Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

الرّاوي الشعبي يمثل ذاكرة جماعية تقاوم الزمن

أسامة خضراوي ينطلق من نظريات التلقي ليبحث في العلاقة بين الحكواتي وجمهوره

جلسة الحكواتي في ساحة الفنا (من الكتاب)

يبدو الناقد المغربي سعيد يقطين حاسماً في مسألة الاعتراف بقيمة الراوي الشعبي، وإخراجه من الإطار الذي صنعه له المجتمع وفق رؤية ضيقة، تجعل منه متسولاً بالحكايات. لقد عبر عن هذا الموقف في شكل عميق في تقديمه للكتاب الجديد للباحث المغربي أسامة خضراوي "أسرار الحكواتي" الصادر عن معهد الشارقة للتراث. يقول يقطين: "ليس الراوي الشعبي مجرد شخص يجمع الناس حوله ليحكي لهم قصص الغابرين في مقابل ما يقدمونه له من صدقات. إنه صوت ثقافي يحمل ذاكرة شعبية جماعية قاومت الزمن، وهو يعمل على ترهينها باستمرار، مقدماً من خلالها خلاصات تاريخ ثقافية وتجارب حياتية ثرية".

وعدد يقطين المهارات التي يمتلكها الراوي الشعبي، التي يجتهد في توظيفها كي يجمع الناس ويبقيهم حوله لأطول فترة زمنية ممكنة. وهي مهارات ترتبط بالأداء والتواصل والإقناع واللغة والكفاءات الخطابية. وكانت معظم القرى والمدن المغربية مأهولة بحلقات الرواة الشعبيين، سواء تلك التي كانت تعقد في الساحات العامة أو في الأسواق الأسبوعية. لذلك يتحسر يقطين على تراجع هذه الظاهرة، خصوصاً بعد رحيل حكواتيين مغاربة كان لهم صيت وحضور.

في كتاب "أسرار الحكواتي"، الذي أشاد يقطين بالجهد الكبير المبذول في تأليفه، سعى أسامة خضراوي إلى نفض الغبار عن مخزون ثقافي مهم، كانت ألسنة الرواة الشعبيين إلى عهد قريب تتداوله بصيغ وأشكال مختلفة، يمتزج فيها المتوارث بالفردي، إذ يعمد هؤلاء الرواة إلى إضافة أحداث وتفاصيل وحوارات جديدة إلى محكيات سابقة، في سياق الاجتهاد الفردي. فالسير الشعبية حين تخرج من بطون الكتب، أو من مصادرها الأولى تصير نصوصاً شفاهية خارج الملكية الفردية، إذ تغدو ملكاً للجميع. لهذا فصل الباحث في مستهل كتابه بين الأدب الذاتي والأدب الشعبي. فهو بصدد الاشتغال على مادة يصعب التحكم فيها، بصعوبة إسنادها إلى مرجع محدد.

نظرية غربية للأدب الشعبي

اللافت أن الباحث المغربي استند إلى نظرية غربية لمقاربة تراث شفهي محلي. وما يعزز مشروعية هذا الاستناد هو أن البحث انصب بالأساس على تلقي السير الشعبية من الرواة. لذلك كان مفيداً أن يحتكم الباحث إلى أفكار المؤرخ الأدبي الألماني هانس روبيرت ياوس المرتبطة بجماليات التلقي. ومن المعروف أن الكتاب النظري الأساسي في هذا الموضوع للناقد الألماني "جمالية التلقي" كان عنوانه الفرعي بمثابة شعار يبين الغاية التي ينشدها صاحبه: "من أجل تأويل جديد للنص الأدبي". وهذا أيضاً ما راهن عليه الباحث المغربي، وهو يتعقب أشكال تلقي الذاكرة الشعبية. فمتلقي السير الشعبية يعتبر عنصراً أساسياً في كل دراسة تتوخى التعمق في هذه النصوص. فهو ليس عنصراً مستقبلاً فحسب لمحكيات متوارثة، بل هو طرف مهم في عملية التفاعل. لقد كانت السير الشعبية على مر العصور تجلياً من تجليات الامتلاء النفسي. لذلك فالمتلقي يبحث عن نفسه داخل هذه السير، إنه يبحث بالتحديد عن بطولة ما، ضمن ملاحم وأمجاد وانتصارات أبطال السير الشعبية. إن ملامح جمهور الحلقات الشعبية للرواة، وهو في أغلبه ينتمي إلى الفئات البسيطة في المجتمع، تتغير نحو الابتهاج والزهو وهو يتعقب ما يحققه بطل الحكاية من انتصارات ومفاخر وأمجاد، وربما يكون في تلقي هذه الانتصارات المتخيلة تعويض لهزائم وإحباطات واقعية.

لقد كان الباحث المغربي أسامة خضراوي حريصاً على التنقيب في المساحة التي تجمع بين الراوي وجمهوره، وهي المساحة ذاتها التي اشتغل عليها هانس روبيرت ياوس في بحثه عن المشترك بين المؤلف وقارئه. وصرح خضراوي بافتتانه بنظريات التلقي عند المفكر الألماني الذي انتقد لوسيان غولدمان وجورج لوكاتش والشكلانيين الروس وأقطاب التيار الوضعي بسبب إغفالهم لوظيفة المتلقي، وما يخلقه من حالات اشتباك وتجاذب وتنافر مع المؤلف، فضلاً عما يمنحه للنص من قراءة وتأويل. تكمن خطورة القارئ في كونه يسهم في خروج النص من سلطة المؤلف، ويقطع مع الصورة القديمة التي ترفعه إلى مقام القداسة، بدعوى أن كل شيء يوجد في النص، وأن المعنى الأوحد هو ما دار في ذهن الكاتب وبثه في كتابه. 

ساحة جامع الفنا مسرح للرواة

يطلق على الراوي الشعبي في المغرب "الحلايقي" نسبة إلى الحلقة، أي الدائرة البشرية التي تتشكل حوله حين يشرع في الحكي. وتعتبر ساحة "جامع الفنا" بمدينة مراكش إحدى أعرق وأشهر الساحات المحتضنة لحلقات الحكواتيين، ويتوافد عليها الزوار من داخل المغرب وخارجه على مدار العام بالنهار وبالليل. لذلك خصها خضراوي بدراسته المطولة، واصفاً حكواتيي الساحة بالكائنات الهشة اجتماعياً، والمثقلة بأعباء الحياة اليومية، لكنها في الآن ذاتها قادرة على إبهاج وإبهار الجمهور، بشكل يومي، بمحكيات شعبية آسرة.

يقوم الحكواتي في مراكش بالإشراف على عملية تنظيم حلقته، إذ يطلب من الأطفال والشيوخ الجلوس في الصف الأولى، ويوفر لهم أحياناً أفرشة مجتزأة من علب الكرتون، بينما يوجه الشباب والكهول إلى الوقوف وراءهم. اللافت أن رواة الساحة غالباً ما يضعون أمامهم كتاب "ألف ليلة وليلة" أو أحد كتب السيرة في إشارة إلى المرجعية التي تحكم نشاطهم، وفي سياق خلق نوع من التعاقد مع الجمهور.

توقف خضراوي عند نموذج الحكواتي المغربي الراحل الشيخ كبيري، وكيف كانت محكياته تؤثر في رواد حلقته خلال المرحلة الكولونيالية، فقد كان يسهم في زرع الوعي والتحريض ضد المستعمر. وهي المهمة التي كان يقوم بها حكواتي آخر في أربعينيات القرن الماضي، هو الشيخ بومقيس الذي كان يسحب من حين لآخر أحد المتحلقين حوله، حين يراه يحك رأسه، ويفلي شعره أمام الناس قائلاً: "كلاهما حشرة مضرة، القمل والاستعمار".

وانتقل خضراوي للحديث عن الشيخ حماد الشاوي الذي كان يبث رسائل ذات قيمة أخلاقية، فضلاً عن المعرفة التي ينقلها إلى سامعيه، التي يحرص على تجميعها من الكتب التراثية التي دأب على قراءتها. وعرف عن هذا الحكواتي أنه كان يشرك معه الجمهور في تجسيد بعض الأدوار التي تحفل بها قصصه.

الجمهور يشارك في السيرة الشعبية

استقدم الباحث المغربي مفاهيم نظرية من المدرسة النقدية كونستانس، التي يتزعهما هانس روبيرت ياوس، ليقارب بها تلقي الفرجة الشعبية: "أفق انتظار المتلقي"، و"القارئ النموذجي"، و"القارئ الضمني" و"المسافة الجمالية". غير أنه يشير إلى الصعوبات التي تعترض فهم عملية التلقي في الحلقة الشعبية، بسبب الاختلافات الكبيرة في طبيعة المتلقي، فرواد الحلقة الشعبية يختلفون في الأعمار والجنس والحالة الاجتماعية وأنماط التفكير.

اقرأ المزيد

وفضلاً عن التفاعل النفسية والتماهي الوجداني، فإن متلقي حلقات القصص الشعبية يمارس أيضاً وظيفته في بناء الحكاية عبر تدخلاته الحوارية مع المؤدي. بالتالي فهو قادر على تحويل مجرى العرض والتأثير في عديد من تفاصيله.

تناول خضراوي ثلاث سير شعبية بالدراسة والتحليل على مستوى التلقي، هي "سيرة الأميرة ذات الهمة" و"سيرة عنترة بن شداد" و"سيرة سيف ذي يزن"، وفق الصيغة التي تروى بها من لدن حكواتيي ساحة جامع لفنا. واعتمد منهجاً يختبر مسافة التلقي بناه على الأركان التالية: الاستقطاب وأفق التلقي وذخيرة النص والقارئ الضمني.

ويقصد بالاستقطاب المهارات التي يوظفها الحكواتي من أجل شد انتباه المارة ورواد الساحة من أجل تجميعهم حوله، وتتجلى هذه المهارات في مقدمة السيرة، إذ يستثمر الراوي الخطاب الديني من أجل خلق نوع من الاستقرار النفسي والروحي لدى المتلقي. أما أفق الانتظار فيرتبط بالمسح الأولي الذي يقوم به الراوي من أجل معرفة نوع جمهوره، وقراءة تطلعاته، فضلاً عن تدخله في بعض التفاصيل ولجوئه إلى عنصر التشويق حين يدرك أن المتلقي يقف على حافة الملل. ويقصد بذخيرة النص تلك الفجوات المتضمنة في الخطاب، التي يسعى الراوي إلى ملئها بتشارك مع الجمهور. أما القارئ الضمني فيقصد به الباحث الحالات التي يتحول فيها المتلقي إلى منتج للخطاب، عبر المساهمة في بناء النص واقتراح حلول وبدائل جديدة.

أسهم بحث الناقد المغربي أسامة خضراوي "أسرار الحكوات: جماليات الحكي وذخائر السير الشعبية" في إثراء النقاش حول علاقة المتلقي بهذا اللون الذي يندرج ضمن فنون القول، كما أسهم في رد الاعتبار إلى الثقافة الشعبية.

المزيد من ثقافة