ملخص
لقد تبين للنقاد أن زوجته بوليت أعطت لنفسها الحق في الإشراف على استكمال الرواية بحجة أنها كانت معنية بها وبما ترويه
برواية واحدة دخل الألماني إريك ماريا ريمارك بهو الشهرة كواحد من كبار كتاب النصف الأول من القرن الـ20 دون أن يكون حقاً كاتباً كبيراً في زمن شهدت فيه الرواية العالمية انطلاقة حداثية كبرى وتجديداً في الأساليب والمواضيع لا يمكن أن تقارن برواياتها المؤسسة للحداثة (كافكا وبروست وموتزيل وجويس، وغيرهم)، تلك الرواية التي ستعد دائماً من أشهر ما كتب ريمارك، ولكن أيضاً رواية مناهضة الحرب بامتياز "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" التي صدرت عام 1929 متناولة الحرب العالمية الأولى من منظور مناهضة الحرب لتنتشر وتترجم في بلدان كثيرة لعل أبرزها البلدان التي عانى أبناؤها تلك الحرب، سواء كانوا عند نهايتها في صف المهزومين أو في صف المنتصرين.
بالنسبة إلى ريمارك، وكما يعبر في روايته التي سرعان ما تحولت إلى فيلم سينمائي في حينه، لا جدوى من الحرب ولا انتصار فيها. هي في مطلق الأحوال مجازر ودمار وتصرف أرعن لا إنسانية فيه ولا مبرر له وليس منطقياً أن يعد المتسببون فيها أبطالاً ولا الواقعون ضحايا لها شهداء. ويقيناً إن ذلك الاستنتاج الذي تبدو إرهاصاته واضحة في مسرى الرواية كان هو سبب شهرتها واتساع مقروئيتها لدى أقوام كانت ترعبهم ذكريات المقتلة المجانية التي كانتها الحرب ويستبد بهم الخوف من المقتلة المقبلة التي كانت نذرها تلوح في الأفق والتي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية.
ومهما يكن، حتى ولو أصدر ريمارك (1898-1970) أعمالاً عديدة بعد تلك الرواية، فإنه في جوانيته كان يعرف أن عليه أن يصدر رواية أخرى كي يدخل سجل الخلود الإبداعي بدلاً من جموده في خانة أدب الرسالة الإنسانية – الاجتماعية، حتى وإن حقق نجاحاً إضافياً من خلال ما لا يقل عن روايتين ناجحتين أخريين هما "لاحقاً" و"قوس النصر".
بحثاً عن الخلود المنشود
وهو كاد ينجز أمنيته تلك في الحقبة الأخيرة من حياته من خلال رواية أخيرة كتبها في الولايات المتحدة الأميركية بعنوان "الأرض الموعودة"، لكنه لسوء طالعه رحل عن عالمنا دون أن ينجزها. وهي حين صدرت بعد ذلك الرحيل مرت دون أن تحقق له أمنية الخلود التي كان يتطلع إليها، وذلك على رغم أنها صدرت بصورة تبدو معها مكتملة. فما الحكاية؟ سؤال يمكن طرحه فنياً على أية حال بالنظر إلى أن كثراً من النقاد الذين علقوا على الرواية لفتهم تفاوت كبير في المستوى بين الفصول الأولى من الرواية وفصولها الأخيرة ليستنتجوا إثر ذلك أن الفصول الأخيرة لم يكتبها ريمارك، بل أضيفت إلى النص الذي خلفه ريمارك بمعرفة زوجته الممثلة بوليت غودارد التي يعرفها جمهور أفلام تشارلي شابلن ويحبها من خلال قيامها بذلك الدور البديع الذي لعبته في مواجهة شارلو في فيلم "الأزمنة الحديثة"، واكتشف الجميع يومها في تلك الحسناء النحيلة التي أدت دور الفقيرة البائسة ممثلة رائعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولقد تبين للنقاد أن بوليت أعطت لنفسها الحق في الإشراف على استكمال الرواية بحجة أنها كانت معنية بها وبما ترويه. فالأرض الموعودة التي يروي ريمارك "حكايته" معها ليست سوى أميركا نفسها التي كانت منفاه الذاتي الإجباري حين هرب من أوروبا ومن هرولة القارة العجوز نحو الفاشية والنازية، وكان يعد نفسه مرغماً على ذلك لمجرد النفاد بجلده من مصير كان ينتظره على يد النازيين حين وصوا إلى الحكم واعتبروا نزعته السلمية المناوئة للحرب جرس إنذار يقف على الضد من نزعتهم الحربية. وهي كانت كذلك بالطبع واعتبرت تنتمي إلى الأدب الانهزامي المنحط، لكن ريمارك سيقول لقراء روايته إن أميركا كانت بالنسبة إليه مجرد ملجأ موقت سيعيش فيه ولو وسط بؤس وألم ريثما تستعيد بلاده حريتها، لكنه سيكتشف بالتدريج أنها أرض موعودة حقيقية. وكانت كذلك، في الأقل بالنسبة إليه. ويبدو أنها كانت كذلك لأنه، وإذ توجته من فوره حال وصوله إلى العالم الجديد سيكون ذا حظوة حقيقية بالنظر إلى أن هوليوود كانت هي من استقبله بكل ترحاب وتحديداً انطلاقاً من مكانة روايته الأشهر عن الحرب العالمية الأولى ليكون جزءاً من عالمها الرحب.
في مملكة السينما
في هوليوود، حيث انخرط من فوره في عالم الفن السابع الرحب، سرعان ما أضحى فتى الاستديوهات المدلل، إذ انهالت عليه العروض في وقت كانت السينما فيه تبحث عن مواضيع جديدة ودم جديد ينبث في شرايينها وراح هو يلبي الطلبات، لكنه راح في الوقت نفسه يذعن للمغريات "الجانبية"، ومنها بصورة خاصة المغريات النسائية، إذ وقعت في هواه بعض كبيرات النجمات، ولا سيما الأوروبيات الأصل منهن من مثيلات مارلين ديتريش وغريتا غاربو، وصولاً إلى افتتان بوليت غودارد به في وقت كانت قد خرجت من علاقتها المضطربة مع سيد الكوميديا شابلن. فهل كان ريمارك يحتاج إلى أكثر من ذلك كي يجد في أميركا كل تلك المواصفات التي تجعله يعتبرها أرضاً موعودة حقيقية؟
ولا شك أن ريمارك حين عكف على كتابة روايته الأخيرة، كان في باله أن تكون رواية أميركية خالصة، بل بالأحرى ربما وفي جانب منها، رواية "رد جميل" لذلك البلد الذي عرف كيف يحتضنه، وكذلك لذلك العالم السينمائي الذي رضي هو بأن يكون وطنه ومثواه الأخير، إذ كان قد دنا من شيخوخته – أو هذا ما تفتي به خاتمة الرواية على أية حال. ومن هنا يبدو في تلك الخاتمة واحداً من قلة من الأدباء المرموقين الذين لم ينهوا علاقتهم مع هوليوود بفعل ندامة كما كانت الحال مع زملاء له من طينة بريخت أو فوكنر أو تشاندلر وأقل منهم فيتزجيرالد، الذين عبر كل منهم بصورة أو بأخرى عن خيبتهم الهوليوودية.
تبديل جذري وخيبة أمل
غير أن هذا يبدو لنا فقط في الفصول الأولى من "الأرض الموعودة" دون أن نعرف حقاً كيف سيختتم "فعل الإيمان" هذا. ومهما يكن من أمر فإن الرواية كما صدرت "مكتملة" لاحقاً تواصل تعبيرها الإيجابي بصورة لا شك أنه في جوهره هذا كان مثاراً لخيبة أمل جعلت كثراً من المعلقين عليها يرى أن كل الانتظار الذي استبد بهم تشوقاً خلال الفترة التي مرت بين الإعلان عن العثور على مخطوطة الرواية في أوراق الكاتب الراحل، وبين صدور ما افترض أنه نسختها المكتملة كان دون جدوى لأنه تبين أن ريمارك لم يكن هو الذي أنهاها على الصورة الذي صدرت. هو الذي كان يريد في البداية أن يروي بصورة إجمالية تلك الحياة البائسة التي عاشها في العالم الجديد عدد من المنفيين الألمان الهاربين مثله من النازية، وقد أملوا أن يجدوا في أميركا تلك الأرض الموعودة التي حلموا بها فكانت النتيجة أن بعضهم أعلن خيبة أمله والبعض الآخر لعن حظه، ومن جاء به إلى هنا، فيما اندمج البعض الثالث في أميركا فاعتبرها بالفعل أرضاً موعودة.
والحقيقة هي أن ريمارك اضطر لإيقاف العمل على روايته عند ذلك الحد لتقول النهاية التي أصدرتها أرملته غودارد أنه ختم على ذلك التفاؤل والنجاح اللذين اتسمت بهما النظرة إلى مصيره الشخصي. وعلى هذا هبطت الرواية الأخيرة من علياء البعد الجدلي الذي كان يطبع روايات ريمارك السابقة إلى درك الثناء المفرط على المنفيين الذين "عرفوا مثله كيف ينجحون فتتحول أميركا بأقلامهم أو عبر أفلامهم إلى ذلك العالم الأريحي المرحب بمن يفد إليها"، بحسب ما عبر نقاد ساخرون كانوا مدركين على أية حال أن تلك الخاتمة لم يكن ممكناً لصاحب "ما من جديد على الجبهة الغربية" أن يدبجها بكل ذلك التبسيط.
وبهذا، لا شك أن ريمارك خسر رهانه الأخير الذي كان يسعى من خلاله إلى دخول ملكوت الأدب الكبير ما ثبت النظرة القديمة إليه، والتي شكلت واحداً من القواسم المشتركة القليلة بين توماس مان وبرتولد بريخت، وهي نظرة تتسم كما نعرف بالاحتقار تجاهه وتجاه أدبه. وهي النظرة التي طويلاً ما أقلقته، وربما كانت في خلفية رغبته في أن يدخل يوماً عالم الأدب الكبير من باب واسع، فإذا بـ"الأرض الموعودة" تعيده إلى المربع الأول.