ملخص
في ظل توقف دعم الأونروا، يواجه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان تحديات جمة، وسط مخاوف من استغلال الفصائل المسلحة لحاجتهم
تشكل الأوضاع الحياتية والسياسية للفلسطينيين في لبنان أحد الجوانب المعقدة والحساسة في الشرق الأوسط، حيث تتشابك القضايا الاجتماعية والإنسانية مع التوترات الإقليمية والدولية. ومنذ النكبة في عام 1948، وجد الفلسطينيون أنفسهم في لبنان وغيره من دول المنطقة كلاجئين، يبحثون عن ملاذٍ آمن، ولكنهم واجهوا تحديات جمة تتعلق بالحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية. وعلى مر العقود، تطورت الأوضاع داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان وخارجها، لتصبح مرآة تعكس الصراعات والآمال والأحلام وأيضاً اليأس الذي يعتري حياة هذه الفئة من الناس.
كيف تبدو الأوضاع الحالية للفلسطينيين المقيمين في لبنان، خصوصاً أولئك الذين يعيشون داخل المخيمات؟ وما هي الآفاق المستقبلية لهم في ضوء التطورات السياسية المحتملة في المنطقة؟
في جولة لـ"اندبندنت عربية" في مخيم برج البراجنة، الواقع في الضاحية الجنوبية لبيروت، والذي يؤوي لاجئين فلسطينيين، يشارك أحد السكان تجربته مع الحياة اليومية في المخيم قائلاً "كل يوم يمر يزيد من صعوباتنا. نواجه شحاً حاداً في الخدمات الضرورية، وفرص الحصول على الرعاية الصحية والتعليم محدودة جداً. الفقر يحاصرنا من كل الجهات، مما يجعل الأمل في مستقبل أفضل يبدو بعيد المنال في ظل الأوضاع الحالية".
وقاطعه جاره قائلاً إن "الخدمات المقدمة من قبل الأمم المتحدة دون المستوى المطلوب. نواجه تحديات جمة في الحصول على الدعم الأساسي والضروري للعيش بكرامة. يبدو أن هناك فجوة كبيرة بين الوعود والواقع الذي نعيشه يومياً".
اللاجئون بالأرقام
ووفقاً لتقرير صادر عن "الدولية للمعلومات"، "يبلغ عدد الفلسطينيين المسجّلين لدى "الأونروا" في لبنان 489293 فلسطينياً. إلا أن الأرقام الفعلية تشير إلى تقديرات أقل، حيث يُعتقد أن العدد الحقيقي للفلسطينيين في لبنان يقارب الـ300 ألف. بيانات أخرى صادرة عن لجنة الحوار اللبناني- الفلسطيني ونتائج مسح أجرته إدارتا الإحصاء المركزي في كل من لبنان وفلسطين في عام 2017، تشير إلى أن عدد الفلسطينيين يصل فقط إلى 175 ألفاً".
ويشير تقرير "الدولية للمعلومات" إلى أن "الأونروا، من جانبها، تقدم خدماتها إلى نحو 200 ألف فلسطيني موجودين في 12 مخيماً فلسطينياً موزعين عبر الأراضي اللبنانية. ويظهر التوزيع السكاني للفلسطينيين في المخيمات كالتالي: مخيم عين الحلوة يضم 50 ألف نسمة، ومخيم الميّة وميّة 4500 نسمة، مخيم الرشيدية 27500 نسمة، مخيم البصّ 9500، البرج الشمالي 19500 نسمة، ومخيم برج البراجنة 16 ألف نسمة، ومخيم صبرا وشاتيلا 8500 نسمة، ومخيم مار إلياس في بيروت الذي يؤوي 600 شخص، ومخيم نهر البارد 27 ألف شخص، والبداوي 16500، ومخيم الويفل في بعلبك 8 آلاف، ومخيم ضبية 4591 نسمة".
وتوفر هذه الأرقام بحسب "الدولية للمعلومات" "نظرة عامة للتحديات التي تواجهها الأونروا في تقديم الخدمات والدعم للفلسطينيين المقيمين في لبنان، وتسلط الضوء على الفجوة بين الأعداد المسجلة والواقعية للفلسطينيين في البلاد".
في السياق، يشير الرئيس التنفيذي لشركة "ليبانون ستاتيستكس" Statistics Lebanon، ربيع الهبر، في حديث خاص لـ"اندبندنت عربية"، إلى "تناقص هذه الأعداد عبر السنين"، مرجعاً السبب إلى "عودة بعض اللاجئين إلى فلسطين بسبب الأزمة الاقتصادية والتغيرات الإقليمية، حيث كان العدد قد بلغ في وقت سابق 500 ألف لاجئ".
ويلفت الهبر إلى أن "أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين خارج المخيمات يتمركز في جنوب لبنان، بعدد يقارب الـ 180 ألف لاجئ، تليهم تجمعات في الشمال والبقاع، ومن ثم في بيروت"، لافتاً إلى أن "معظمهم يعانون جراء الوضع الاقتصادي المتدهور، إذ تتجاوز نسبة الفقر بين سكان تلك المخيمات الـ 70 في المئة، فيما تبلغ نسبة البطالة 56 في المئة، مقارنة بنسبة البطالة في السياق اللبناني التي تبلغ 29 في المئة".
البنية التنظيمية داخل المخيمات
وفي ظل الظروف المعيشية والأمنية المتفاوتة التي يواجهها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، تبرز تحديات كبيرة تتعلق بإدارة المخيمات والأمان داخلها وفي محيطها.
وعن البنية التنظيمية والأمنية لهذه المخيمات، يشير الهبر إلى أن "هناك ستة مراكز أمنية أو قواعد عسكرية لبنانية متمركزة خارج الـ12 مخيماً فلسطينياً في لبنان، مما يسلط الضوء على الجهود المبذولة لضمان الأمان للاجئين"، لافتاً إلى "تقسيم كل مخيم إلى قسمين متميزين: قسم تحت إدارة الأونروا وقسم آخر خارج سيطرتها"، موضحاً أن "الأخير يعكس التوسعات التي تمّت عقب اللجوء الأولي"، معتبراً أن "هذا التقسيم دليل على التعقيدات الإدارية والأمنية التي تواجه مجتمع اللاجئين في لبنان".
التطور الجغرافي
من جهته، قدّم نائب رئيس هيئة علماء فلسطين في لبنان، الشيخ علي اليوسف، في حديث خاص لـ"اندبندنت عربية"، لمحة شاملة عن الوضع الجغرافي والتطور التاريخي لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
ويوضح اليوسف أن "لبنان يحتضن 14 مخيماً فلسطينياً تنتشر بطول البلاد وعرضها، تبدأ من الشمال مع مخيمي نهر البارد والبداوي، مروراً ببيروت حيث توجد مخيمات صبرا وشاتيلا ومخيم مار الياس، وصولاً إلى جنوب لبنان في صيدا بمخيمي عين الحلوة ومية مية، إضافة إلى مخيم البقاع مثل مخيم بعلبك والجليل، وفي منطقة صور حيث يوجد ثلاثة مخيمات هي الرشيدية والبص والبرج الشمالي"، مستذكراً أيضاً "وجود تجمعات كبيرة للاجئين خارج المخيمات، بخاصة في صيدا بجنوب لبنان، حيث يشكل الفلسطينيون نسبة تصل إلى 80 في المئة من سكان حي الزهور، إلى جانب تجمعات أخرى مثل مخيم الشبريحا والمعشوق وكفر بدا والبرغلية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأوضاع الاقتصادية والمعيشية
كما تطرق اليوسف إلى الوضع المعيشي والتحديات الجسام التي يواجهها الفلسطينيون في لبنان، مشيراً إلى أن "البطالة والفقر يسودان في المخيمات، حيث تبرز حالات مأساوية، كما في مخيم برج البراجنة، إذ إن السير في أزقته يعرّض الأفراد لخطر الصعق بالكهرباء نتيجة الأسلاك المعلقة بطريقة عشوائية. أما في مخيم عين الحلوة، فالظروف المعيشية الصعبة تعقد حتى إجراءات دفن الموتى".
وبالعودة إلى عام 1988، يستذكر اليوسف "كيف اضطر العديد من الشباب الفلسطيني للهجرة بحثاً عن سبل العيش ودعم عائلاتهم، متجهين نحو أوروبا وتحديداً الدنمارك والسويد، سعياً للحصول على الجنسية وباتوا يزورون لبنان مساهمين في إعالة عائلاتهم"، معتبراً أن "هذه الهجرة خففت بعض الضغوط الاقتصادية عن العائلات غير المنظمة التي كانت ستواجه مصيراً مجهولاً".
أما حالياً فيقول، "تشهد أوضاع الفلسطينيين في لبنان تدهوراً ملحوظاً أمام تحديات كبيرة، من بينها تراجع خدمات الأونروا في كافة المجالات الصحية والتعليمية والإغاثية. وبناءً عليه، طاولت الأونروا انتقادات واسعة، بخاصة بعد تقليصها لخدماتها، ما أدى إلى تنظيم إضرابات في المخيمات"، مؤكداً أن "تقليص الدعم الصحي والإغاثي تسبب بمعاناة شديدة، حيث انخفضت مساهمة الأونروا في تغطية تكاليف العلاج الطبي بشكل كبير. وتفاقمت الأزمة عندما امتنعت 16 دولة عن دفع مستحقاتها للأونروا، متهمةً إياها بضم أعضاء من منظمات معارضة. هذا القرار تسبب في عقاب جماعي للفلسطينيين في لبنان وسوريا والعراق، مما زاد من الحرمان من الحقوق المدنية الأساسية للفلسطينيين، وأظهر بوضوح الحاجة الملحة لإيجاد حلول جذرية لأزماتهم".
ومما يزيد الأمر تفاقماً، يشير آخر تقرير صادر عن "الدولية للمعلومات"، إلى أن "دولاً عدة بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وإيطاليا وفنلندا وألمانيا والنمسا واليابان، أوقفت دعمها المالي للأونروا بحلول 30 يناير (كانون الثاني) 2024. وتصل هذه المساهمات إلى نحو 1.2 مليار دولار، أي 75 في المئة من إجمالي نفقات الوكالة، مما يهدد بشكل كبير عملها ليس فقط في لبنان بل وفي مناطق أخرى مثل المخيمات الفلسطينية في الأراضي المحتلة".
وعن البديل في هذه الحالة، يقول اليوسف "في الواقع اللبناني، تُعتبر الانتماءات السياسية للفلسطينيين محوراً رئيساً للدعم المالي والاجتماعي"، لافتاً إلى أن "اللاجئين الذين ينتمون إلى منظمة التحرير الفلسطينية يتلقون معاشات من المنظمة، فيما يحصل أعضاء حماس على دعم مالي من الحركة. كما أن المستفيدين من الأونروا يتقاضون دعمهم عبرها. ومع ذلك، تظل هناك نسبة كبيرة من الفلسطينيين من دون تمثيل مباشر أو مصدر دخل ثابت، ما يزج بهؤلاء في أزمات معيشية عميقة، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة".
المشهد السياسي والأمني
أما المشهد السياسي داخل المخيمات بحسب اليوسف، "فيتميز بانقسام بين منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة حركة فتح، وتحالف القوى الفلسطينية بقيادة حماس، مما يخلق توترات مستمرة ويسهم في تفاقم الأوضاع المعيشية داخل المخيمات. وتعكس المواجهات بين الفصائل في مخيمات مثل عين الحلوة والرشيدية بشكل مباشر على سلامة سكانها وأمنهم".
ويلفت إلى أنه "يبرز في هذا السياق، قسم من الفلسطينيين يمكن وصفهم بأنهم "غير مسيسين"، الذين يجدون أنفسهم في وسط هذا النزاع من دون انتماء واضح لأي من الفصائل. هؤلاء الأفراد، البعيدين من السياسة والصراعات المسلحة، يدفعون ثمناً باهظاً نتيجة للعنف الدائر، مما يضعهم في موقع ضعف مستمر. وتتسبب الاشتباكات الداخلية، حتى تلك التي تقع بين فصائل صغيرة وغير معروفة، في استنفار عام يؤثر سلباً في الحياة اليومية لجميع سكان المخيمات، خصوصاً الأفراد والعائلات غير المسيسة التي تجد نفسها محاصرة وسط هذه الصراعات".
أما بالنسبة لدور الفصائل المسلحة الفلسطينية داخل لبنان، وتأثيرها في الحياة اليومية داخل المخيمات وعلى العلاقات مع الدولة اللبنانية، يرى نائب رئيس هيئة علماء فلسطين في لبنان أن "الحفاظ على السلاح يمثل ضرورة بالغة الأهمية بالنسبة للفلسطينيين في لبنان"، معتبراً أن "التخلي عن السلاح يعد بمثابة التنازل عن القضية الفلسطينية والاستسلام لمخططات الذوبان في المجتمعات الأخرى ونسيان حق العودة، الذي يشكل جوهر الوجود الفلسطيني في لبنان"، مؤكداً أن "السلاح يجب أن يستخدم فقط في مواجهة العدو الصهيوني وليس في النزاعات الداخلية داخل لبنان".
ويشير إلى أنه في المخيمات، تبرز حركة "حماس" كأحد الفصائل الرئيسة المسلحة، لكن هناك تنظيمات أخرى مثل "الحركة الإسلامية المجاهدة" بقيادة الشيخ جمال خطاب، و"عصبة الأنصار" بقيادة أبو محجن سعدي، وكلاهما يحظيان بعلاقات وثيقة مع "منظمة التحرير" وحركة "فتح"، وكذلك مع الدولة اللبنانية، لافتاً إلى أن "هذه التنظيمات تسعى إلى توجيه السلاح نحو الهدف المشروع، وهو مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، مع الحفاظ على الأمن داخل المخيمات". ويضيف "من جهة أخرى، يوجد تنظيم "أنصار الله" الذي له علاقات مع "حزب الله"، لكن تأثيره في لبنان آخذ في الانخفاض، بخاصة بعد الاشتباكات في مخيم المية ومية. أيضاً، هناك تنظيم "الأحباش" المسلح في مخيم عين الحلوة الذي يحظى بدعم من النظام السوري و"حزب الله"، وهو يسعى للتنسيق مع الفصائل الأخرى للحفاظ على استقرار الوضع الأمني داخل المخيمات وتجنب تسبب الوجود الفلسطيني في أي مشكلات أمنية مع الدولة اللبنانية".
مستقبل الفلسطينيين في لبنان
وعن التطلعات المستقبلية للفلسطينيين في لبنان، يشير اليوسف إلى أن "هناك سيناريوهات عدة، تتراوح بين الأمل في العودة إلى فلسطين والتحديات الجمة التي قد تفرضها الأحداث الإقليمية"، موضحاً أن "الأحداث الجارية في فلسطين، وخصوصاً ما عُرف بطوفان الأقصى، جلبت الأمل وقرّبت المسافات بين الفلسطينيين في لبنان وحلمهم بالعودة إلى أراضيهم ومنازل أجدادهم"، معتبراً أن "انتصار المقاومة والشعب الفلسطيني في غزة وأنحاء فلسطين يُعد نقطة تحول، تبعث على التفاؤل بتحقيق الأهداف الوطنية وإقامة الدولة الفلسطينية بالقدس عاصمة لها. من جانب آخر، يواجه لبنان تهديدات مستمرة قد تؤدي إلى مزيد من العنف والصراع، ما يجعل بعض العائلات تفضل الهجرة تحسباً لأوضاع أكثر تعقيداً. وتم إخلاء العديد من البيوت في المناطق الجنوبية المتاخمة للحدود مع فلسطين، وتعرضت قرى كثيرة للهدم والإهمال، ما ينذر بأزمة معيشية وسياسية كبيرة في حال نشوب حرب جديدة".
أما السيناريو الثالث والأكثر استقراراً، يتمثل بحسب اليوسف في "الحفاظ على الوضع الراهن، حيث يسعى "حزب الله" لتجنب فتح جبهات جديدة من الاشتباك، مع التزام نسبي من الكيان الصهيوني بعدم التصعيد"، معتبراً أن "هذا الوضع يعكس الديناميات السياسية العالمية المرتبطة بملف الأسرى والمطالبات بوقف الإبادة الجماعية. أما التطورات المقبلة ستعتمد بشكل كبير على الحراكات السياسية العالمية وكيفية تأثيرها في الواقع في لبنان، سواء بتحقيق التحرير أو وقوع حرب شاملة في المنطقة".