ملخص
الألسنة والأقلام انفتحت على آرندت وبخاصة حين أصدرت كتابها المذكور بعنوان "إيخمان في القدس" ولم تكتف فيه بالتركيز على أطروحتها الفلسفية
هي نبوءة أطلقتها بغضب ذات يوم الكاتبة الأميركية ماري ماكارثي بعد حين من وفاة صديقتها الفيلسوفة الأميركية من أصل ألماني حنة آرندت. فهي إزاء الهجمات التي كيلت لهذه الأخيرة وتحديداً لمناسبة ما كتب عند رحيلها في عام 1971 في الصحافة الإسرائيلية وحول العالم، صرخت غاضبة ذات لحظة "يبدو أنهم لن يدعوها ترتاح أبداً حتى في قبرها!". وهؤلاء الذين كانت ماكارثي تعنيهم هم كبار الكتاب الإسرائيليين والصهاينة الأميركيين والأوروبيين من الذين كانوا ما برحوا يشنون عليها الهجوم تلو الهجوم منذ نشرت مجلة "نيويوركر" الأميركية ذلك التحقيق الشهير الذي كتبته آرندت عن المسؤول النازي أدولف إيخمان الذي كانت تابعت في القدس محاكمته بعدما تمكن مخبرون يعملون لصالح الموساد من اختطافه في الأرجنتين حيث كان قد لجأ بعد انهيار السلطة النازية في ألمانيا. ونعرف طبعاً أن إسرائيل قد نقلت ذلك الضابط الكبير إلى القدس حيث حوكم وحكم عليه بالإعدام ليعدم بعد ذلك بالفعل. ونعرف أن الإعلام الإسرائيلي قد عامل تلك المحاكمة بقدر كبير من الصخب الإعلامي والأيديولوجي فتناسقت أصوات كثيرة مقابل ما رأته آرندت وكتبت عنه ذلك التحقيق المسهب الذي سرعان ما تحول إلى كتاب. يومها كانت الفيلسوفة، ومن دون أن تبدي أي تعاطف مع إيخمان، تريد لنصها أن يكون دراسة فلسفية حول الشر ومسؤولية الموظف المأمور في تنفيذ دوره في ممارسته، مبتكرة ذلك التعبير الذي بات محل دراسات ومساجلات منذ ذلك الحين: "عادية الشر" مستندة إلى متابعتها المحاكمة ورصدها شخصية المتهم وسلوكه، معتبرة أن من الممكن اعتباره مجرد منفذ أطاع أوامر رؤسائه كما يجدر بكل موظف حريص على أداء مهمته أن يفعل، ولو أسفر الأمر عن وقوع عشرات الألوف ضحية لتلك "الأمانة".
معركة غير متكافئة
والحقيقة أن الألسنة والأقلام انفتحت على آرندت وبخاصة حين أصدرت كتابها المذكور بعنوان "إيخمان في القدس" ولم تكتف فيه بالتركيز على أطروحتها الفلسفية. المهم أن العدد الأكبر من أصدقاء آرندت سواء كانوا من أبناء جلدة هذه الأخيرة من المفكرين اليهود - ومنهم من كانوا من أشد المتحمسين لفكرها قبل ذلك، ولا سيما عبر قراءة شغوف لبحوثها الرائدة حول الأنظمة والأفكار الشمولية - أم كانوا من غير اليهود، عادوها يومها وهاجموها واصفينها بابنة صهيون الخائنة. لكنها هي لم تبال بذلك بل تابعت طريقها من دون أية تنازلات حتى أمام صديقتها ماري ماكارثي التي كانت من قلة من الكتاب الذين وقفوا مناصرين لها. ومن المعروف أن ماكارثي ظلت على الدوام مخلصة لآرندت تتصدى مدافعة عنها للعدد الكبير من الكتب والدراسات التي واصلت المعركة ضد الفيلسوفة، ولا سيما بعد أن بدا واضحاً أن جزءاً كبيراً من المعركة التي تخاض ضد آرندت إنما تتجاوز حكاية إيخمان لتتناول صفحات عديدة في الكتاب نفسه تركز فيها المؤلفة على ممارسات اللوبيات الصهيونية في ألمانيا خلال السيطرة النازية وما يتردد عن "اتفاقات سرية".
ومن الطبيعي أن الصهاينة استاءوا من حديث آرندت عن تلك المسألة وربما بأكثر مما استاءوا حتى من خوضها الفلسفي في مسألة إيخمان!
حياة مبيد هادئ
والحقيقة هنا أنه خلال السنوات الـ50 التالية لاندلاع القضية لم يتوقف مناوئو آرندت عن التصدي لهذه الفيلسوفة وربما تحقيقاً لنبوءة ماكارثي. ولقد كان من آخر وأشد ما صدر في هذا المجال ضراوة كتاب أصدرته باحثة جامعية أميركية هي بيتينا ستانغنيت التي عنونت كتابها "إيخمان قبل جيروزاليم: حياة مبيد هادئ". ولعل ما يلفت حقاً في هذا الكتاب أنه يجابه كتاب آرندت من موقع يحاول أن يبتعد قدر الإمكان عن الدور الفكري الذي لعبه نص آرندت في الحكاية كلها، ليلتفت نحو إيخمان نفسه الذي غالباً ما كان ينحى جانباً للتركيز على تلك التي "كانت حين توجهت من نيويورك إلى القدس لمتابعة محاكمته وهي معبأة، كما يجدر بها أن تكون، بمشاعر الغضب والاشمئزاز منه، كانت تتوقع أن تكتشف فيه وحشاً دموياً، لكنها بدلاً من ذلك وجدته رجلاً بائساً مسالماً عادياً جداً، فلم تعد جريمته بالنسبة إليها إبادته مئات الألوف من اليهود ولا سيما في المجر حيث مارس مهمته، بل إخلاصه في تنفيذ مهمته". ومن هنا أخذت مؤلفة الكتاب على عاتقها التعمق في دراسة شخصية المتهم والتساؤل عما إذا كان أصلاً على تلك البساطة التي أطلقت قلم آرندت الفلسفي بدلاً من مخيلتها الصحافية الجنائية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الجانب الأسهل من المعركة
بكلمات أخرى لم يعد هم ستانغنت منصباً على آرندت بل على إيخمان نفسه، وذلك بالحديث عن حياته ونازيته الأيديولوجية منطلقة من أمور لا يمكن إثارة أية شبهات من حول صحتها ومنها على سبيل المثال ما قاله هو نفسه ذات مرة خلال أحاديث طويلة أجراها معه كاتب هولندي معروف بنازيته، كان يشتغل على تحضير كتاب حول النازية وممارساتها وذلك تحديداً عبر الاشتغال على إعادة الاعتبار لكبار مسؤوليها معتبراً إيخمان واحداً منهم. ولا سيما من خلال السعي على ألسنتهم لإنكار كل ما يتعلق بالمحرقة اليهودية. هو في هذا المجال بالتحديد يقدم لإيخمان صورة لا شك أنها ستبدو حين تنتشر مغرقة في الرغبة بالتعبير عن قيامه بين مسؤولين كبار آخرين من طينته بما نسب إليه وإليهم، حيث يقول الصحافي فيليم ساسين كيف أن إيخمان حين سئل عن ذلك وقف بكل هدوء وثقة قائلاً "ينبغي عليَّ يا صديقي أن أقول لك بأننا لئن كنا قد تعرفنا إلى أكثر من 10 ملايين يهودي فعلي في أوروبا، فإننا قتلنا منهم نحو 10 ملايين بالفعل. وهو أمر يملأني بالرضا فأقول لنفسي: وإنه لأمر جيد لخائض حرب ما أن قتل كل هذا العدد من الأعداء". ولعل اللافت في هذه الجزئية من نص الباحثة الأميركية أنها توردها من دون أن تبدو وكأنها تبالي حقاً بأن تنسف عبرها تأكيدات آرندت. فمن الواضح أنها تركت تاريخ إيخمان نفسه يتولى ذلك عنها. وبخاصة أن هذه التأكيدات إنما ترد لديها ليس معزولة عن سياق تاريخي واضح وإنما كداعم لصفحات عديدة سبقتها وتشغل القسم الأكبر من الكتاب رسمت فيها، وإلى حد ما هنا أيضاً، المسار التاريخي للمتهم نفسه معتبرة إياه بموثوقيته فعل إدانة بالفعل، ينفي ما تستخلصه آرندت. وهو بالتحديد المسار الذي سارت على خطاه حياته بعد انقضاء الحرب. مسار تشي متابعته "في تفاصيله المؤكدة، بأن أدولف إيخمان خلال إقامته هارباً في الأرجنتين لم يبد على شاكلة ذلك الرجل العادي الذي لم يكن مدركاً خطورة ما اقترفه، والذي تصفه حنة آرندت في كتابها، حتى وإن كان يبدو هادئاً مطمئناً" هو كان يتحدث بفخر وهو "آمن" في الأرجنتين، عما فعل واصفاً ما فعل بالعمل الإبداعي. بل ثمة بحسب تقرير آشهايم الشهير الذي استندت إليه محاكمته ما يفيد بأنه كان غالباً وفي الأوساط النازية في ملجئه الأرجنتيني يوقع صوره لطالبيها واصفاً نفسه في التوقيع على النحو التالي "أدولف إيخمان: ضابط متقاعد في قوات الأس أس" ولا يتردد حين يسأله أحدهم عن رأيه في النتائج التي أسفر عنها قيامه بمهمته التي بلغت ذروة الإتقان في تجميعه لأكثر من 400 ألف من اليهود المجريين وإبادة العدد الأكبر منهم بحسب ما جاء في التقرير، بأن هذا كان "تحفتي التاريخية الكبرى التي لم يحقق أحد قبلها أو بعدها ما يضاهيها!".