ملخص
أثارت حال الشد والجذب تساؤلات حول ما إذا كان انسحاب القاضي الكردي من المحكمة الاتحادية "بداية لانسحاب حزب بارزاني من الحكومة والبرلمان الاتحاديين"، أو أنه بمثابة "ورقة ضغط"
خيمت مجدداً الهواجس في إقليم كردستان من تبعات تصعيد بغداد لفرض قرارات قضائية "ملزمة" على مسار الانتخابات البرلمانية الكردية المنتظرة عقب إعلان قوى الأقليات المقاطعة وانسحاب قاضٍ كردي من عضوية المحكمة الاتحادية، فيما حذر مراقبون وسياسيون من انحدار الأزمة نحو إرغام الحزب "الديمقراطي" الحاكم على الذهاب إلى تأجيل رابع للانتخابات أو انتهاج سياسة "خلط الأوراق" في إطار واقع الاستقطاب الإقليمي القائم على الساحة العراقية.
وتخيم على الإقليم تطورات متسارعة، حيث أعلنت أخيراً القوى المسيحية والتركمانية في الإقليم مقاطعتها الانتخابات المقررة في الـ10 من يونيو (حزيران) المقبل، كما أعلن العضو الكردي في المحكمة الاتحادية العليا عبدالرحمن زيباري الانسحاب من المحكمة احتجاجاً على حزم قرارات "غير قابلة للطعن" كانت أصدرتها المحكمة في الـ21 من فبراير (شباط) الماضي، نصت على إلغاء المقاعد المخصصة للأقليات في الإقليم والبالغة 11 مقعداً وفق نظام "الكوتا"، وتوطين مرتبات الموظفين الأكراد في المصارف الاتحادية، فضلاً عن التأكيد على إلزام حكومة أربيل تسليم الإيرادات النفطية وغيرها إلى نظيرتها الاتحادية.
مناورة سياسية
ويُنظر إلى هذه التطورات على أنها مدفوعة من قبل الحزب "الديمقراطي" الحاكم في الإقليم بزعامة مسعود بارزاني الذي بات يجد نفسه منفرداً في مواجهة القرارات الأخيرة التي صدر بعضها بناء على شكاوى وطعون تقدم بها شريكه الرئيس في الحكم "الاتحاد الوطني" بزعامة بافل طالباني. وفسرت خطوة "الديمقراطي" على أنها محاولة لتعطيل مسار الانتخابات والتنصل من تنفيذ قرارات المحكمة التي يرى أنها "مخطط سياسي" يستهدف حصراً نفوذه في الإقليم لأن مقاعد الأقليات كانت ضمن نطاقه، فضلاً عن شكوكه إزاء حيادية مفوضية الانتخابات الاتحادية التي ستشرف للمرة الأولى على العملية الانتخابية الكردية، لوقوعها تحت تأثير هيمنة القوى الشيعية الحاكمة في بغداد، ومن ضمنها حزب طالباني والمدرجة ضمن القطب الموالي لإيران، فيما قللت أوساط سياسية من إمكان اتخاذ حزب بارزاني خيار التعطيل تحسباً من تداعياته المحلية والدولية على مستقبل شرعية مؤسسات الإقليم.
ورافق هذا التوتر إعلان وزارة المالية الاتحادية إرسال مرتبات موظفي الإقليم لفبراير وفق آلية "قوائم الأسماء"، لكنها رهنت استمرار التمويل لمارس (آذار) المقبل بتوطين المرتبات في البنوك الاتحادية. وأكدت شركة النفط الوطنية "سومو"، "مدى التزام الإقليم بتسليم النفط والعائدات لبغداد"، لكن وزارة مالية الإقليم ردت أنها "لم تتلقَّ سوى 59 في المئة فقط" من مجموع مرتبات فبراير البالغة نحو 633 مليون دولار، وقالت إن "41 في المئة من موظفيها سيحرمون من مستحقاتهم بسبب عجز في التمويل" يصل إلى 26 مليون دولار، مما يعني أن الإقليم سيعتمد على إيراداته المحلية لسد العجز، قبل أن تصدر المحكمة الاتحادية لاحقاً بياناً أكدت فيه "إمكان الاستمرار بدفع المرتبات وفق الصيغة السابقة لحين إصدار البطاقات المصرفية للموظفين".
خطوات مبهمة
وأثارت حال الشد والجذب ردود أفعال وتساؤلات حول ما إذا كان انسحاب القاضي الكردي من المحكمة الاتحادية "بداية لانسحاب حزب بارزاني من الحكومة والبرلمان الاتحاديين والعملية السياسية في بغداد"، أو أنه بمثابة "ورقة ضغط لن تتجاوز الحصول على مكاسب في ملف المرتبات والانتخابات الكردية المقبلة"، إذ رأى النائب المعارض السابق علي محمد صالح في انسحاب القاضي الكردي أنه "مؤشر على سعي حزب بارزاني إلى التهرب من الإقرار بقرارات المحكمة في ملفين ملحين وهما المرتبات والانتخابات، وهذا يضع الإقليم في نفق مظلم لأن انسحاب القاضي لن يغير شيئاً في قرار المحكمة"، وتساءل "ما هي الخطوة التالية؟ وما الذي سيفعله في شأن مستحقات الموظفين ما دام أنه لا يريد أن ترسل المرتبات مباشرة إلى الموظف؟"، محذراً من أن "التهرب من إجراء الانتخابات سيلحق مزيداً من الضرر بالحكم في الإقليم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
محركات اقليمية
في المقابل، إن "تكثيف بغداد من إجراءاتها لتطويق حزب بارزاني وضرب نفوذه المترسخ في الإقليم منذ أكثر من عقدين لن يخلو من رد فعل"، على حد وصف الباحث في الشأن الكردي جمال بيره الذي يعتقد بأن "محاصرة الديمقراطيين في زاوية بالطبع سيكون له رد فعل، حتى إن كانوا فقدوا كثيراً من الخيارات التي تمنحهم القدرة على المناورة والتهرب من الخضوع لبغداد"، وأوضح أن "حزب بارزاني من المؤكد أنه لن يتوانى عن الذهاب نحو أسلوب خلط الأوراق إذا ما اضطر إلى ذلك في آخر المطاف لأن الإقليم واقع تحت تأثير الاستقطاب الإقليمي والديمقراطي هو جزء من هذه المعادلة، مما يعني إمكان أن تقوم دول إقليمية بدور فاعل على الصعيدين السياسي والعسكري في أي تحول قد يحصل على الساحة العراقية عموماً والكردية تحديداً". وإزاء فرص الحلول يقول بيره إن "انتهاج أسلوب الاستفزاز يعقد المشهد، مما يحتم على بغداد التأني في فرض القوانين وسلطة الدولة والعمل عليها بخطوات مدروسة كي لا يظهر موقفها على أنه ازدواجي لمصلحة طرف دون آخر، فالديمقراطيون يرون اليوم أنفسهم على أنهم مستهدفون، فيما يتم التغاضي عما يحدث من تجاوز على المؤسسات الشرعية للدولة من قبل بقية القوى الفاعلة على الساحة العراقية".
تهيئة للالتفاف على القرارات
وبناء على المعطيات، فقد دخل الإقليم منعطفاً جديداً بعد سلسلة من المتغيرات التي طرأت عقب إجراء الأكراد استفتاء للانفصال عام 2017 وانسحابهم من كركوك وما تلا من صدور قرارات قضائية اتحادية، وفق الكاتب توانا عثماني الذي يرى أن "مؤشرات تجاوز هذه المرحلة تبدو واضحة من دون أن يتضح الواقع الذي سيحل محلها، إذ أصبح الإقليم، بخاصة الحزب الديمقراطي الذي يعاني مادياً ومؤسساتياً في وضع صعب ومعقد أمام ضغوطات بغداد الغنية". ويعتقد بأن "مسألة مقاطعة الأقليات للانتخابات وانسحاب القاضي الكردي يعدان مؤشراً مبكراً على أن الديمقراطي لديه قرار آخر لكنه يقوم بتهيئة أرضية دراماتيكية لتنفيذه".
ويتوقع عثمان أن "يحاول الديمقراطي خلال الأيام المقبلة إرغام بغداد على مراجعة قوانين المحكمة قبل الانتخابات، عسى أن يسجل بعض المكاسب تجنباً في خوضها وهو في حال حصار، أو سيكون له بالطبع رد فعل بغير اتجاه"، موضحاً أن "حال الاستقطاب القائمة تعد أهم وأوسع من الانتخابات التي تحتل جزءاً صغيراً من الوضع الجديد الذي نشأ في الإقليم والعراق عموماً والمنقسم بين القطبين الإقليميين إيران وتركيا، وقد نرى قطباً آخر بيد المرشح للرئاسة الأميركية دونالد ترمب إذا ما فاز في الانتخابات نهاية العام الحالي".
للأتراك حضور
وفي هذا السياق، اعتبر مصدر سياسي مطلع أن التوتر الحاصل "يمثل جزءاً من الصراع التاريخي الدائر بين الأتراك والإيرانيين وأن الحزبين الحاكمين في الإقليم عنصران متضادان ضمن هذه المعادلة"، في وقت لم يستبعد أن "تضطلع أنقرة بدور، خصوصاً أن وزراء وقادة عسكريين أتراك أكدوا أخيراً قيامهم بتحضيرات لشن عملية عسكرية واسعة النطاق في عمق الإقليم الكردي لقمع مسلحي حزب العمال الكردستاني المعارض لأنقرة، أي ربما تصل الأمور في آخر المطاف إلى توغل الجيش التركي في مناطق نفوذ حزب بارزاني والمنافذ التي تربطه بمناطق حزب طالباني والحكومة الاتحادية، لتصبح بغداد في مواجهة عضو فاعل في حلف الناتو، على رغم أن الحديث ليس ضمن الخيارات الملحة".
من جهة أخرى، دعت أصوات كردية معارضة الديمقراطي إلى "الاتعاظ" من التجارب التاريخية في التعامل مع السلطة في بغداد والتكيف "مع الواقع الفيدرالي".