ملخص
أخفقت كل المساعي المحلية والإقليمية والدولية المتعددة في وقف الحرب، أبرزها منبر جدة ومبادرة منظمة "إيغاد" ثم مؤتمر قادة دول جوار السودان في القاهرة، إلى جانب مساعٍ ومبادرات أخرى من الجامعة العربية وتنسيقية "تقدم"، ثم مفاوضات البحرين السرية وصولاً إلى الوساطة الليبية – التركية.
مع أن سيل المبادرات والوساطات المحلية والأفريقية والدولية لم يتوقف منذ الأسابيع الأولى لنشوب الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" منتصف أبريل (نيسان) الماضي، لكن التصعيد يتوالى والمعارك بين الجانبين لا تكاد تهدأ، فهل باتت جهود الوساطة الإقليمية والدولية تشكل عائقاً أمام إنهاء الحرب في السودان، وتطيل أمدها بخلاف ما كان منتظراً منها؟
بعض الوساطات تلاشى وكانت مجرد محاولات ومساع لتقريب وجهات النظر، وهناك مجموعة مبادرات معلنة لا تزال قائمة حتى الآن، أهمها منبر جدة، ومبادرة منظمة (إيغاد)، وتشمل الاتحاد الأفريقي أيضاً، إلى جانب مبادرة دول الجوار، وجاءت لاحقاً مفاوضات المنامة السرية تحت رعاية نفس وسطاء منبر جدة إضافة إلى كل من مصر والإمارات، ثم أخيراً المبادرة الليبية - التركية.
أحدث المبادرات
أحدث جهود الوساطة كانت بدخول كل من ليبيا وتركيا على خط تسهيل ورعاية مفاوضات غير مباشرة بين الطرفين بموافقتهما المسبقة، ورحبت بها الحكومة بصورة فورية، بحسب وزير الخارجية المكلف علي الصادق، انطلاقاً من تمسكها بضرورة إيجاد حل سلمي، مشددة في الوقت نفسه على ضرورة أن يرتكز أي حل على تنفيذ مخرجات منبر جدة كشرط للمضي قدماً في الحل التفاوضي.
سبقت هذه المبادرة زيارات منفصلة لكل من رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان، وقائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو، للعاصمة الليبية طرابلس، بدعوة من حكومة الوحدة الليبية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، لبحث إمكانية التوصل إلى وقف الحرب بالسودان، التي أعلنت ترحيب الطرفين بالمبادرة التي طرحتها عليهما.
ضد تعدد المنابر
في السياق أكد عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السابق رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، وقوفهم ضد تعدد المنابر مطالباً بضرورة وجود منبر تفاوضي واحد في إشارة إلى منبر جدة وإمكانية العودة إليه بالبناء على مخرجات مفاوضات المنامة الأخيرة بدور فاعل لكل من مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة والبحرين.
وقال حمدوك في لقاء صحافي محدود بالقاهرة حضرته "اندبندنت عربية" خلال زيارته على رأس وفد من التنسيقية إلى مصر إنه لمس تفهماً كبيراً من السلطات المصرية لطبيعة الأزمة السودانية بصورة تطابقت فيها الرؤى بتأكيد وحدة واستقرار السودان ووجود جيش وطني واحد، وضرورة التوصل إلى حل سياسي متفاوض عليه لعدم إمكانية الحل العسكري.
وأضاف رئيس "تقدم" أن تركيز الزيارة على محاور أساسية هي الوقف الفوري للحرب إلى جانب معالجة الوضع الإنساني وتخفيف معاناة السودانيين كأولوية، مطالباً الطرفين بضرورة الاستجابة لقرار مجلس الأمن الأخير الخاص بهدنة رمضان الإنسانية ووقف إطلاق النار.
تحذير من الانهيار
حذر حمدوك من تداعيات انهيار الدولة السودانية بكل ما يحمله ذلك من أخطار، حيث لم يعد هناك مجالاً لمناورات قد تدفع بالوضع إلى مآلات لا يمكن تلافيها، مؤكداً استمرار تواصله الهاتفي مع الفريق عبدالفتاح البرهان، من أجل إتمام اللقاء المطلوب لبحث سبل وقف الحرب، مشدداً على أن الخط السياسي لتنسيقية "تقدم" لا ينحاز لأي من الطرفين، وأن "الدعم السريع" كان فقط هو الأسرع في استجابته للقاء "تقدم"، كما أنه هو من اقترب نحو رؤية وموقف التنسيقية، وليس العكس.
طالب رئيس (تقدم) قوات "الدعم السريع" بمراعاة اتساق ما تطرحه من أفكار سياسية نظرية، مع أفعاله على الأرض، لافتاً إلى وجود لجنة مشتركة للتواصل في شأن وقف الانتهاكات، خاصة بالجزيرة وغيرها، مذكراً في الوقت نفسه الطرف الآخر بأن الإصرار على الحرب ليس بالشيء الجيد.
الصراع الخفي
على الصعيد ذاته يرى المتخصص في العلاقات الدولية زهير الأمين أن الأثر الأخطر في تعدد المبادرات الإقليمية والدولية يتبدى في السعي الحثيث من كل الأطراف الداخلية، سواء العسكرية المتحاربة أو السياسية المتنافسة للعمل على تبني ودعم مبادرات تتلاءم مع خطها ومطالبها، بهدف استغلالها لخدمة مصالحها من خلال وسطاء متعاطفين أو حلفاء مهيمنين، ما يدفع بدوره كل طرف للعمل على إضعاف المبادرة أو الوساطة التي يرى أنها قد تدعم الطرف الآخر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الوضع أشعل صراعاً داخلياً خفياً للتأثير في محتوى ومضمون المبادرات والوساطات، وهو ما يفسر ظاهرة تنقل وتجول الأطراف وسط المنابر بحثاً عن الملائم، وفق الأمين، وهو ما يطيل أمد الأزمة والقتال انتظاراً من كل طرف لمبادرته المناسبة أو بهدف إحداث تحولات تناسبه في أخرى قائمة، الأمر الذي يبدو صعباً في فقه الوساطة المعروف بعدم حصول أي من الأطراف على كل ما يريده.
يشير الأمين إلى أن إعلان أديس أبابا بين "تقدم" و"الدعم السريع" شكل جزءاً من ذلك الصراع، وهو السبب وراء تقويض مبادرة "إيغاد" وتجميد الحكومة السودانية لاحقاً لعضويتها في المنظمة بدعوى انتهاك سيادتها والتشكيك في حيادها تجاه الأزمة، ثم تلتمس خط رجوع جديداً إلى التمسك بخروج "الدعم السريع" من الأعيان المدنية، كأحد مخرجات منبر جدة وتعتبره المرجعية الوحيدة التي يمكن البناء عليها، مع أن الجيش هو الذي جمد مشاركته فيها في وقت سابق. ويتابع "الوساطة أو المبادرة الليبية التركية الأخيرة لا تكاد تحمل جديداً، باستثناء حصول حكومة عبدالحميد الدبيبة على موافقات مبدئية مسبقة من كل من قائدي الجيش و(الدعم السريع) على خطوطها الرئيسة التي تتمحور حول أطروحات جدة ذاتها، كما أن وقوف تركيا خلفها هو ما جعل الحكومة تتحمس لها".
سوق المبادرات
من جهته قال القيادي في تنسيقية "تقدم" بكري الجاك إن تعدد المنابر والمبادرات ظاهرة غير صحية، لازمت الحرب منذ بداياتها الأولى، معتبراً أن استمرار الحرب له علاقة بما سماه "عملية التبضع التي درج قائد الجيش الفريق البرهان على القيام بها في سوق المبادرات المطروحة، فهو مرة يطلب (إيغاد) وتارة أخرى ينادي بالعودة إلى منبر جدة ويذهب في مرة ثالثة إلى الجزائر ثم ليبيا، بهدف كسب الوقت بحثاً عن إحداث تغيير على الأرض لتقوية موقفه التفاوضي، لكن ذلك كله يتم على حساب الشعب السوداني".
أشار الجاك إلى أنه "إذا أراد قائد الجيش صيغة لوقف الحرب فهو أمر متاح له من خلال ما توصلت إليه مفاوضات منبر جدة من تفاهمات عريضة، غير أن ذهابه لاحقاً إلى التفاوض سراً في البحرين، يشير إلى أنه قد غير رأيه فيها واتجه إلى المنامة التي أعادته من جديد تقريباً إلى رؤى جدة ذاتها". وأضاف "منظمة (إيغاد) باتت الآن ممثلة في منبر جدة ومفاوضات البحرين الأخيرة هدفت في الأساس إلى الوصول إلى تفاهمات متقدمة داعمة للمنبر ذاته وتتيح له استكمال ملفي الترتيبات الأمنية ووقف العدائيات ليتم بعدها إطلاق العملية السياسية، وقد بات واضحاً الآن ما يشبه الإجماع على أن يكون منبر جدة هو الأساس الوحيد، وبالإمكان العودة إليه من حيث انتهت جولات التفاوض السابقة".
يتابع القيادي بـ"تقدم"، "إطالة أمد الحرب قد لا يكون لها علاقة مباشرة بكثرة أو تعدد المبادرات بقدر الارتباط بصورة مباشرة بطرفي القتال نفسيهما، بوصفهما يحددان متى وكيف تقف الحرب"، لافتاً إلى أن تمدد واستمرار المعارك حتى اليوم يعني أن الطرفين يفتقران إلى الإرادة السياسية الحقيقية لوقف القتال والدخول في ترتيبات سياسية تضمن حلاً سلمياً أو عملية سياسية متفاوضاً عليها.
تنافس وتوترات
أما المتخصص في مجال العلوم السياسية مدني عبداللطيف مدني فيرى أن تعدد المبادرات خلق وضعاً تنافسياً في ما بينها مما أثر بدوره على الأوضاع والمواقف الداخلية للأطراف وجعلها أكثر عرضة للمؤثرات الخارجية بكل ما تنطوي عليه من أخطار نقل أجندات الصراعات الدولية والإقليمية إلى الساحة السودانية، كما فتح شهية بعض الفاعلين للتدخل في الملف السوداني، وتواترت على أثر ذلك الدعوات إلى أطراف الصراع بصورة أغرقت المشهد وسط زحمة الوساطات ذات المطامع غير البريئة. وأشار إلى أن التوترات في العلاقات السياسية والدبلوماسية لعبت دوراً مهماً في تعطيل وعرقلة مبادرات وقف الحرب والحلول المتوقعة، فمبادرة دول الجوار مثلاً، بحسب مدني، تأثرت بتوترات العلاقات الثنائية مع كل من إثيوبيا وتشاد، بخاصة بعد احتضان أنجمينا للآلية الوزارية لدول الجوار الثمانية، وبدت إريتريا بعد زيارة نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي مالك عقار تتحرك منفردة بتنظيم مشاورات سياسية سودانية وكأنها تتهيأ لإطلاق مبادرتها الخاصة، بينما تصاعد التوتر مع تشاد المتهمة بتقديم دعم لوجيستي عسكري للدعم السريع عبر أراضيها، لتتهم بدورها السودان رسمياً بمحاولة نقل الصراع إلى أراضيها.
إخفاق وتعليق
ومنذ اندلاع القتال أخفقت كل المساعي والمبادرات والوساطات المحلية والإقليمية والدولية المتعددة في وقف الحرب، أبرزها منبر جدة التفاوضي بتسهيل ووساطة سعودية - أميركية مشتركة، ومبادرة منظمة "إيغاد" والاتحاد الأفريقي واللجنة الرباعية التي ضمت كلاً من كينيا وجنوب السودان وإثيوبيا وجيبوتي، ثم مؤتمر قادة دول جوار السودان الذي استضافته العاصمة المصرية القاهرة في الـ13 من يوليو (تموز) 2023، إلى جانب مساعٍ ومبادرات أخرى من الجامعة العربية وتنسيقية "تقدم"، ثم مفاوضات البحرين السرية، وصولاً إلى الوساطة الليبية - التركية (الأحدث) لمفاوضات غير المباشرة بين الجانبين.
وشكل منبر جدة المبادرة الأكثر فاعلية بجمع الطرفين على مائدة المفاوضات والوصول إلى اتفاق مبدئي في شأن القضايا الإنسانية وتخفيف المظاهر العسكرية في الـ11 من مايو (أيار) 2023، لكنها علقت مرتين إثر انسحاب وفد الجيش احتجاجاً على عدم التزام "الدعم السريع" بالانسحاب من الأعيان المدنية ومنازل المواطنين، وما زالت معلقة منذ آخر أكتوبر (تشرين الأول) 2023 حتى اليوم.