ملخص
أسهمت العائلة في العصر الذهبي لأوروبا وامتدت فروعها في الدول والقارات وحاكت حولها "نظرية المؤامرة" القصص والإشاعات
من بين أهم العائلات الأوروبية التي عرف اسمها في القرون الثلاثة الغابرة يأتي اسم عائلة روتشيلد، لا سيما أن هذا الاسم ارتبط ارتباطاً عميقاً بأسواق المال وأعمال الصيرفة في أوروبا منذ منتصف القرن الـ18.
ما الذي استدعى إعادة قراءة تاريخ هذه الأسرة، بكل ما فيها من وقائع ثابتة تاريخية، ومظلوميات دعائية، يرى البعض أنه تم ترويجها ضدها من قبيل الأساطير؟
المؤكد أن وفاة رجل الأعمال البريطاني اللورد جاكوب روتشيلد، سليل العائلة المصرفية الشهيرة عن عمر 87 سنة، هو من ذكر الناس من جديد بأبعاد القصة.
عرف اللورد جاكوب بحياة مهنية ناجحة، فقد بدأ في بنك العائلة "أن أم روتشيلد وأولاده"، في عام 1963، قبل أن يسعى في تأسيس مجموعته المالية الخاصة المعروفة باسم "جاي روتشيلد للتأمين"، التي أصبحت الآن "سانت جيمس بليس"، مع السير مارك واينبرغ في عام 1980، والعهدة هنا على صحيفة "غارديان" البريطانية.
والشاهد أنه بمجرد ذكر اسم هذه العائلة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، تنفتح سيرة مثيرة، غالب الظن أنها تحتاج إلى نوع من أنواع المراجعات الفكرية، لا سيما في ظل الانفجار المعلوماتي المعاصر، الذي تختلط فيه الوقائع بالأكاذيب.
من أين البداية؟
مئير أمشيل... مؤسس سلالة روتشيلد
يلفت الاسم "روتشيلد" أعين القراء أول الأمر، ويعود في واقع الأمر إلى "لافتة حمراء" (روت-شيلد)، وهي لافتة كانت مثبتة على عتبة بيت العائلة في حي اليهود في مدينة فرانكفورت في منتصف القرن الـ18، وأصبحت مع مرور الأيام رمزاً لها.
تبنى مؤسس العائلة مئير أمشيل، اللافتة كاسم لعائلته، ورموزها - كمثال لقيمها. اللافتة عبارة عن درع من البرونز في وسطه ذراع تحمل خمسة أسهم ترمز له ولأبنائه الخمسة. وفي أسفل اللافتة تظهر الكلمات "وحدة واجتهاد ونزاهة"، التي اعتبرتها العائلة طوال القرون الثلاثة الماضية القيم الأساسية لها.
أسس مئير أمشيل روتشيلد عمله المصرفي في القرن الـ18، وراكم نجاحات وراء نجاحات مكنته من تأسيس عائلة مصرفية دولية، ومن ثم توريث ثروته لأبنائه الخمسة الذين نشطوا في تأسيس أنشطة تجارية في كبريات الحواضر الأوروبية مثل لندن وباريس وفرانكفورت وفيينا ونابولي، مما جعل الأسرة تبدو وكأنها شبكة مالية قوية حاضرة فاعلة في كل الأوقات عبر عصب الحياة أي المال.
يسر المال طريق العائلة لترتقي إلى مصاف النبلاء في الإمبراطورية الرومانية المقدسة (ألمانيا خصوصاً)، وفي المملكة المتحدة، التي كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.
خلال القرن الـ19، امتلكت عائلة روتشيلد أكبر ثروة خاصة في العالم، وكذلك في تاريخ العالم الحديث.
بحلول القرن الـ20، بدأت هذه الثروة تتراجع، لا سيما بعد أن تم تقسيمها بين أجيال الأبناء والأحفاد، وإن استمر جميعهم في السياق ذاته، أي دائرة المال والبنوك والصيرفة، ومع توالي الأيام أسهموا في أعمال العقارات والتعدين والطاقة والزراعة وصناعة النبيذ.
لم يفت آل روتشيلد الدورين السياسي والأهلي، وقد تركوا بصمات واضحة خلال مسيرتهم الحياتية في أوروبا وفي غيرها من دول العالم، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية.
على أن أحد أهم الأسئلة: هل كان العداء للسامية في أوروبا في تلك الأوقات التي استهل فيها مئير روتشيلد (1744-1812)، حياته وأعماله هو السبب الرئيس والمباشر للاتهامات التي وجهت، وربما لا تزال لهذه الأسرة؟
ذكاء مالي مبكر لمؤسس العائلة
يكاد يكون تاريخ عائلة روتشيلد غير منقطع الصلة بالحضور اليهودي في أوروبا، وقد لاقى كثير منهم مصاعب حياتية جمة، لا سيما من قبل ما عرف باسم "محاكم التفتيش"، ولهذا كان جل اهتمام العائلات الأوروبية اليهودية العمل في مجالات متحركة سريعة، كالأموال وصناعتها الصيرفية، لا في الأراضي والعقارات التي يمكن أن تنزع منهم في أي وقت يشاؤه أي حاكم أوروبي.
قبل نهاية حياته ومغادرته عالمنا، قام الأب المؤسس مئير روتشيلد بتنظيم العائلة بشكل فائق الذكاء من الناحية المالية، فقد وضع أسس شبكة مالية غير مسبوقة، ربما تجاوزت في مقدرتها دولاً أوروبية بعينها.
نشر روتشيلد المؤسس أبناءه وأحفاده عبر خمس دول أوروبية: إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا، وأوكل إليهم مهمة العمل في أهم بلدان العالم آنذاك.
عمل روتشيلد على تأسيس مؤسسة مالية لكل فرع من العائلة في تلك الدول مع تأمين ترابط وثيق بينها، فقد وضع سلسلة من القواعد تسمح بتبادل المعلومات ونقل الخبرات بسرعة عالية بين هذه الفروع مما يحقق أقصى درجات الفائدة والربح.
بدت خريطة النفوذ المالي العائلي لروتشيلد تتبدى بعد أن جعل ألمانيا من نصيب ابنه "أتسليم"، والنمسا من نصيب ولده سالمون، أما بريطانيا فوقعت في ملكية ناتان، فيما سلم فرنسا إلى جيمز.
أما المثير الذي يستدعي التوقف أمامه بعمق هو اهتمام مئير الفائق بحاضرة الفاتيكان، التي لم تكن قد أصبحت دولة بعد، غير أن الرجل المتقد الذكاء أدرك بعمق أن "المؤسسة الرومانية الكاثوليكية" تلعب دوراً مهماً وفاعلاً في كل دول القارة الأوروبية بنوع خاص، وحول العالم أيضاً، ولهذا وضع ابنه كارل هناك، على رغم عدم وجود مراكز مالية متقدمة في الفاتيكان في ذلك الوقت.
ذكاء مئير روتشيلد لم يتوقف عند التقسيم الجغرافي والديموغرافي لأسرته وتوزيعهم حول العالم، وإنما امتد لجهة الحفاظ على "نقاء السلالة" في أسرته، إذ رسم علامات حمراء تضمن ترابط العائلة واستمرارها، ووضع درجات للمشهد تبدأ من عند الارتباط والتزاوج بين أبنائه الخمسة أول الأمر، ولأنه كان يتوقع مع مرور الزمن توسع شبكة العائلة، وتفضيل الأحفاد لاحقاً الزواج من خارج العائلة، لذا صمم على أن تكون الزوجات من عائلات يهودية ذات ثراء ومكانة، مما يعضد من مربعات نفوذ الأسرة حول القارة الأوروبية.
على أن التساؤل المثير في قصة آل روتشيلد يتمثل في الدور المهم والحيوي الذي قاموا به لا في أزمنة السلم فحسب، بل في أزمنة الحروب أيضاً، وكيف استطاعوا أن يجعلوا من شبكاتهم المالية عوناً وسنداً لدول بعينها لا سيما بريطانيا في حروبها مع جيرانها وبخاصة فرنسا.
ناثان روتشيلد ودعم حروب بريطانيا
يحتاج الحديث عن الدور الذي قامت به أسرة روتشيلد في دعم بريطانيا خلال حروبها مع فرنسا إلى مؤلفات قائمة بعينها، حيث التفاصيل العديدة الواسعة التي جرت بها المقادير في الفترة ما بين (1803-1815).
كان ناثان روتشيلد هو القائم على مخططات الأسرة وأعمالها في المملكة المتحدة، ولم يعد سراً أن الأسرة قد راكمت من الثروات الكثير، لا سيما سبائك الذهب.
تذكر دفاتر التاريخ كيف أن ناثان روتشيلد لعب دوراً مهماً في تجهيز الجيوش البريطانية، لا سيما تلك التي كان يقودها الجنرال البريطاني الشهير أرثر ويلزلي، فقد نظم شحنات من سبائك الذهب، تلك التي لعبت دوراً فعالاً ومهماً في تمويل المجهود الحربي، إضافة إلى تقديم الدعم المالي لحلفاء بريطانيا، وبحديث الأرقام فقد قدم ناثان روتشيلد لهؤلاء الحلفاء نحو 9.8 مليون جنيه استرليني تبلغ قيمتها اليوم نحو مليار دولار أميركي.
كانت أوروبا في هذا التوقيت تعاني حرب الـ30 عاماً، ممزقة، مهلهلة، بين حروب أهلية وبينية، لم تتوقف إلا بعد عقد صلح ويستفاليا عام 1648.
في هذه الأجواء عرفت أسرة روتشيلد كيف تستفيد من تلك الأجواء، فقد طورت شبكة من الوكلاء لنقل الذهب عبر القارة المتناحرة.
رويداً رويداً بدت الخطة الماهرة للأب المؤسس تؤتي ثمارها، فقد كان الإخوة الأربعة المنتشرين في العواصم والمراكز الأوروبية المتقدمة، سياسياً وعسكرياً، يزودون أخاهم ناثان في بريطانيا بالأخبار المهمة، والمعلومات ذات السرية الفائقة، ولا سيما المالية منها، مما منح ناثان ميزة في الأسواق وجعل من منزل روتشيلد مكاناً أكثر قيمة بالنسبة إلى الحكومة البريطانية.
وما من شك أن ناثان وإخوته كانت لهم أعين وآذان في القلب من الجيوش البريطانية المحاربة، لا سيما خلال معركة واترلو، التي أنهت إمبراطورية نابليون على يد الجنرال أرثر ويلزلي.
عرف ناثان كيف يحول المعلومات العسكرية إلى فوائد مالية فارقة، فقد اشترى على الفور السندات الحكومية التي أصدرتها بريطانيا بعد النصر، ثم انتظر لمدة عامين ومن ثم باعها في الأسواق عام 1917 بربح قدره 40 في المئة.
كان الذكاء المالي غير اعتيادي لناثان، وقد وصفت هذه الصفقة بأنها أجرأ صفقة في التاريخ المالي، إذ بدا في ذلك الوقت سعراً مرتفعاً للغاية، وبالنظر إلى القوة المالية التي كانت تحت تصرف عائلة روتشيلد بدا هذا الربح مبلغاً ضخماً.
لم تتوقف عمليات العائلة في الداخل الأوروبي، إذ امتدت إلى أبعد من القارة القديمة من خلال جيل أحفاد أمشيل روتشيلد.
على سبيل المثال وليس الحصر، بعد وفاة ناثان، تولى أكبر أبنائه ليونيل ناثان روتشيلد، إدارة مصالح الأسرة في العاصمة البريطانية.
كان ليونيل أول عضو يهودي في البرلمان الإنجليزي، وقد اشترك في عمليات مالية مهمة، من بينها تدبير قرض قيمته 16 مليون جنيه لتمويل حرب القرم.
قدم ليونيل كذلك التمويل اللازم لرئيس الوزراء البريطاني العتيد بنيامين دزرائيلي (1804- 1881)، الذي كانت تربطه به صداقة وثيقة، لشراء نصيب مصر في أسهم قناة السويس عام 1875، وهي عملية تمت في سرية وكتمان بعيداً من الخزانة البريطانية، ولم يبلغ البرلمان البريطاني بها إلا بعد إتمامها.
قدم ليونيل روتشيلد كذلك قروضاً وافرة للخديوي إسماعيل في مصر، ولعديد من أعيان القطر المصري وقتها، مما راكم مديونيات هائلة.
من مصر إلى فرنسا والنمسا، حيث اشترك ليونيل روتشيلد في إقامة السكك الحديد في فرنسا والنمسا بالتعاون مع فروع العائلة في الدولتين.
بادر ليونيل روتشيلد بإقامة هذه المشاريع بعد أن تبين له مدى نجاح وأهمية السكك الحديد في إنجلترا التي كانت أول دولة تطورها، وهو مما يعكس تبادل فروع العائلة الخبرات والتجارب في ما بينها. كما قامت مؤسسة ليونيل روتشيلد بتمويل جهود سيسل رودس رجل الأعمال والسياسي والمستكشف، في إقامة إمبراطورية ضخمة لصناعة وتجارة الألماس في جنوب أفريقيا.
روتشيلد ودعم قيام دولة إسرائيل
هل لعبت عائلة روتشيلد دوراً ما في قيام دولة إسرائيل؟
يحتاج الجواب إلى كثير من الموضوعية والموثوقية، عطفاً على البحث المعمق، إذ نجد حقائق مثيرة تبدو وكأنها مثلت قراءة في المعكوس.
بدت عائلة روتشيلد في أواخر القرن الـ19، مثلها مثل غيرها من العائلات اليهودية الثرية المندمجة في غالبية إن لم يكن كل الدول الأوروبية عامة، وفي بريطانيا على نحو خاص، رافضة طرح تيودور هيرتزل، الخاص بإنشاء دولة قومية لليهود في فلسطين... لماذا؟
شمل نوعاً من الخوف تلك العائلات مما قد تثيره هذه الفكرة من ازدواج في الولاء، مما كان له في تلك الأوقات أن يتهدد المكانة المجتمعية، وبكل تأكيد وتحديد المكانة المالية، وبلغ الأمر حد مساهمة عائلة روتشيلد في تأسيس ما عرف وقتها بـ"عصبة يهود بريطانيا"، التي كانت تناهض فكرة هيرتزل ودعوته.
هل استمر موقف عائلة روتشيلد على هذا النحو طويلاً؟
الثابت تاريخياً أنه تغير لاحقاً، وقد كان وراء التغير دخول مفهوم أعم وأشمل، تمثل في أن وجود دولة يهودية في فلسطين أمر يخدم مصالح الإمبراطورية البريطانية، وقد كان هناك من نجح في تقديم هذه الدولة المنتظرة، على أنها الحل العملي لتحويل هجرة يهود شرق أوروبا إلى فلسطين بعيداً من إنجلترا وغرب أوروبا.
ولعله من البيانات التاريخية المتاحة أن ليونيل روتشيلد (1868-1937)، الذي كان مسؤولاً عن فرع العائلة في إنجلترا، وزعيم الطائفة اليهودية فيها، وجد نفسه قريباً من كلحاييم وايزمان، أول رئيس لإسرائيل، وناحوم سوكولوف الصحافي والكاتب اليهودي البولندي، وقد قدر للاثنين إقناعه في السعي لدى حكومة بريطانيا لمساعدة اليهود في بناء وطن قومي لهم في فلسطين.
لم يتردد ليونيل بل سعى إضافة لاستصدار وعد بلفور وإلى إنشاء ما عرف بـ"الفيلق اليهودي"، داخل الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى.
لاحقاً لعب إدموند روتشيلد (1845-1934)، رئيس فرع العائلة في فرنسا، دوراً في تمويل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وحماية المهاجرين، ثم تولى حفيده والمسمى على اسمه رئاسة لجنة التضامن مع إسرائيل عام 1967، وقدم استثمارات ضخمة لإسرائيل خلال فترة الخمسينيات والستينيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
روتشيلد عائلة مستهدفة بنظرية المؤامرة
هل وقعت عائلة روتشيلد تاريخياً في حبائل نظريات المؤامرة؟
نظريات المؤامرة هي حكايات كاذبة تختزل القضايا والوقائع في "مكائد" ذوي السلطة وأصحاب النفوذ، وتقدم حكاية بسيطة وسطحية لتلك الوقائع المعقدة، وتزعم أن جماعة مشبوهة وذات نفوذ تؤثر في سريان الأمور، وتغير بعض الوقائع المهمة في العالم أو كلها على هواها، وتتحكم بجميع ما يجري في عالمنا المعاصر، ويتم الترويج لهذه النظريات بإحدى طريقتين:
من الأعلى إلى الأسفل، وهنا نجد أن الأب المؤسس لعائلة روتشيلد، قد وجهت لها سهام عديدة، وحيكت قصص حول تلاعبه المالي بمقدرات القارة الأوروبية.
ومن الأسفل إلى الأعلى، وهو ما عانته العائلة بفروعها المختلفة، عبر الأحفاد المعاصرين.
ولعل الناظر إلى عائلة روتشيلد، يقطع بأن هناك علاقة جذرية بين رؤوس الأموال التي حازتها، والروايات المختلفة التي نسجت من حولها قبل 300 عام وحتى الساعة.
عرف الأوروبيون خلال القرن الـ19 رسومات فنية عديدة، أسهمت في تشويه صورة روتشيلد وعائلته، وربما ساعد في ذلك حالة العداء للسامية التي كانت سائدة في أوروبا في تلك الأوقات ولم تهدأ جذوتها إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والندم الذي طاول القارة من "الهولوكوست" النازي.
ولعله من المثير أن تلك الدعاية السيئة السمعة التي لحقت بالعائلة ظلت باقية حتى حاضرات أيامنا، ففي سنوات تفشي جائحة "كوفيد-19"، راجت أخبار عن علاقة الأسرة بالفيروس، وكيف أنها علمت بشأنه قبل سنوات من تفشيه، وأنها صمتت لكي تحقق أرباحاً مالية من شركات الأمصال التي تمتلكها.
ومن الأخبار التي تبدو زائفة في حق الأسرة أنها تمتلك قرابة 500 تريليون دولار، وهو رقم يبدو بالفعل خيالياً، كما أن هناك من يقطع بأنها شريكة بالنصف في البنك الفيدرالي الأميركي.
هنا يبدو أفراد عائلة روتشيلد كأنهم محملون بـ"خطايا العالم"، ومسؤولون عن "كل العلل" التي تصيب البشر في العقود الثلاثة الأخيرة.
ولعله في حكم المؤكد أن عائلة أسطورية على هذا النحو، وتدير إمبراطورية مالية، لا بد لها من البحث عن مصالحها، وعقد الصفقات مع الدول والحكومات، ونسج شبكات من العلاقات مع مؤسسات وعائلات أخرى تكاد تشابهها في المنشأ والمسار، لا سيما عائلة روكفلر في الولايات المتحدة، وما بين هذه وتلك تنشط الذاكرة المؤامراتية، لتخلط كثيراً من الحقائق مع الأوهام، وإن بقيت الحقيقة في كل الأحوال في وضع متوسط بين تطرفين.
هل قبل فرنسيس يد العائلة؟
من بين ما راج من أخبار حول هذه العائلة، وانتشر على مدى واسع حول العالم في الأعوام الماضية، تلك الصورة التي صدرت في أوائل يونيو (حزيران) من عام 2020، وفيها يظهر البابا فرنسيس، سيد الفاتيكان، وهو يقبل يد أثرياء من عائلة روتشيلد.
في تلك الأوقات شنت "فيالق الحمقى"، بحسب تعبير السيميائي والفيلسوف الإيطالي إمبرتو إيكو، حملة شعواء على البابا، واتهموه بأنه يداهن العائلة الأكثر شهرة وثراء، وأن وراء الأمر علاقات مالية عميقة تجمع حاضرة الفاتيكان مع أسرة روتشيلد، وربما ما هو أكثر تعقيداً من العلاقات المالية، لا سيما أن هناك أصواتاً عديدة في أوروبا لم تنفك تتهم فرنسيس بعلاقات مع جماعات سرية تعمل منذ القدم في أوروبا، وبنوع خاص الجماعة الماسونية الشهيرة.
تم تصدير الصورة للعالم مع تعليقات شتى، كلها تنتقص من مقام "السدة البابوية"، منها على سبيل المثال تعليق يقول: "في الديانة المسيحية الكل يقبل يدي البابا إلا البابا نفسه، فإنه يقبل يد هذه العائلة".
هل كانت الصورة حقيقية أم أنها كانت ضمن أدوات نسج الفكر المؤامراتي الممتد ما بين الفاتيكان وعائلة روتشيلد؟
الحقيقة كانت مغايرة بالمرة، ففي الـ25 من مايو (أيار) 2014، أي قبل أيام معدودات على بدء ظهور هذه المنشورات، استهل البابا فرنسيس زيارة إلى الأراضي المقدسة جال فيها على القدس وبيت لحم.
في القدس زار فرنسيس محرقة اليهود الذين قضوا في الحرب العالمية الثانية (ياد فاشيم)، حيث أوقد شعلة النصب التذكاري ووضع إكليلاً من الزهور.
في الوقت عينه وجه البابا تحية إلى الناجين من المحرقة، وذلك بحضور الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحاخامات.
عبر فرنسيس عن أسفه مما ارتكب على أيدي النازيين. وقال "من أنت يا إنسان؟ لم أعد أعرفك. من أنت يا إنسان؟ من أصبحت؟ أية فظاعة تمكنت من فعلها؟ من نقل إليك ادعاء إقامة نفسك سيداً على الخير والشر؟ من أقنعك بأنك الله؟ فإنك لم تعذب وتقتل إخوتك فقط إنما قدمتهم ذبيحة لنفسك لأنك رفعت نفسك إلى مستوى الله".
في ذلك النهار قبل البابا أيدي ستة من الناجين من المحرقة كانوا يحضرون الاحتفال، هؤلاء هم الذين دارت من حولهم طاحونة الإشاعات عبر وسائط التواصل الاجتماعي، على أنهم أفراد من عائلة روتشيلد.
وفي الخلاصة، لا يمكن الادعاء بأن هناك عائلة ملائكية الصفات، ولا أخرى شيطانية الملامح، ودائماً تظل الحقيقة نسبية من جانب، ومتوسطة بين تشددين أو تطرفين من ناحية أخرى.