحياة اليومية. وجاء الفصل الأول تحت عنوان "فضيلة"، وهي مفردة، تدل على الدرجة الرفيعة من الفضل، والفضل هو المعروف، ونقيض المعنيين النقص والنقيصة. لكن مفردة الفضيلة وما يشتق منها في الخطابات الورقية والرسائل الإلكترونية، من ألقاب تدل في ظاهرها على الاحترام والتبجيل، فقدت – كما تقول عبد العزيز - من رونقها الكثير لفرط الاستعمال، ولتكراره في مواضع لا يستقيم فيها ذكر الفضل والأفاضل والفضليات.
سقطات وهنّات
وبدأت صاحبة كتاب "إغراء السلطة المطلقة" في فصل آخر عنوانه "هوان"، ببيت المتنبي: من يهن يسهل الهوان عليه / ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ"، لتذهب إلى أن الهوان في معاجم اللغة العربية هو نقيض العزّ... "حين يصمت الناس عن فعل لا يرتضونه، وحين تمر الصفعة مرور الكرام، فلا وقفة ولا صرخة ولا اعتراض، تتوالى من ورائها الإهانات وتصبح طقساً عادياً من الطقوس؛ السكوت مرة يضاعف عدد المرّات" ص 140. وفي فصل تحت عنوان "كمون" تقول: "لا أشهر من بيت حافظ إبراهيم في حديث اللغة العربية عن نفسها، وعن ابتلائها بأهلها، إذ يقول: "أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ / فهل ساءلوا الغوّاص عن صدفاتي / فيا ويحكم أبْلى وتَبْلى محاسني / ومنكم وإن عزّ الدواء أساتي". وهي هنا أيضاً تعبر عن قناعة سياسية مفادها أن "الثورة الكامنة مصيرها إلى العلن، والنار الكامنة تحت الرماد مصيرها إلى توهج وبعثٍ جديد، والبعث يأتي بما هو أفضل وأقوى وأنصع، يأتي بما يتجاوز أنصاف الحلول وأشباهها، يقتلع ما أهلك التسوس جذوره، ويضرب في عمق الأرض الجذر المنشود" ص 147.
وعموماً، تلاحظ صاحبة كتاب "ذاكرة القهر" أن الكتب الضخمة التي تُنْجَز في أيامنا هذه خلال أشهر معدودات، "يمتلئ كثيرها بالسقطات والهنَّات، وقد يشوبها إسهاب وتكرار بغير ضرورة يستدعيها السياق أو يفرضها ثقل المحتوى. وتضيف: "إذا سلَّمنا بأن ضخامة النص مدعاة لاحتوائه على أخطاء؛ فما الدافع وقد أوردتْ مجلةٌ عريقة ذات يوم مفردة "ضرب" بدلاً من "درب"، في عنوان رئيس، وكتبت صحف عدة عن العناصر "الإيثارية" بدلاً من العناصر "الإثارية"، كما حلَّت كلمة "المبتورين" محل أخرى أكثر صعوبة هي "الموتورين"، فكانت السقطات كلها باعثاً على السخرية المريرة، لاسيما وقد آوتها نصوصٌ تتسم بالقِصر والتكثيف".
محض أصوات
ومن هنا بات الكلام لدى السواد الأعظم من الناس في مجتمعاتنا هو – بحسب بسمة عبد العزيز - محض أصوات تصدر في تناغم وتتابع، لتتحول إلى ألفاظ وجُمل وعبارات، لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعنى الذي استقرَّ في الضمائر ولا تُلزِم صاحبها غالب الأحيان، فإذا جاء الكلام مفتقراً إلى الصدق أو باعثاً على اللوم والعتاب؛ وجد من يدافع عنه بسؤال استنكاري دارج الاستخدام: هو الكلام بفلوس؟ لم تعد لغتنا الأم لغة علم وبحث واكتشاف، إنما لغة تراشق وتعريض واستعراض. فقدت الدقة والحساسية وبلاغة الاصطلاح ومتانة التعبير، وتحوَّلت إلى التهويل وتشويش القصد والتمييع. صارت أيضاً أداة لتفكيك الوعي والسيطرة عليه وفرط نسيجه، لاسيما وقد انتقل القمع من المادي إلى المعنوي، من المباشر إلى المتخفي، من الصريح إلى المتلون.
وتورد عبد العزيز في مقدمة كتابها أن الأبحاث والدراسات التي أجريت على تلامذة صغار من أبناء العرب، تقول إن كثيرهم لا يتقن لغته، وإن بعضهم يجد صعوبة في التمكن من مبادئها البسيطة، لا في مصر أو شمال أفريقيا فقط، بل على مستوى البلدان العربية كافة. في الوقت ذاته، تذكر البيانات والإحصاءات الموثقة أن تلامذة المراحل التمهيدية في بلدان أخرى لا تنتمي للمنطقة العربية بأسرها ومنها مثلاً جزيرة مالطا يتفوقون على أقرانهم العرب في اختبارات اللغة الأم، وهو أمر تعكسه دون لبس النتائج الدورية المسجَّلة.
أداء منخفض المستوى
ولعلّ مما يؤرق الذاكرة ويترك فيها علامة تحذير دامغة - تقول عبد العزيز - أن التلامذة المالطيين الذين خاضوا اختبار "الدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القراءة في العالم"، منذ ما يزيد على عقد من الزمان، حقَّقوا معدَّل درجات أعلى مما سجَّلته الدول العربية قاطبة؛ ثرية وفقيرة، حديثة وعريقة، وفي الإطار ذاته أكدت اختبارات القراءة الشفوية ومقاييس الكفاءة أن معظم تلامذة العرب مصنفون تبعاً للمعدلات الدولية في فئة "الأداء منخفض المستوى". أما والحال كذلك؛ فإن شباباً كثراً ينتهون من دراستهم الثانوية وأحياناً الجامعية، وما برحوا يرتكبون من الأخطاء الإملائية ما يهين، واللوم لا يقع عليهم إنما على منظومة ضحلة؛ تختلط فيها الأولويات وينزلق الرأس منها مكان اليلـ تعنى بالمظهر دون الجوهر، وتتأنق بالصوت دون الفكرة، وتحتفي باللامع دون الأصيل، بحسب بسمة عبد العزيز التي اختارتها مجلة Foreign Policy عام 2016 في قائمتها السنوية "مائة من قادة الفكر في العالم". وفي الختام تذهب بسمة عبد العزيز إلى أن علماء اللغة ما برحوا يقارنون بين مكانتها في مجتمعنا ومجتمعات أخرى، بعضها يجاورنا في الموقع الجغرافي، والبعض الآخر ينتمي إلى العالم المتقدم في الغرب، وجميعها تدرك أهمية الكلمة وقيمتها... "لم يترفع شعب منها عن لغته، ولم يعلن أن في الاحتفاظ بلسان أبنائه قوياً عفياً طليقاً، إساءة أو إهانة، فالعكس هو الصحيح، وعجزُ المتكلمين عن التعبير وعن النطق السليم واستعانتهم بألسنة أخرى، ليس دلالة على الغنى ولا على المستوى الطبقي المتميز، بل على فكر مسطّح تافه، يتنصَّل صاحبُه من الجِذر ويتمسَّح بالآخر؛ فيما يحترم هذا الآخر لسانه، ويوليه ما يستحق من عناية وتقدير".