Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أبطال العمارة القاهرية بين المنور وأعلى السطوح

جار النبي الحلو يسرد في "شجو الهديل" حكايات الهامش الاجتماعي

عمارة مصرية بريشة فاطمة عرارجي (صفحة فيسبوك)

ملخص

جار النبي الحلو يسرد في "شجو الهديل" حكايات الهامش الاجتماعي 

مثل مرايا متجاورة، يضع الكاتب جار النبي الحلو أبطال روايته "شجو الهديل" وجهاً لوجه، فيكشف انعكاس كل فرد منهم باطن الآخر. تدور الأحداث في بانوراما سردية تبدأ مع قدوم فتحي من الريف إلى المدينة للسكن في منور إحدى العمارات السكنية المكونة من خمسة أدوار، ومع وصوله يتشعب السرد بين البدء مع صوت الضمير الأول ثم الانتقال إلى الراوي العليم في تبادل متلاحق بين الصوتين مع جميع الشخوص، وكأنها لعبة نوطات موسيقية متبادلة كل نغمة فيها تشتبك مع أخرى كي تنتج اللحن كاملاً، فالرواية على رغم قصرها (128 صفحة من القطع الوسط) إلا أنها تؤسس عالماً موجزاً مكثفاً تجتمع فيه الأضداد الواقعية والنفسية، وتتجاور في انسجام بديع لتعكس حقائق الحياة من وجوه مختلفة.

جمالية القبح

واختار الكاتب أن يضع فتحي الشاب الفقير المعدم ليسكن في منور أرضي مفتوح لا يملك فيه أية خصوصية، ويرادفه الرسام كمال الشاب المتعلم الذي يسكن في غرفة أعلى السطوح يُراقب ما يجري حوله ويمارس هوايته كرسام، وبين المكانين توجد ثلاثة أدوار يضم كل دور منها إحدى العائلات التي تزدحم أحداث كثيرة داخل حيواتهم.

 هناك الشابة الجامعية سهير التي تعيش مع أمها المصابة بداء السمنة، ثم عائلة الأستاذ فتحي الذي ينزعج من وصول سمية إلى المنور أيضاً، وصاحب البيت الأستاذ عبدالسلام الذي "يبص بين وقت وآخر من شباك المطبخ في الطابق الثالث على المنور، وكل مرة يدهشه ويقلقه ما يفعله فتحي في المنور"، فكل يوم يتغير شكل المنور منذ كنسه ومسحه أول مرة ثم فرشه بقطع الكرتون، "وقد حسده على راحة باله بينما هو عبدالسلام الذي يهجره النوم ويتقلب طوال الليل من جنب إلى جنب، يحسب ويخاف ويعذر ويدين ويتمنى ويعض إصبعه غيظاً، وهذا الفتحي يستلقي على ظهره ويضع رِجلاً على رجل".

وصول فتحي إلى المبنى يُصبح حكاية على كل لسان، يراقبه جميع السكان ويترصدون حركته، وفي الوقت عينه يحاول بدوره قراءة الوجوه واكتشاف العالم من حوله، وعلى رغم فقره المدقع فإنه ينعم بهدوء البال وسكينة الخاطر مما يجعله غير قلق من أي شيء، فهو متجرد من الطموحات المادية التي تثقل الروح، ويقول "أنا الآن مطمئن جداً في هذا المنور، لم يعد خلفي ولا أمامي مشكلات، وبطاقتي الرقمية في حافظتي، وأنا هنا لا بواب ولا متسول، ولا أريد شيئاً من أحد، والباب المشغول بالحديد سأغطيه بالكرتون، ويا دار ما دخلك شر".

تستدعي هذه الرؤية البسيطة للحياة في تجاهل الغائب والمنقوص والاكتفاء بالحاضر، فلسفة الاستغناء القائمة على كسر التعلق والشره نحو المقتنيات والاقتناع بالنزر اليسير مما يعين على العيش، أما إبداعياً فإن طبيعة فتحي الذاتية وطريقة عيشه بين الحمام والعصافير وعنزة صغيرة، ينام على ورق الكرتون ويعلق ثيابه بمسمار، فإنها ترتبط فنياً بمفهوم جمالية القبح الذي يتجلى في جوانب عدة، أبرزها حضور التواصل الإنساني الحقيقي بين فتحي وعماد بن عبدالسلام صاحب المبنى. ويرى عماد في شخصية فتحي مصدراً للثقة والأمان، وفي المنور المتقشف شبه الخالي مكاناً يستريح فيه ويمارس القراءة ويتناقش بما يقرأه مع فتحي، فينقلب قبح المكان وفقره إلى جمال وإحساس بالأمان في عيني عماد، في وقت يمثل له والده الثري اللئيم مصدراً للجشع والخوف.

المحور والهامش

وضمن لعبة المرايا المتجاورة التي اتكأ إليها السرد منذ البداية، تمكن صاحب "العجوزان" في روايته هذه من قلب الأدوار بين محورية الأطراف وهامشها. فتحي الذي يمثل الهامش يصير حضوره محورياً في السرد، إذ يمنحه الراوي العليم مزايا جسدية ونفسية تجعل من وجوده العابر صلة وصل حيوية بين سائر الشخوص، فهو بجسده الضئيل وشعره الأسود المسترسل على رقبته يُذكر الفتيات بأبطال الأفلام الهندية، أما باقي السكان فكانوا ينظرون إليه بنوع من الريبة بلا سبب معلوم سوى خوفهم ممن يجهلونه.

يتحول فتحي إلى المحور من خلال موقعه عند مدخل المبنى وفي قلب المنور، حيث يتمكن من رؤية وسماع حوارات السكان وهم يتحدثون في الشرفات عبر الهاتف أو مع بعضهم، ويراقب الشبابيك المنورة والمطفأة، ويشم روائح الطبخ المتداخلة ويسمع موسيقى الضرب والمعارك التي تصله من شاشات التلفزيون، ويتنبأ بما يدور داخل البيوت وخلف الجدران.

دلالات فنية

ويرتكز النص إلى مجموعة من الدلالات الفنية التي استعان بها الكاتب ليرمز من خلالها إلى حالات وجدانية ونفسية يعبر من خلالها الشخوص عن رؤيتهم للحياة، مثل الاستعانة بأغنية ناظم الغزالي المأخوذة عن قصيدة أبي فراس الحمداني "أقول وقد ناحت بقربي حمامة"، وأيضاً أغنية "يطير الحمام.. يحط الحمام"، وأغنيات أخرى مستلهمة من الطيور البيضاء الرقيقة. وترتبط هذه الإيحاءات بعنوان الرواية لقد استغنى الكاتب عن عبارة هديل الحمام لتكون "شجو الهديل"، وكلمة شجو هنا مأخوذة من فعل "شجا"، ومرادها الهم والحزن العميق الذي لا ينفد.

لكن هديل الحمام في النص يحضر بكل دلالاته المادية والمعنوية مع وصول فتحي إلى المنور ثم تكاتف السكان ليؤمّنوا له إقامة إنسانية إلى حد ما، ويصل الحمام مع بائعة اللبن والجبن، المرأة الريفية اعتماد، ومع دبيب الحياة في تلك المساحة الصغيرة المهملة يعيش فتحي في المنور مع الحمام الذي يتعالى هديله، ويصل إلى الأدوار العليا ويدفع النيام إلى اليقظة الواقعية والرمزية ليغير من الواقع اليومي الراكد لسكان المبنى، ويجعلهم يتساءلون عن أثر الهديل على أرواحهم لنقرأ: "صرت أحب التنصت لهديل الحمام في الصباحات الباكرة، يرتفع الهديل كأنه تسبيح، كأنه تهدج، كأنه مغازلة، كأنه طلب ود، سألت نفسها: هل ضاعت منك اللغة يا سهير".

أما مالك العمارة الجشع عبدالسلام فإن رد فعله على صوت الهديل يختلف تماماً، إذ "ينهض من سريره كمن لسعته عقرب" ابنه المتمرد الحالم عماد يقول: "أجري إلى أبي وهو ينادي يا زفت لأطبطب عليه... يا أبي هديل الحمام جميل". أما الابنة الكبرى العانس آمال فترى في الهديل مرسال حب بينها وبين ساكن السطوح الرسام كمال، فتغني وهي تنظر لفوق للطابق الخامس: "طير يا حمام الدوح وروح لروح الروح". لكن للمفارقة فإذا كان صوت الهديل يوقظ جميع السكان فإن فتحي الذي ينام بجانب القفص الصغير لا يستيقظ مع صوت الطيور، فهو الوحيد القادم من بعيد ويمتلك طبيعة ريفية تجعله متآلفاً مع أصوات هذه الكائنات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وثمة دلالات فنية أخرى في النص مثل رواية "اللص والكلاب" والحوارات المتصلة بين عماد طالب الثانوية العامة وفتحي البالغ من العمر 40 سنة الذي لم يذهب إلى المدرسة ويشكو ضعف البصر، بيد أنه يشتبك مع عماد في حوارت تكشف عن وعي فطري لديه يناقشه في رؤيته لسعيد مهران، بطل الفيلم وليس الرواية، وكيف قتله البوليس وهو ينادي على نور، أما عماد فيعبر عن تأثره بالرواية قائلاً "أنا وأبي مثل سعيد مهران والقدر، لا أفلح في مواجهته ودائما أنكسر".

ستار خلفي

وضمن بناء لغوي محكم وشديد البساطة والعذوبة في آن، ينعطف المؤلف على بعض القضايا الاجتماعية التي تتداخل في ما بينها لتكون الستار الخلفي الأبعد قليلاً عن دائرة المبنى وسكانه، مثل قصة الحب بين حنان الابنة الصغرى لعبدالسلام وزميلها المعيد حازم، وقصة الحب بين سهير ومالك أيضاً، والتواصل الشجي الذي يقوم بين آمال وجارها في السطوح الرسام كمال، وبالتوازي مع قصص الحب المخيبة للآمال يحضر المرض والعجز والخيبة والجشع والأنانية التي تتجسد تفاصيلها مع شخوص الرواية.

وقد وظف الكاتب تقنيات السينما داخل السرد من خلال التقطيع والمشهدية والقفز على أحداث محورية من دون الإخلال بالسرد، كما هو الحال مع إصابة سهير بمرض السرطان، وتتبع سائر الشخصيات في مشهد بانورامي يصف ردود أفعالهم جميعاً على مرضها الذي يكشف عن تعاطف حقيقي عبر تسارعهم للتبرع لها بالدم، وكأن الكاتب أراد استدعاء صورة هذا الوئام والتآلف بين الجيرة من زمن مضى إلى هذا الزمن الذي يقال عنه إن الجيران يعيشون لأعوام في مبنى واحد من دون أن يتعارفوا.

وتكون المعمار الروائي من 15 فصلاً قصيراً، وعلى رغم هذا يتمكن القارئ من تلقي هذا النص الذي ينطبق عليه مقولة "السهل الممتنع"، وفق طبقات سردية عدة يشكل فيه الواقع السياسي إطاراً بعيداً لحيوات الأبطال، ويتجلى بوضوح في حضور رواية "اللص والكلاب" وأعمال أدبية أخرى يأتي الكاتب على ذكرها، وفي هاجس الخوف الذي يُثقل عاتق الأبطال ويحاولون التحرر منه على مدار النص، كما هو الحال مع عماد وحنان وكمال، وأما فتحي، البطل المحوري الذي ينفتح النص معه وينتهي، فإن حريته الداخلية تأتي من تجرده من الجشع وتطلعه إلى الحصول على سقف آمن.

وقد دمج الكاتب داخل الفصل الواحد بين صوت الشخوص وصوت الراوي العليم وصوت راو خارجي يظهر معلناً عن وجوده، ثم يتوارى داخل السرد كأن يقول "كان ذلك الصباح مؤلماً، وحنان شعرت بألم في صدرها، ولكن رقتها صارت عناداً بلا رجعة، وبصفتي الراوي العليم أعرف أنها بالأمس نهضت بغضب".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة