ملخص
لو أشرنا اليوم أمام مراهق من جيل الجديد إلى أن سقوط جدار برلين كان بمثابة انتقال العالم من توازن القطبين إلى عالم أحادي القطب فإنه في معظم الأحوال لن يفهم القصد بشكل مباشر
هناك أحداث تاريخية يصبح تاريخ وقوعها اسماً لها، فيقال "أحداث 11 سبتمبر"، فيعرف القارئ أو المستمع أن هذا التاريخ يشير إلى ارتطام الطائرات ببرجي التجارة العالمية في سبتمبر (أيلول) 2001، وهي أحداث وقعت خلال ساعات معدودة، ولكنها من نوع التواريخ التي يقال عنها إن ما قبلها ليس كما بعدها، لأنها غيرت كثيراً في مسار حركة العالم والمجتمع البشري. هناك "حرب يونيو (حزيران)"، وهي بالنسبة إلى المستمع العربي، الحرب الإسرائيلية- العربية التي أدت إلى هزيمة الجيوش العربية وسميت "النكسة"، وحين يقال في العالم العربي "ترانسفير عام 1948"، فهذا التاريخ لا بد أن يشير إلى المستمع العربي وكثير من المتابعين غير العرب إلى تاريخين، أولهما "النكبة" لفريق، وثانيهما تاريخ "إعلان إنشاء دولة إسرائيل" بالنسبة لطرف آخر.
لكن السؤال المطروح هو: هل يمكن تحديد تواريخ معينة مشتركة للمجتمعات والحضارات البشرية المختلفة واعتبارها مفصلاً أدى إلى تغيير مسار الأمور رأساً على عقب؟
الأحداث بحسب زاوية النظر
يرى علماء التأريخ أنه بالطبع يمكن إيجاد تواريخ مشتركة بين سائر البشر يشيرون إليها جميعاً، وهي تواريخ تقفز فوق الحقبات والأجيال والذاكرة الفردية، مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن الـ20، أو مثل "سقوط جدار برلين"، أو قبل ذلك إطلاق القنابل الذرية في هيروشيما وناغازاكاي أو اكتشاف البنسلين واكتشاف القارة الأميركية قبل ذلك بكثير أو الوصول إلى سطح القمر أو اكتشاف الإنترنت، ويمكن العودة إلى الخلف كثيراً لإيجاد تواريخ لأحداث أدى وقوعها لاكتشافات أو لظواهر كان لها تأثير في مجمل المجتمع البشري.
ولكن هناك تأريخاً آخر مختلفاً وهو يتعلق بجيل معين أو بحضارة معينة، وهذه التواريخ قد يتذكرها قسم من الناس ولا يتذكرها أو لا يعتبرها ذات أهمية كبرى قسم آخر من الناس. فمثلاً يتذكر معظم الأميركيين عام 1863 تاريخ إلغاء الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن العبودية، كموعد مهم جداً في تشكل الولايات المتحدة، أو 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1963، يوم اغتيال الرئيس جون كينيدي، الحدث الذي هز الأمة الأميركية. وقد يتذكر الأوروبيون أكثر من غيرهم تاريخ إعلان انطلاق الاتحاد الأوروبي وتوحيد العملة الأوروبية. ولهذا يمكن الاستنتاج أن تحديد التواريخ التي يمكن اعتبارها مفاصل أساسية للمجتمعات البشرية يختلف من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر أيضاً.
لنأخذ مثالين عن حدثين وقفت خلفهما الولايات المتحدة، إلا أن أحدهما يتعلق مباشرة بالذاكرة الأميركية فيما الثاني يتعلق بالذاكرة البشرية العامة، الأول وقع في الثاني من مايو (أيار) 2011، تاريخ قتل أسامة بن لادن العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وبات هذا التاريخ جزءاً من الذاكرة الانتصارية للشعب الأميركي الذي انتظر 10 سنوات كي يشهد انتقام الذاكرة الجمعية الأميركية من شخص تمكن من هز الطمأنينة الأميركية من داخلها، وعلى رغم أهمية الحدث عالمياً فإن الأميركيين يعتبرون أنفسهم معنيين به أكثر من غيرهم، إذ أدى تحطم طائرات مخطوفة في برجي مركز التجارة العالمية بمدينة نيويورك، والبنتاغون في ولاية فرجينيا، وحقل في ولاية بنسلفانيا، إلى خلق تأثير عميق على المجتمع الأميركي مما أدى إلى تغييرات كبيرة في التدابير الأمنية والسياسات الخارجية، وإلى اندلاع حرب الولايات المتحدة على الإرهاب، مع عواقب بعيدة المدى على العلاقات الدولية التي لا نزال نشهد فصولها حتى اليوم، وعمقت الانقسامات والتوترات بين الجماعات الدينية والعرقية المختلفة داخل الولايات المتحدة.
أحداث معناها أكبر من ماديتها
الحدث الثاني وقع في 20 يوليو (تموز) 1969 حين هبطت مركبة "أبولو 11" على سطح القمر، فهذا التاريخ رغم أنه يدل إلى إنجاز أميركي انطلق في سباق مع السوفيات، فإن جميع البشر سواء الواقفون إلى جانب الأميركيين أو السوفيات في هذا السباق احتفوا بهذا التاريخ كخطوة أولى ومهمة للبشرية جمعاء. وعلى أساس هذين المثالين يمكن طرح كثير من الأمثلة التي قد تعني فئة معينة من الناس كالعمال والنساء والمثقفين ولكنها ذات تأثير عام على الجميع أو العكس، على سبيل المثال أدى توقيع معاهدة فرساي في عام 1919 إلى إنهاء الحرب العالمية الأولى ومهد الطريق لفترة ما بين الحربين التي كانت مضطربة رغم اعتقاد معظم دول العالم أن السلام سيعم بعد انتهاء الحرب التي كانت مدمرة بصورة كبيرة بمقاييس ذلك الزمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حدث آخر كان حصول المرأة البريطانية على حق التصويت في عام 1918 علامة فارقة في النضال من أجل المساواة بين الجنسين، وعلى رغم أن حق التصويت هذا يتعلق بالمرأة وببريطانيا تحديداً، فإنه كان بمثابة السبحة التي كرت نحو سائر المجتمعات حين عرفت المرأة أن لها حقوقاً، إما تساويها بالرجل أو تردم هوة التمييز بين الجنسين في الأقل، وهذه القضية ما زالت متفاعلة حتى اليوم في مجتمعات كثيرة حول العالم ما زالت فيها المرأة تعامل وكأنها كائن أقل رتبة من الذكر. هناك أشخاص تهمهم أحداثاً ليست ذات تأثير إنساني عام، ولكنها بالنسبة إليهم ذات قيمة مثل غرق سفينة التيتانيك في عام 1912، الذي اعتبره كثر تذكيراً بأهمية تصحيح الخطأ البشري وما قد ينتج منه من مآس غير متوقعة.
لو أشرنا اليوم أمام مراهق من جيل الجديد إلى أن سقوط جدار برلين كان بمثابة انتقال العالم من توازن القطبين الهائلين إلى عالم أحادي القطب سياسياً واقتصادياً وحضارياً، فإنه في معظم الأحوال لن يتمكن من الربط ما بين سقوط جدار في عاصمة أوروبية وهذا التبدل الهائل في النظم السياسية العالمية، ولهذا يعتبر جدار برلين سواء أثناء وقوفه حارساً ما بين ثقافتين أو مانعاً لتلاقي حضارتين أو بعد سقوطه، حدثاً معنوياً أكبر من كونه حدثاً عملانياً كما هي حال إلقاء قنابل نووية على اليابان. ففي نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، قسم الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، برلين بين السيطرة السوفياتية في الشرق، والأميركية الأوروبية في الغرب. وفي عام 1961 ومن أجل إغلاق الحدود بشكل دائم ووقف تدفق المهاجرين بين "البرلينيين"، أو الألمانيتين، أو الحضارتين الشرقية والغربية، تم في غضون أسبوعين فقط بناء جدار مصنوع من الحواجز الخرسانية والأسلاك الشائكة وأبراج الحراسة. ولمدة 28 سنة، ظل جدار برلين رمزاً قوياً للحرب الباردة، وكان بمثابة تذكير دائم بالانقسام الأيديولوجي العميق بين الشيوعية والرأسمالية أو الشمولية والليبرالية بحسب المصطلحات المستخدمة حينذاك.
أهم أحداث البشرية
هناك أحداث يقع عليها إجماع بين مختلف الحضارات البشرية وكثير من العلوم المتداخلة كونها غيرت في مسار تطور البشر ووصولهم إلى ما هم عليه اليوم، منها على سبيل المثال الثورة الزراعية أو استئناس البشر للنباتات والحيوانات ما بين أعوام 11000 و4000 قبل الميلاد.
وهناك أحداث نتجت عن هذا الاستئناس ومنها الاستقرار ونتج منه ظهور المدن الأولى في بلاد ما بين النهرين في الفترة ما بين 4000 و3000 قبل الميلاد. الاستقرار وظهور المدن أدى بدوره إلى ظهور المركبات ذات العجلات الأولى في بلاد ما بين النهرين وأوروبا الشرقية والقوقاز في فترة تقريبية تعود لتاريخ 3500 قبل الميلاد.
على جانب آخر، وبعد فترة طويلة من بدء استقرار البشر في مدن وحواضر ظهرت في فترة زمنية تقريبية أي في عام 1050 قبل الميلاد، الأبجدية الفينيقية الساكنة، التي أدت إلى ظهور النصوص السامية والعبرية والعربية، ثم في فترة حول عام 800 قبل الميلاد، كيف الإغريق الأبجدية الفينيقية من طريق تحويل بعض الحروف إلى حروف العلة.
وبالطبع يمكن الإضافة على هذه الأحداث، أحداثاً أخرى كثيرة مثل اكتشاف النظرية النسبية لأينشتاين أو وصول الإنترنت إلى جهاز كل شخص حول العالم، مما أدى إلى تغيير كبير في كمية المعلومات التي يحصل عليها كل فرد بعدما كانت المعلومات قبل ذلك تنتقل بواسطة التلقي والتعليم المباشرين.