Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غبريال يمين يرسخ عودة الرائد المسرحي ريمون جبارة

 "تحت رعاية زكور" في صيغة جديدة وأمينة تجسد لعبة التضحية في بعدها العبثي

من مسرحية "تحت رعاية زكور" لريمون جبارة في صيغتها الجديدة (خدمة الفرقة)

ليس أجدر من غبريال يمين، بين المخرجين اللبنانيين الشباب، بإعادة إخراج مسرحيات ريمون جبارة، أحد رواد المسرح اللبناني الحديث، كتابة وإخراجاً وتمثيلاً. فهذا الممثل والمخرج المتفرد والمتميز، كان أولاً طالباً لدى جبارة في معهد الفنون الجميلة، ثم كان رفيقاً له لا سيما في أيام مرضه، علاوة على التحاقه بمسرحه ممثلاً ومساعد مخرج، في بعض من أعماله الأخيرة، بدءاً من مسرحية "صانع الأحلام" التي حصدت نجاحاً كبيراً وجوائز.

وعطفاً على هذه المعطيات، لا يبدو يمين غريباً عن جو ريمون جبارة ومسرحه وعبثيته وسخريته وصراعه الوجودي مع نفسه كما مع العالم، مع أن يمين قدم أعمالاً تلفزيونية ومسرحية كوميدية برز فيها خصوصاً من خلال شخصية "صابر" البديعة التي جذبت جمهوراً كبيراً، نظراً إلى براعته في أدائها المتقن والحذق، وترسيخه عبرها لعبة كوميدية تجمع بين المواقف الهازئة والمسلك السخروي، حركة ولفظاً وتعبيراً شاملاً. لكن غبريال المعروف جداً تلفزيونياً، ظل ذاك المسرحي الشغوف والمنتمي والملتزم، وقدم مسرحيات ذات هموم جديدة وقضايا تجمع بين التراجيدي والكوميدي، بصفتهما وجهين أساسيين من وجوه الحياة نفسها بل الوجود نفسه. وتصدى يمين إلى نصوص عالمية مهمة، طليعية وحداثية، مترجماً ومقتبساً أحياناً. ونمّ هذا النشاط لديه عن ثقافة عميقة في عالم المسرح والفلسفة والأدب وفن التمثيل.

 

يشارك غبريال يمين، في الاحتفال المسرحي الذي يشكل تحية إلى ريمون جبارة (وهو المشرف العام ايضاً) يوجهها إليه فنانون مسرحيون عملوا معه أو درسوا عليه جامعياً، من خلال إعادة تقديم أربع مسرحيات له بالتوالي على مسرح مونو (بيروت). وهي: "تحت رعاية زكور" (إخراج غبريال يمين)، "بيكنيك على خطوط التماس" (إخراج جوليا قصار)، "زرادشت صار كلباً" (إخراج أنطوان الأشقر)، "قندلفت يصعد إلى السماء" (إخراج رفعت طربيه).

مسرحية إشكالية

اختار غبريال يمين من ريبرتوار ريمون جبارة مسرحية "تحت رواية زكور" ليوجه بها تحيته إلى الرائد المسرحي. ويمكن القول إنه اختار إحدى أكثر مسرحيات "المعلم" جدلاً وإشكالاً، وأشدها تحدياً من ناحية المعالجة والإخراج، ما خلا المحتوى الذي تفجره (أجل تفجره) وهو يخلط بين الميتافيزيقي أو الديني والتاريخي والأسطوري والتراجيدي (الشكسبيري) والسياسي (غير الأيديولوجي) والاجتماعي. هذه المسرحية قدمها جبارة بين 1972 و1973 ولقيت نجاحاً وإقبالاً من الجمهور اللبناني حينذاك، على خلاف مسرحيته السابقة أو الأولى "لتمت ديدمونة" (1971) التي تم الترحاب بها نقدياً وإعلامياً ولكن بلا إقبال لافت من الجمهور، على رغم رياديتها الحداثية وإرسائها حجر الأساس الذي قام عليه مسرح جبارة أو عالمه المسرحي الذي ظل متفرداً بطروحاته وآفاقه وتقنياته، والذي راح يتطور ويتجلى في أعماله اللاحقة التي أنجزها بعد الحرب اللبنانية ومنها "زرادشت صار كلباً" (1977) و"ذكر النحل" (1982) و"صانع الأحلام" (1985) وسواها. ولئن أطلق في الأولى لعبته الأثيرة وهي لعبة المسرح داخل المسرح، جاعلاً الخشبة مفتوحة على كواليس الممثلين أو الكواليس مشرعة على الخشبة، فهو في "تحت رعاية زكور" سعى إلى تطوير اللعبة دامجاً بين الصالة والخشبة، بين الشخصيات وأقنعتها التمثيلية، بين النص واللانص، بين الحقيقة والوهم. هذه المعايير المسرحية شكلت قاعدة اللعبة التي راح جبارة يطورها صانعاً منها هويته التي لازمته حتى آخر أعماله الإبداعية. إنها لعبة مسرحة المسرح، لعبة الوهم الذي يصبح حقيقة أو الحقيقة التي تتلبس الوهم، بل اللعبة الخطرة التي تجعل المسرح هو العالم الذي يؤدي فيه الإنسان، كل إنسان، دوراً، تحت إشراف مخرج هو القدر.

 

هنا يصبح الممثلون ممثلين ومتواطئين في التمثيل، ممثلين ومتفرجين، ويصبح النص ملك الجمهور مثلما هو ملك الممثلين والكاتب والمخرج. طبعاً لم يؤسس ريمون جبارة مسرحه هذا الذي كان سباقاً به، من عدم أو فراغ، فلعبة المسرح داخل المسرح في معناها الشامل كانت تجلت في مسرحية "هاملت" مثلاً، وفي أعمال الإسباني كالديرون دو لا باركا "الحياة حلم"، والإيطالي لويجي بيراندللو وبخاصة "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" وفي أعمال لبريخت (في معنى التغريب) وجان جينه و... لكن جبارة في هذا الصدد صنع مسرحاً لبنانياً (وعربياً) صرفاً ومنحه طابعاً يمكن وصفه بالشخصي والمزاجي، فارضاً عليه رؤيته وفكره ومشاعره وإحساسه العبثي بالعالم والحياة.

شاء غبريال يمين أن يكون أميناً على النص الأصلي والرؤية الإخراجية التي كان اطلع عليها لماحاً من خلال ملاحظات جبارة وتدويناته الإخراجية على هامش النص، وكذلك الصور التي بقيت من العرض، وخلال دراسته على جبارة في معهد الفنون وتطبيق بعض فصول المسرحية نفسها، ومرافقته إياه مسرحاً وصداقة طوال سنوات، فهو لم يتح له أن يشاهد العرض في السبعينيات (مواليد 1965)، وهذا ما جعله أمام تحد كبير. كان في إمكانه أن يعيد صوغ النص بصرياً وإخراجياً على طريقته، مضيفاً إلى النص أو حاذفاً منه، لكنه التزمه حرفياً ، جاعلاً الجمهور يشاهد مسرحية جبارة ولكن مع فريق جديد من الممثلين، ومعظمهم من الشباب والطلاب الجامعيين، ما خلا الممثلين القديرين جورج دياب وطارق تميم وماريا يمين والمغني كارلوس عازار.

بين الصالة والخشبة

 

إذاً الجمهور ينتظر بداية مسرحية تختلط فيها الأمور بين ممثلين على الخشبة، يتلصصون من ثقوب في الستارة على الصالة، وشخصيات من الجمهور تتذمر، ومنها صحافية وممثلة للجمعيات المدنية (ماريا يمين) ووالد الكاتب (أدى الدور ببراعة جورج دياب) الذي يحتل مقعداً في الصالة ويتدخل حيناً تلو حين في اللعبة، كاسراً وهم الخشبة بوصفه ممثلاً ومشاهداً في وقت واحد.

 ووسط شيء من "الهرج والمرج"  يُعلن عن وصول راعي المسرحية، زكور بك، الذي لا يأتي ولا يأتي، بل يمثله طيفه، مما يعني أن حضوره يوازي عدم حضوره، في كونه واحداً من السياسيين أو الزعماء الذين تقدم الأعمال المسرحية في لبنان عادة تحت رعايتهم. وطبعاً هناك مندوب الحزب الذي هو ممثل في قلب الصالة أيضاً، والذي يُسأل بإلحاح، هل ما زال في الحزب نفسه أم انتقل إلى حزب آخر. هنا تبدو سخرية جبارة كأنها تطاول الجمهور المتصنّع وشبه الأمي، فيما تطاول أيضاً من ضمن اللعبة،الممثلين الذين لا يتمالك بعضهم عن الاعتراض والتوقف عن التمثيل مطالباً بأجرته وإلا توقف عن العمل. وكذلك كاتب النص الشاب الذي يظهر في شكل متقطع، معترضاً على لعب الممثلين بنصه وزيادتهم عليه أو حذفهم منه أو خربطة الجمل.

 

كان لا بد إذاً من أن ينطلق العرض الذي يتناول عموماً العلاقة المضطربة بين الأب بصفته "جزاراً" والابن بوصفه "ضحية"، بل يتناول مفهوم التضحية ببعدها التوراتي والأسطوري وبعدها الدرامي أو التراجيدي والشكسبيري تحديداً. فالعرض يستعيد قصة إبراهيم وابنه إسحاق الذي مضى به صعوداً إلى الجبل ليقدمه ضحية على الصخرة، وقصة هاملت وشبح أبيه الذي يظهر أمامه ويلح عليه بالانتقام له من أخيه بولونيوس الذي سممه وقتله واستولى على العرش وعلى زوجته، أم هاملت. يتداخل إذاً الجو التوراتي بالجو الشكسبيري، ولكن في لعبة متوازية، وكأن الشخصيات تكمل بعضها بعضاً، وتتلاقى على رغم الاختلاف الظاهر وليس الباطن، في التاريخ والمكان. تتسع رقعة الصراع بين إبراهيم وابنه، خصوصاً في اللحظة التي لا يظهر فيها الحمل أو الخروف الذي ينبغي أن يحل مبدئياً وبحسب الحكاية، محل الابن فيذبحه الأب، ثم يتدخل الكائن الأعلى وينزل من بين الغيوم، ويشارك في السجال الوجودي القائم حول مفهوم التضحية. وتظهر أيضاً أم إسحاق معترضة على زوجها لاصطحابها ابنها إلى الجبل، شبه عار، بل ليس عليه سوى ملبسه الداخلي. هنا طبعاً تبرز النزعة "البارودية" الساخرة بقوة وجرأة على العنف الآخر الآتي من الما وراء.

سخرية شكسبيرية

وفي الموازاة تكتسح النزعة "البارودية" الساخرة عالم شكسبير والعلاقة بين هاملت وأبيه، وكيف يرفض الابن ارتكاب جريمة قتل العم الذي سمم الأب واستولى على السلطة والزوجة. يرفض هاملت (يحمل برتقالة بدل الجمجمة) الانتقام لأبيه الملك من عمه بولونيوس، على خلاف ما يحصل في المسرحية الشكسبيرية الأصلية. وهنا أيضاً تطل أم هاملت في دور كاريكاتيري.

 

لكن ريمون جبارة لم يغيّب المسرحية التي اختلقها شكسبير في نصه الأصلي والتي قصد من خلالها إيقاع العم المجرم بولونيوس والزوجة الخائنة في فخ الفضيحة، فتنتهي نهاية مأسوية، هي إحدى غايات المسرحية. ففي المشهد يحل ممثلان من لبنان المعروف بقضاياه الشعاراتية مثل الوحدة الوطنية، وقد لبيا دعوة البلاط الملكي في الدانمارك ليقدما مسرحية  سياسية هادفة. لكن الممثلين اللذين يجسدان رئيس البلدية ونائبه، يقدمان قصة تخالف المتوقع، ويبدوان خصمين وقد اقدم نائب الرئيس على قتل رئيسه، فنراه راقداً في تابوته، بل يحاور خصمه ويؤنبه ويبوح له ببعض أسراره الخاصة ومنها الزوجية... إنها لعبة أخرى ساخرة، سوداء وعبثية، داخل الإطار المسرحي العام، لكنّ جبارة لم يلتزم فيها رؤية شكسبير الاصلية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تتشعب مسرحية "تحت رعاية زكور" وتتطور عبثاً وهتكاً وتنتقل من حقبة تاريخية قديمة بل أسطورية الى أخرى حديثة وجديدة فيطل علينا هتلر بشاربه ويمسي هاملت جندياً ومن حوله جنود العصر الديكاتوري. وتعلو صرخة السلطة: الدولة بحاجة إلى بولكم. ونرى الجنود وسواهم يبولون في الأوعية، تلبية للنداء الوطني. هنا يهتك جبارة السلطة من ألفها إلى يائها، من قديمها الأسطوري الديني، إلى حديثها الهتلري والديكتاتوري.

نجح غبريال يمين في إعادة تقديم مسرحية "تحت رعاية زكور" تقديماً إبداعياً، مثبتاً راهنية النص وحداثته ومخاطبته الزمن الحديث، بعد 48 عاماً على كتابته وإخراجه. ولئن بدا الممثلون جدداً ولا علاقة لهم تقريباً بمسرح ريمون جبارة وهواجسه، فهو استطاع أن يتعاون معهم لصياغة العرض بمهارة المخرج الذي يلم باللعبة وتفاصيلها وخفاياها. وقد وفّق في اختيار الممثل القدير جورج دياب في دور الأب الجالس في الصالة، فجسده دياب بطرافته لهجة وتعبيراً. ووفّق أيضاً في اختيار طارق تميم وكارلوس عازار، ليؤديا المسرحية القصيرة داخل المسرحية العامة، وبدا تميم كعادته قديراً وقادراً جداً على التقاط خيوط الشخصية وتجسيدها بعفويته المتقنة، وكذلك بدا كارلوس النجم التلفزيوني والمطرب، متمكناً في أدائه، لاسيما عبر حبك تميم بقوة، الخيط الدرامي بينه وبين خصمه على الخشبة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة