ملخص
هل باتت قضية الكابلات البحرية واحدة من قصص صراعات الأقطاب الدولية؟
مرة أخرى تعود الأهمية الكبرى للبحار والمحيطات، تلك التي كانت عنواناً للهيمنة الأممية طوال قرون، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد كانت القاعدة، أن من يسيطر ويهيمن على البحار يمكنه أن يبسط نفوذه حول العالم.
من هذا المنطلق تبدت قدرات الإمبراطورية البريطانية، من خلال مقدراتها البحرية، وقد سبقتها إمبراطوريات أخرى من زمن الأثينيين والفرس والإمبراطورية الرومانية.
عرف العالم الولايات المتحدة الأميركية بدورها كقوة بازغة، من خلال أساطيلها البحرية، وقد بلغت شأناً عالياً لا سيما في العقود الأخيرة، بعدما باتت أساطيل واشنطن تجوب الكرة الأرضية مرة كل 24 ساعة.
على أنه ومنذ أن بدأت مغامرات ارتياد الفضاء، ومع برامج العسكرة الفضائية، بدا وكأن هناك تراجعاً للأهمية النسبية للبحار والمحيطات، لا سيما بعد أن اعتبر البعض أن من يسيطر على الفضاء قادر على تسيير حركة الأرض، إلا أن متغيراً جديداً يختص بنقل المعلومات عبر خطوط تحت المياه تسمى "الكوابل"، يبدو أنه أعاد النظر إلى الأهمية الاستراتيجية لما يجري تحت المياه، وبشكل لا يقل أهمية عما يجري فوقها، فقد باتت هناك شرايين تمتد عبر القارات تحت المياه، تنتقل من خلالها المعلومات والبيانات، وهي سلعة القرن الـ21 من دون أدنى شك.
ما قصة الكابلات البحرية؟ ومن يمتلكها؟ وكيف يتم التواصل بين العالم من خلالها؟ وهل باتت قضية الكابلات البحرية واحدة من قصص صراعات الأقطاب الدولية، لا سيما أنه من خلالها يتم التجسس المتبادل على الدول المختلفة؟
تساؤلات عديدة ومثيرة نحاول التوقف معها في هذه القراءة.
نظرة تاريخية
لا تبدو فكرة خطوط الروابط السلكية تحت المياه، التي تعرف اختصاراً بالكابلات، فكرة جديدة أو وليدة اليوم ولا في هذا القرن، فقد ربطت تلك الكابلات لأول مرة جميع قارات العالم خلال أواخر القرن الـ19 وبالتحديد في 1871 من خلال ربط جزيرة جاوة بمدينة داروين في الإقليم الشمالي لأستراليا.
استخدمت تلك الخطوط الأولية في توليد إشارات الهواتف والبرق، واستخدمت أسلاكاً نحاسية في وسطها، فيما اليوم باتت عبارة عن ألياف ضوئية تنقل البيانات الرقمية التي تشمل الهواتف والإنترنت وحركة البيانات الدولية الخاصة.
بداية من 1850 وحتى 1911 هيمنت بريطانيا على صناعة وإنجاز الكابلات البحرية، حيث تمددت إلى البحر الأبيض المتوسط ثم المحيط الهندي والهند، مما مهد لربط منطقة الخليج العربي وبالتحديد منطقتي نجد والحجاز 1870 عبر كابل بحري مع بقية شرق آسيا.
وبالوصول إلى النصف الأول من القرن الـ20 تعاونت شركة "سيمنز براذر" في نيو تشارلتون بلندن، مع المختبر الفيزيائي الوطني في المملكة المتحدة لإعادة توظيف كابلات الاتصالات البحرية.
وخلال الثمانينيات أدى التقدم التكنولوجي إلى تطوير كابلات الألياف الضوئية، وكان أول كابل هاتف عبر المحيط الأطلسي يستخدم الألياف الضوئية هو كابل اتصالات (TAT-8) الذي دخل حيز التشغيل في 1988، ومن يومها انطلقت ثورة تحت المياه تسمى الكابلات البحرية.
هل فاقت العمليات التي تستخدم فيها الكابلات البحرية ما يجري عبر الأقمار الاصطناعية؟
بنسبة واحد في المائة، وذلك لأن الكابلات قادرة على تمرير المعلومات بكفاءة وسرعة بعيداً من رقابة البشر، وتغيير مسارات مرور المعلومات في حالة وقوع عطب في أحد الكابلات، بحكم وجود عدد من الكابلات الأخرى لنقل المعلومات لبلد معين.
امتلاك الكابلات البحرية
تتوزع ملكية الإنترنت في واقع الأمر ما بين الدول وكبريات شركات التكنولوجيا حول العالم، والتي تقوم على نقل المعلومات عبر شبكة الإنترنت، على سبيل المثال لا الحصر، تسيطر شركة "غوغل" بمفردها على نحو ستة كابلات بحرية دولية تجري في مياه عدد من القارات، وينتظر أن يزداد هذا العدد كلما ازداد عدد المشتركين والمستخدمين لمحرك بحث الشركة.
والثابت أنه قبل عام 2012 كانت شركات التكنولوجيا العملاقة الأربع "مايكروسوفت" و"ألفايت" و"ميتا" و"أمازون" تحتكر أقل من 10 في المئة من الألياف الضوئية المغمورة، أما الآن فقد ارتفعت النسبة إلى نحو 66 في المائة، ووفقاً لشركة "تيليجيوغرافي" المتخصصة في دراسات الاتصالات السلكية واللاسلكية، فمن المنتظر أن يسيطر الرباعي في السنوات الثلاث المقبلة على تمويل وامتلاك شبكة كابلات الإنترنت تحت البحر بين أغنى البلدان وأكثرها فقراً على شواطئ المحيطين الأطلسي والهادي.
ومع بداية 2024 بدا أن للشركات الأربع حصصاً في أكثر من 30 كابلاً بحرياً، يبلغ طول كل منها آلاف الكيلومترات، وتربط بين كل قارات العالم باستثناء القارة القطبية الجنوبية.
هل نحن هنا أمام نوع من أنواع الاحتكارات التي ترفع من كلفة نقل البيانات عبر تلك الكابلات؟
الجواب نجده عند الكاتب الأميركي كريستوفر ميمز، في تقرير له منشور عبر صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، وفيه أنه على رغم المخاوف من هيمنة عمالقة التكنولوجيا على الكابلات البحرية، فإن الثابت أن انخراطها في هذا المجال أدى إلى خفض كلفة نقل البيانات عبر المحيطات، ووفقاً للتقرير السنوي عن البنية التحتية للكابلات البحرية الصادر عن "تيليجيو غرافي"، فقد ساعدت مساهمة شركات التكنولوجيا الكبرى على زيادة حجم نقل البيانات بنسبة 41 في المئة في 2020 وحده.
السؤال المهم بدوره كم يتكلف تركيب الكابل الواحد؟ وكيف تجري عملية مد مثل هذا الكابل؟
المؤكد أن عملية مد كابل بحري واحد تقدر بمئات الملايين من الدولارات، ويتطلب تركيبه وصيانته بعمق أكثر من ستة كيلومترات أسطولاً من السفن.
ويوضح هوارد كيدوروف الشريك الإداري في "بيونير كنسلنيغ"، وهي شركة متخصصة في هندسة وبناء أنظمة كابلات الألياف البصرية تحت البحر، أن عملية مد الكابلات تتطلب قدراً كبيراً من الحذر من الجبال البحرية وأنابيب النفط والغاز ومزارع الرياح، وحتى حطام السفن.
تبدو عملية مد الألياف الضوئية صناعة مالية عالية الكلفة جداً، فقد بلغ إجمالي النفقات الرأسمالية التي وضعتها الشركات الأربع في 2020 في هذه الصناعات أكثر من 90 مليار دولار، ويؤكد عمالقة التكنولوجيا أنهم يعملون على تعزيز هذه الكابلات بهدف زيادة النطاق الترددي للشبكة وتحسين خدمات الاتصال بالإنترنت في مناطق مثل قارة أفريقيا وجنوب آسيا.
السلعة الذهبية
تنقل الكابلات السلعة الذهبية في القرن الـ21 أي المعلومات، وتتباين من حيث قدرتها على نقل المعلومات، فغالباً ما تكون الكابلات الحديثة أقدر على حمل بيانات أكثر من ذات عمر 15 سنة.
أما السعة المتاحة للكابل فهي الكمية الكلية التي يستطيع نقلها، إذا وفر مالك الكابل جميع المعدات المطلوبة في نهاياته، وهو المقياس الأكثر شيوعاً في عالم الإعلام، أما تعبير السعة المضاءة فيعني الكمية التي ينقلها الكابل فعلاً من البيانات، ونظراً إلى ثمن معدات النقل الباهظ لجأ مالكو الكابلات لطريقة التحديث التدرجي فيها بدلاً من شرائها.
يتساءل البعض هل اتصال الإنترنت بالأجهزة يحصل لا سلكياً أم عبر الكابلات؟
يمكن أن نقول نعم ولا في الوقت ذاته، لأن السؤال مؤلف من شقين، إذ يتم فقط بث إشارة لا سلكية من أقرب برج خلوي، وبعد ذلك تنتقل البيانات من خلال الكابلات البحرية للإنترنت.
لكن كيف تنتقل هذه البيانات بالفعل؟
تبدو المسألة تقنية معقدة، إذ تبدأ مسيرتها مع الألياف الزجاجية التي تطلق الليزر الموجود في أحد أطراف البيانات ليتلقاها طرف آخر بسرعة خيالية بواسطة الألياف الضوئية، وبعد ذلك تستكمل البيانات طريقها براً من خلال الكابلات الأرضية التي تشكل صلة الوصل بين المناطق والمدن.
وبعد وصول البيانات إلى شبكة الاتصال المتوفرة أمامها يتلقى حينها المتلقي الرسالة الإلكترونية مثلاً، وبحسب الدراسات تنقل الكابلات البحرية نحو 99 في المئة من حركة البيانات والاتصالات عالمياً بسرعة تصل إلى 640 غيغابايت في الثانية الواحدة.
ما الأخطار المحدقة بالكابلات البحرية؟
يمكن أن تحدث بعض الأخطار بسبب ظروف بيئية تحت المياه، لا سيما من جراء مرور السفن العملاقة وشباك الصيد الهائلة التي تلقيها في الأعماق، وهناك عناصر طبيعية تحدث بين الحين والآخر، مثل الزلازل والتفجيرات الكونية، وهناك من يتحدث عن دور أسماك القرش العملاقة، وكذلك الحيتان الضخمة، وإن لم يكن هناك سند قوي يدعم فكرة دورها في إصابة الكابلات بأضرار كبيرة.
لكن وعلى جانب آخر تبقى هناك الأخطاء البشرية المقصودة، أي تلك الناشئة عن الصراعات بين القوى الدولية التي تتناحر تحت المياه، ضمن سياقات الحروب الجيوسياسية براً وبحراً وجواً، مما يأخذنا في الحديث من عند النقاط التقنية إلى زوايا الاشتباكات السياسية الخاصة بالكابلات البحرية، وبخاصة ما يجري من أعمال مثل التجسس بين الدول عبر اختراق تلك الكابلات، وهناك قصص عدة جرت بها المقادير بالفعل في هذا السياق.
صراع تحت الماء
هل تمثل الكابلات البحرية نقطة صراع بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، ضمن عديد من مدركات المنافسة القطبية بين الدولتين؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مؤكد أن الأمر يجري على هذا النحو بالفعل، لا سيما أن الصراع تحت البحار يجري بهدف السيطرة على أكبر قدر ممكن من البيانات التي تمثل عصب الصراع الاقتصادي أول الأمر، وقبل أن يتحول المشهد إلى مجابهة عسكرية.
هنا التساؤل هل تحاول واشنطن ذات اليد العليا تكنولوجياً طرد الصين من شبكة الإنترنت العالمية من خلال التضييق عليها عبر كابلات البحار والمحيطات؟
من الواضح أن واشنطن الماضية قدماً حسب مخطط المحافظين الجدد ووثيقة القرن الأميركي 1997 لا تكتفي بفكرة تشديد قبضتها على شبكة الكابلات البحرية حول العالم فحسب، بل بات من الواضح أنها تستهدف ضمان هيمنة شركاتها على السوق، لأن مشغلي الكابلات يمكنهم تحصيل رسوم على مرور البيانات بمجرد تثبيت أقدامهم، وذلك ببيع النطاق الترددي أو تأجير السعة لشركات التقنية ومقدمي خدمات الإنترنت وغيرهم وبصفقات تمتد لعقود.
ولم يكن للصينيين أن يصمتوا أمام تمدد الهيمنة الأميركية في هذا السياق، ولهذا عمدوا إلى توفير شبكاتهم الخاصة من الكابلات البحرية، وتحولوا إلى راع للبنية التحتية الكثيفة للكابلات في البحار القريبة بما فيها الكابلات الأميركية واليابانية.
هل تعمد الصين إلى التجسس على الولايات المتحدة من خلال شبكات الكابلات البحرية؟
ليس سراً أن أحد أفضل الطرق المفضلة من جانب الصينيين في منافساتهم الجيوسياسية مع الأميركيين، التجسس وسرقة المعلومات من قبل الداخل الأميركي، وسواء كانت معلومات اقتصادية أو عسكرية.
الآن تمثل خطوط الكابلات البحرية تحت البحار فرصة ذهبية للصين لا تعوض للحصول على المعلومات الصافية الوافية، وفي 2022 أصلحت السفن الصينية كابلات تديرها شركات اتصالات أميركية مثل (AT&T) و(VERIZON) وشركات تكنولوجيا عملاقة مثل "مايكروسوفت" وذلك في منطقة بحر الصين الشرقي.
هل كانت هذه فرصة ذهبية لبكين للحصول على المعلومات والبيانات الأميركية من مصادرها وقبل أن يتم تنقيتها أو تصفيتها في واحدة من أخطر عمليات التجسس الصينية على الأميركيين؟
يبدو أنه من الوارد جداً ذلك، لا سيما أنه في مايو (أيار) الماضي زعمت شركة "مايكروسوفت" وبشيء من الثقة أن بعض الجهات المدعومة من الحكومة اخترقت بنية اتصالاتها التحتية.
والشاهد أنه على رغم أن بكين نفت أي صلة بالمخترفين فإن شكوك واشنطن بدت شبه مؤكدة، وقد كان ذلك أحد الأسباب التي دفعت واشنطن إلى السعي إلى إبقاء كابلاتها الجديدة بعيداً من الصين فعلياً، إذ تحظر مبادرة الشبكة الأميركية النظيفة لعام 2020، أي اتصال مباشر فعلي بين الولايات المتحدة والبر الرئيس الصيني.
ولعل قصة الصراع بين بكين وواشنطن على منطقة بحر الصين الجنوبي، تبدو في أحد أهم جوانبها ذات علاقة بقصة كابلات الإنترنت والمعلومات.
بحسب عديد من الخبراء الجيوسياسيين فإن من سيفرض سطوته ويبسط أجنحته على منطقة بحر الصين الجنوبي سيكون بمقدوره السيطرة عملياً على خمس التجارة العالمية، لكن الأهم من وجهة نظر كثير منهم أن أبرز الأصول الاقتصادية المتاحة في المنطقة هي البيانات الضخمة، حيث يعتمد مستقبل شبكة الإنترنت بأكملها على الدول التي تهيمن على بحر الصين الجنوبي.
ويضاف إلى ذلك أن اقتصاد الإنترنت في منطقة جنوب شرقي آسيا سيصل إلى تريليون دولار أميركي بحلول 2030.
من هنا يمكن للقارئ أن يتفهم لماذا سيتجاوز كابلا "بايفروست" و"إيكو" المقرر تشغيلهما العام الحالي المياه المتنازع عليها قرب الصين، كما هي حال مشروع "ابريكوت" الذي يبلغ طوله 12 ألف كيلومتر ليربط الفيليبين بإندونيسيا، والذي من المقرر إقامته العام المقبل 2025.
على جانب آخر تتجلى العوامل الجيوسياسية بوضوح أكبر في منطقة جنوب غربي المحيط الهادئ، حيث ألغى البنك الدولي في 2021 مشروع كابل كان سيربط بين جزيرة غوام، التي تعد نقطة ارتكاز مهمة للغاية للعسكرية الأميركية، وميكرونيسيا وكيريباتي وناورو، إذ كانت شركة (HMN TECH) الصينية هي الأقرب إلى الفوز بالمشروع لكن واشنطن كانت السبب الرئيس في إفساده.
التجسس على الأصدقاء
لا يبدو صراع الجواسيس عبر خطوط الكابلات البحرية قائماً أو قادماً بين القوى ذات العلاقات المتردية، والقريبة من الصراع إلى التنافس عمقاً قريب فحسب، بل يمتد حتى بين الأصدقاء أنفسهم، فيما الأكثر مدعاة للسخرية أو العبث، هو قيام الولايات المتحدة قلب "الناتو" النابض بالتجسس على بقية الدول الأعضاء في الحلف من الجانب الأوروبي، مما تبدى بصورة واضحة خلال العامين الماضيين.
في يونيو (حزيران) 2021 طفت على السطح أنباء فضيحة تجسس دولية قامت بها واشنطن تجاه أصدقاء أوروبيين مقربين جداً، وفي مقدمتهم المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل.
أنباء الفضيحة تسربت من خلال تقرير أذاعته هيئة الإذاعة والتلفزيون الدنماركية، وفيها بدا واضحاً أن الأميركيين وبالتعاون مع الاستخبارات الدنماركية تجسسوا على شخصيات أوروبية بارزة أخرى بجوار ميركل.
المؤكد أن وكالة الأمن القومي (NSA) المغرقة في سريتها كان لها قصب السبق في المشهد، وذلك من خلال تنصتها عبر كابلات دنماركية بحرية أتاحت للأميركيين التنصت على قادة ومسؤولين رفيعي المستوى في ألمانيا والسويد والنرويج وفرنسا.
والمعروف أن الدنمارك تستضيف عدداً من محطات الإنزال لكابلات الإنترنت البحرية من وإلى السويد والنرويج وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة، وهي الكابلات التي استخدمت من جانب الأميركيين في التجسس واسع النطاق الذي كشف عنه.
هنا جرى التساؤل هل استخدمت واشنطن ذات الأسلوب الذي تجسست من خلاله على السوفيات في زمن الحرب الباردة ونجح مع كابلات الأوروبيين كما نجح من قبل مع كابلات السوفيات؟
للأمر قصة ولا شك، ذلك أنه في خضم الحرب الباردة درج السوفيات على التواصل من خلال كابل يقع تحت البحر في المياه الإقليمية السوفياتية، وعبر الكابل كانت تتدفق البيانات المهمة بين القواعد العسكرية المختلفة.
بدا هذا الكابل صيداً ثميناً لحلف "الناتو"، لكن الاقتراب منه عبر قوات البحرية الأميركية أو أي من حلفائها الأوروبيين كان يعني المجازفة بصدام عسكري شبه محتوم بين الحلف ووارسو.
من هنا بدت وكالة الأمن القومي والمنوط بها رصد كل الاتصالات خارج الولايات المتحدة لديها الحل، ذاك الذي تمثل في غواصة بحرية صغيرة، مجهولة المصدر، بمعنى أنه لا يمكن معرفة من وراءها ولا من أرسلها، ومهيأة خصيصاً لغرض اختراق هذا الكابل عبر التسلل والانزلاق من دون رصد من دفاعات البحرية الروسية.
وعثرت الغواصة الأميركية بالفعل على الكابل وركبت جهاز تنصت متطوراً عليه، وكانت تعود شهرياً لجمع البيانات التي سجلها الجهاز، واستمرت العلمية مدة طويلة حتى اكتشف أمرها محلل سابق في وكالة الأمن القومي الأميركي، يدعى رونالد بيلتون الذي باع معلومات مهمة عن هذه العملية للسوفيات.
هل تمارس أميركا اليوم نفس هذا الدور على الأعداء والحلفاء على حد سواء؟
مؤكد أنها تفعل ذلك لا سيما من خلال ما تتمتع به من قدرات تقنية متقدمة تحوزها من خلال علمائها ومهندسيها وشركاتها التي تسهم في اختراع وبناء الأجزاء الكبيرة من البنية التحتية للاتصالات العالمية ومنها الكابلات البحرية وتميل خطوط البيانات الرئيسة إلى العبور إلى الحدود الأميركية ومياهها الإقليمية أو قواعدها العسكرية المنتشرة بكثرة عبر العالم، مما يجعل التنصت على البيانات والمعلومات والمكالمات الهاتفية أمراً في منتهى السهولة واليسر.
هل كان لواشنطن يد في عملية بعينها، كادت تدفع الروس أخيراً إلى القيام بهجمات قاتلة تحت المياه تستهدف الكابلات الأوروبية والأميركية على حد سواء؟
الروس وداعمو أوكرانيا
في أوائل مايو الماضي، أعلن رئيس استخبارات حلف شمال الأطلسي "الناتو" ديفيد كاتلر، أن هناك أخطاراً متزايدة من احتمال قيام روسيا بتخريب الكابلات البحرية لمعاقبة الدول الغربية على دعم أوكرانيا.
وأكد كاتلر أن "روسيا قد تستهدف الكابلات البحرية والبنية التحتية الحيوية الأخرى في محاولة لتعطيل الحياة الغربية، وذلك لكسب النفوذ ضد الدول التي توفر الأمن لأوكرانيا".
هل كان هذا بالفعل نهج التفكير الروسي، لا سيما بعد استهداف خطي أنابيب "نورد ستريم" في سبتمبر (أيلول) 2022؟
نجم تسرب الغاز في أربع مواقع من خط أنابيب "نورد ستريم" ببحر البلطيق عن انفجارات تحت البحر تعادل في قوتها مئات الكيلوغرامات من المواد المتفجرة بحسب ما جاء في تقرير دنماركي – سويدي.
هنا بات مؤكداً أن قرب التفجير من الدنمارك يفتح الباب واسعاً تجاه الحديث عن تكرار الدور الأميركي في التجسس على الحلفاء، لكن هذه المرة من خلال عمل أكثر عنفاً.
بعد نحو شهر ونصف الشهر من تصريحات رئيس استخبارات "الناتو" قال نائب رئيس مجلس الأمن القومي ديمتري ميدفيديف إنه لم تعد هناك قيود أخلاقية تمنع بلاده من استهداف خطوط الاتصالات "الكابلات" البحرية لأعداء روسيا. أضاف "بالنظر إلى القرارات العدائية لتزويد نظام كييف بمزيد من الأسلحة بعيدة المدى، يجب أن يمر مثل هذا الخط على طول حدود لفوف (ليمبرغ البولندية) من أجل لعب دور دفاعي حقيقي، حينها ستكون هذه الحدود الآمنة الجديدة لما كان يطلق عليه (الدولة 404)".
وتابع قائلاً "كذلك إذا انطلقنا من التواطؤ المؤكد للدول الغربية في تفجير خط أنابيب السيل الشمالي، فلن يكون لدينا قيود حتى أخلاقية لتدمير اتصالات الكابلات الخاصة بأعدائنا والموضوعة على طول قاع المحيط".