Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بياريت بلوك ابتكرت أبجديات تحاور اللاوعي الجماعي

معرضها الفرنسي يستكشف مبدأي التكرار والتسلسل في عملها التشكيلي

الرسامة الراحلة بياريت بلوك في محترفها (خدمة المعرض)

ملخص

معرضها الفرنسي يستكشف مبدأي التكرار والتسلسل في عملها التشكيلي

"من بين جميع رسّامي زمني، وأبعد من الصداقة التي ربطتنا، إنها الوحيدة التي كانت خياراتها الجمالية والأخلاقية قريبة حقاً من خياراتي". هذه الكلمات كتبها الفنان الكبير بيار سولاج (1919 ــ 2022) بعد فترة قصيرة من وفاة بياريت بلوك (1928 ــ 2017)، وتبيّن مدى احترامه لعمل هذه الفنانة التي ما زالت إلى حد اليوم غير معروفة كما تستحق. احترام يفسّر من دون شك المعرض الذي ينظمه حالياً لها "متحف سولاج" في مدينة روديز الفرنسية، ويتركّز على الجانب التسلسلي من عملها، وتحديداً على سلاسل سبع: "الملصقات الزرقاء" (1971)، "صفحات كتابة" (1986 ــ 1989)، "خيوط من وبر الخيل" (الثمانينات)، "خطوط من حبر" (1995)، "رسوم تنقيطية" (1996)، "رسوم مشبعة" (1997)، و"أوراق آسيوية" (2006).

عنوان المعرض، "سلسلة سرّية"، هو في الواقع عنوان ديوان للشاعر الأميركي الشيئي جورج أوبن الذي كانت بلوك مفتونة به. عنوان يعود إلى عام 1934، ويشير إلى سلسلة رياضية من العبارات، "كل واحدة منها مشتقة تجريبياً، وكل واحدة منها صحيحة تجريبياً"، على قول الشاعر. وسواء بطابعه التجريبي، التسلسلي، أو بسرّيته، يتصادى مسعى أوبن في هذا الديوان مع عمل بلوك، وخصوصاً مع تلك الثمار منه المعروضة حالياً، والتي تبيّن ليس فقط أهمية التسلسل في ممارستها للفن، بل أيضاً تخصيبه لخيال فنانة عثرت على موارد تشكيلية جديدة دائماً في الإكراه المزدوج الذي اعتمدته، ويقوم على تكرار الشكل، وتكرار التكرار.

لمن يجهل بلوك، نشير بدايةً إلى أنها رسامة ونحاتة فرنسية ــ سويسرية طوّرت طوال حياتها فنّاً معجوناً بالدقة والغموض في آنٍ واحد. فنانة لم تنتمِ إلى أي حقل جمالي معروف، وأسّست داخل فنها لإيقاعٍ، لتأرجحٍ جدلي بين فارغ وممتلئ، وبين لون أسوَد كاسِح ولون أبيض ثلجي، أثيري، يحضر كاحتياط. تأرجحٌ سمح لها بابتكار أعمال متسلسلة بوسائل قليلة جداً هي عبارة عن أشكال أولية (نقاط، خطوط، حلقات...)، عن أنواع من الكتابة الخالية من المعنى، عن "أبجديات سرّية"، كما وصفها الناقد الفرنسي فريديريك إيديلمان عام 1978.

رسم وكولاج

وفي هذا السياق، مارست الرسم (بقلم الرصاص والطبشور والباستيل وقلم الفحم)، والتلوين على ورق، والكولاج، والنحت بواسطة وبر خيل ملتوٍ على خيوط من نايلون، مبتكرةً في هذه الوسائط أعمالاً باهرة، بقياسات تارةً صغيرة جداً، وطوراً ضخمة في تمددها الذي يمكن أن يبلغ عشرة أمتار، طولاً، مقابل بضعة سنتيمترات، عرضاً. أعمال تستحضر ببنيتها الشكلية وشعريتها البصرية "ركائز/ سطوح" الفنان الأميركي ساي توومبلي، ولوحات الشاعر الفرنسي هنري ميشو، لكنها تبقى شديدة الفرادة من حيث جمع بلوك فيها بين نظام ظاهر، ومفردات مكثّفة، وسديم كامن لا يستبعد الطرافة. جمعٌ أثمر تارةً كويكبات من البقع أو الآثار الكبيرة أو الصغيرة على ورقة، وطوراً صفحات من الحلقات المتتابعة التي تستحضر بتدويرها خط يد الفنانة الذي تصعب قراءته.

وبقدر ما هو "مغامرة ألوان" (العبارة لهنري ميشو)، يشكّل هذا العمل استكشافاً متواصلاً لإيقاعات: إيقاع ضربات ريشة عريضة تصطفّ على شرائط طويلة من الورق، إيقاع خطوط صغيرة مكرّرة إلى ما لا نهاية، إيقاع خدوش أو دوائر صغيرة غامِرة، أو أيضاً إيقاع خطوط متحرّكة من وبر خيل. عملٌ حاد، شبه استحواذي، يجتاح فضاءه أو سطوحه بحركات متكررة باستمرار، ولا شيء يبدو قادراً على كبحه أو قطع اندفاعه سوى حدود ركيزته.

ملاقاة الزمن

يتكشّف أيضاً عمل بلوك، للمتأمل فيه، مثل مدوّنة موسيقية تسعى بتمددها المتواصل إلى "ملاقاة الزمن"، على حد قولها. مدوّنة لا بداية لها ولا نهاية، على صورة تلك الخطوط التنقيطية الناتجة من لمسات ريشة متواترة، أو تلك المنحوتات الطويلة من وبر الخيل التي تتطلب الاقتراب جداً منها لإدراك دقتها التشكيلية. مدوّنة تكرر الفنانة فيها علاماتها أيضاً وأيضاً، لكن من دون أن تكرر نفسها. فلطخة بعد لطخة، وحلقة إثر حلقة، يندرج التكرار في شكلٍ بديهي في كل واحد من أعمالها، موقّعاً إياه كما تفعل النوتات في معزوفة موسيقية، أو الحروف في نص كتابي. يتجلى أيضاً التكرار في عملها وفقاً لنمط آخر، هو نمط السلاسل. نمط ينبثق من قناعة فلسفية لديها بأننا كبشر عاجزون عن الوصول أو البلوغ، وكل ما نفعله هو متابعة طريقنا، محاولين خلال سيرنا الاقتراب من "شيء ما". والسلسلة تجسّد هذه المحاولة، هذه المراوحة مكاننا أثناء تقدّمنا، التي هجس بها كل من صامويل بيكيت وتوماس برنارد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولأنّ لا مجال هنا لمقاربة جميع سلاسل بلوك المعروضة حالياً، نتوقف عند سلسلة واحدة هي "صفحات كتابة"، نظراً إلى سطوتها. سلسلة تتحاور أوراقها، مثل أوراق متفرّقة لكاتب، وتتمدد خطوطها ــ سطورها، الكثيفة والمتراكبة، مالِئةً إياها من حافتها اليمنى إلى اليسرى، فتبدو مثل كتابة قديمة هرمسية تتصادم "حروفها" وتتداخل بعضاً ببعض. وأحياناً، ولكن نادراً، تتوقف السطور قبل حافة الورقة. أحياناً أخرى، يحضر الحبر الأسوَد باهتاً، كما لو أن الكتابة حصلت بريشة على شفا الجفاف. لكن جميع هذه الأوراق تشهد على تمرين كتابي دقيق ويقظ، نلاحظ فيه، حين نتفحّصه جيداً، علامات (نقاط، خطوط عمودية أو أفقية صغيرة) توقّع فيض التدويرات، كما نلاحظ كتابة فضفاضة، منتفِشة، تبقى ما دون إدراكنا، مهما جهدنا في تحليلها أو في البحث في طياتها بغية استخلاص خصائص تقود إلى فك لغزها وفهم مغذاها. جهدٌ لطالما عارضته بلوك، مؤكدةً أنها أحبّت دائماً حركة الكتابة بذاتها، ومارستها من دون أن تنشغل بشكلٍ أو مضمون، موضحةً أن هذه الكتابة "في العمق، لا تروي شيئاً، بل تنقل طنيناً، أزيزاً، غلياناً أو قرعاً".

وفي هذا السياق، دافعت الفنانة عن "شكلٍ من أشكال اللاعقلانية"، عن فيضٍ نرى، من جهتنا، أنه ينبع ويتغذّى من ذاته، مثل الحياة نفسها، مانحاً بذلك هذه "الكتابة" كل قيمتها. كتابة لا يعني غياب أي معنى محدد فيها، أنها مجانية أو إنفاق حركي عبثي. فكما في نقوش ميشو التشكيلية، وأبجديات جاك فيلوغلي الغامضة، وتدوينات كريستيان دوترومون الشعرية التجريدية، يشكّل نأي بلوك في هذه الأوراق عن القول، بالمعنى التقليدي، أرضية خصبة لانبثاق لغة تحاور الإدراك والحواس بطريقة سحرية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة