ملخص
يخسر صيادو الناقورة في كل يوم تستمر فيه الحرب ويتعطل معه الصيد البحري مئات الملايين من الليرات اللبنانية ويعانون في المقابل أوضاعاً صعبة فرضتها ظروف الحرب والنزوح وقد باتوا بلا عمل وبلا مصدر رزق.
يتغلب صيادو الأسماك بمدينة صور في لبنان على الوقت والملل بمعالجة شوائب مراكبهم، من إصلاح أعطالها وتلحيم بعض الكسور والثقوب، وطلاء هياكلها ومتونها وتحضيرها للموسم الربيعي، بانتظار هدوء مدافع الحرب وعودتهم الطبيعية إلى بحرهم بعدما ضيقت عليهم الحرب المندلعة جنوباً منذ ستة أشهر مساحة الصيد البحري وفضاءه وأوقاته التي كانت مباحة، ليل نهار وبمدى أوسع، مما جعل معظمهم اليوم من دون عمل، أو راحوا يبحثون عن بدائل معيشية إلى أن ينجلي غبار المعركة.
لم يعد ميناء مدينة صور، الجزيرة الموغلة في البحر من جهاتها الشمالية والغربية والجنوبية كسابق عهده، إذ إن الحياة الصاخبة التي كانت تدب فيه وحوله تراجعت كثيراً بعد أن خيمت على المدينة عاصمة القضاء ومنطقتها أجواء الحرب، مما منع إبحار صيادي الأسماك في أي وقت يشاؤون، وكذلك لانحسار السياحة في المدينة بعد تأخر قدوم المغتربين أو مغادرة من كانوا هنا، وانقطاع وفود المدارس، إذ كان تلامذتها يحجون إليها نزهات ورحلات إلى عاصمة السياحة الجنوبية.
الحرب تحاصر الصيادين
منذ اندلاع المواجهات في جنوب لبنان، في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لم تعد المسافة البحرية الطولية بين الزهراني والناقورة البالغة نحو 31 ميلاً (57.4 كيلومتر) والعرضية بعمق 10 أميال (18.5 كيلومتر)، متاحة للصيد بالمراكب والزوارق لنحو 350 صياداً من صور أو هي عينها قبل الحرب، إذ إن المنطقة الأغنى بالثروة السمكية بين صور والناقورة باتت خطرة على إبحارهم فيها ونحوها، بسبب ما تتعرض له من قصف مستمر يطاول الشاطئ القريب وغارات الطيران الحربي الإسرائيلي والمسيرات على عدد من الأهداف والبيوت الدانية والبعيدة وعلى الطرقات الموازية للساحل والبحر.
ويقول نائب نقيب صيادي صور سامي رزق "منذ الثامن من أكتوبر تأثر الصيادون كثيراً، وأوقفنا كل نشاطنا في المرحلة الأولى، أي إننا لم نعد نخرج بتاتاً إلى البحر وأقفلت المسامك نهائياً، خصوصاً بعد انكفاء الناس في عز الموسم السياحي وفي طليعتهم المغتربون".
ويضيف رزق "بعد نحو شهر من بدء الحرب، وتراجع قلق الناس وخوفهم قليلاً، عدنا إلى بيع السمك، لكن بأسعار متدنية، إذ بعنا بنصف القيمة، خصوصاً أن الزبائن الكبار والمغتربين ما عادوا هنا، غادروا، ومن كان يأتي من خارج المنطقة، من وفود وعائلات وسياح وأجانب، امتنعوا عن المجيءبسبب الأوضاع الأمنية، وهذا حقهم، فكيف سنتوقع حضورهم إلى منطقة ساخنة عسكرياً وأمنياً؟".
لا سوق للسمك
كذلك لم تعد سوق السمك في صور على طبيعتها، بحسب رزق، ويردف "خصوصاً بعد فصل ماطر من كل الجهات، أمطار ورياح الطقس المضطرب، وأمطار الوضع الأمني، مما حد من حركة معظم الصيادين ومن خروجهم إلى البحر، خصوصاً في الليل أو عند الفجر، أو خروجهم إلى مساحة محدودة جداً، لا تتعدى ستة أميال (11.1 كيلومتر) في عمق البحر بدلاً من 10 أميال (18.5 كيلومتر)، والحذر الشديد من الإبحار باتجاه الجنوب نحو الناقورة، حيث نسبة الخطر عالية كثيراً هناك، وقد شاهد بعض الصيادين القصف والانفجارات هناك بأم العين، ولم يصدقوا أنهم عادوا بخير".
ليست الأوضاع الأمنية وحدها التي أثرت في الصيادين، بل ما تحتاج إليه مراكبهم وزوارقهم إلى محروقات وزيوت واهتمام بصيانتها في ظل أوضاع اقتصادية متردية وغلاء المعيشة "في مقابل انهيار أسعار الأسماك إلى النصف ودونه، وبتنا نخاف أن نخرج إلى البحر وألا نسترزق فتكون خسارتنا متراكمة"، بحسب ما يضيف النقابي رزق.
يدرك الصيادون أن انهيار أسعار السمك عندهم يقابله ارتفاع في مناطق أخرى، هذا ما يؤكده نائب رئيس النقابة ويقول "من صيدا إلى بيروت والصرفند، أعتقد أن المزاد على السمك ما زال قائماً، إذ إن الوضع الأمني عندهم ليس بالسخونة التي عندنا، لكن أسعار السمك وصلت في صور إلى الحضيض، ربما لأن المدينة ومنطقتها مشلولة تماماً".
الـ1701 يقتطع العمق المتاح
يجمع الصيادون على ميناء صور أن المساحة المتاحة لهم ولمراكبهم كانت 10 أميال (18.5 كيلومتر) إلى ميلين اثنين (3.7 كيلومتر) إضافيين، في عمق البحر، هذا قبل القرار 1701، أما بعده فجرى تقليص هذه المسافة بالاتفاق بين "اليونيفل" والسلطات اللبنانية إلى ستة أميال (11.1 كيلومتر) ليس أكثر، لكن الصيادين كانوا يستعيضون عن اقتطاع مسافة العمق بالإبحار جنوباً نحو الناقورة أو شمالاً نحو الصرفند فالزهراني.
ويقول الصياد البحري محمد أبو العينين "بتنا نخرج من ميناء صور بين 20 و30 مركباً، ليس أكثر، وبعديد مواز من صيدا، ونحو ستة مراكب من الصرفند إلى مساحة محدودة جداً بين صور والصرفند وصيدا، لا تتجاوز 18 ميلاً (33.3 كيلومتر)، وهي منطقة ضيقة جداً لعديد كهذا من الصيادين مع محدودية العمق وخروج الناقورة من احتمالاتنا في الوقت الحالي".
ويشير أبو العينين إلى أن "من يتخط الأميال الستة، يتعرض للمساءلة إذ سرعان ما تتصل قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان بالغرفة البحرية اللبنانية، فتتحرك الأخيرة لتعيده والتحقيق معه".
بحر ضيق للصيد
ويصف أبو العينين رحلة الصيد البحرية "التي نبدأها نحو الثالثة فجراً، فتتراوح رحلتنا ما بين ساعة وساعة ونصف الساعة، وتتم حالياً باتجاه الشمال، نحو القاسمية وعدلون وصولاً إلى الصرفند والزهراني، لأننا لا نستطيع الذهاب باتجاه البياضة ورأس الناقورة، ثمة أفلاك كثيرة تملأ البحر، تضغط على الصيادين، ورزق البحر قليل هذه الأيام، لكننا نعمل قدر المستطاع، ووفق قدرتنا، نريد فقط أن نأكل ونطعم عيالنا ونغطي مصاريفهم المدرسية والحياتية".
لا سمك في بحرنا
ويقول الصياد سامي رزق "لم يعد في بحرنا سمك كي يأكل الصياد والفقير"، ويلفت إلى أن "ثمة ظاهرة تتبدى بفقدان أنواع من السمك في بحر صور ومحيطه، هناك أسماك كنا نصطادها ولم نعد نهتدي إليها أخيراً، أو تكون بين الأصناف التي نصطادها كالسلطان إبراهيم والمواسطة والبلاميدا".
ويضيف رزق "يكاد يمر موسم بأكمله لم نعد نصطاد خلاله مثل هذه الأسماك، ولا نعرف الأسباب الكامنة وراء اختفائها، إن 90 في المئة من كميات الأسماك التي كانت في بحرنا لم تعد موجودة منذ أكثر من سنة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان صيادو صور يصطادون بالشباك والصنانير أنواعاً عديدة من السمك المعروف في لبنان وله زبائن تنتظر الصيد والمواسم، لكن هذه الأنواع تراجعت في بحرنا إلى حد 10 في المئة، وسلطان إبراهيم نادراً ما نعثر عليه".
لكن هناك أنواعاً بديلة ظهرت في ظل غياب الأسماك التقليدية، يلفت رزق إلى "أنها لا تؤكل، ومؤذية، فسمكة الأسد جديدة على بحرنا لكنها مؤذية وتأكل الأخضر واليابس، وهناك نوع شليمون يأكل معظم بذرة السمك، وسمكة نطلق عليها تسمية (خراي)، لها زعانف كالريش إذا ما لمست أحداً حتماً سيدخل إلى المشفى".
الديناميت يخنق البحر
لكل الأسباب التي يذكرها الصيادون، وفي طليعتها الوضع الأمني الدائر منذ نصف سنة، وكذلك موسم الشتاء حيث تتدانى رحلات الصيد البحرية، تراجع مدخول الصياد بصورة حادة، ويؤكد رزق "أننا لم نعد نحصل قوت شهر بما كنا نحصله في أسبوع واحد، وإن حصل الصياد مبلغ 200 دولار حتماً ستكون 100 منها كلف إبحار من وقود وغيرها، لذلك يعوض الصيادون اليوم ببعض المساعدات الغذائية والتموينية من جهات تدرك مآل وضعنا وتدعمنا بهذه المساعدات".
يغمز أحد الصيادين من قناة "الصيد بالديناميت" الذي يمارسه عدد من الصيادين، من خارج المدينة، مما يؤثر في تكاثر السمك ونموه وتضرر البحر، "لأن انفجارات الديناميت تأتي على الكبير والصغير والوسط من السمك، ومن الطبيعي أن يتأثر بحرنا وتتراجع الكميات والأنواع فيه"، هذا ما يؤكده الصياد أحمد محمد طه، وهو منهمك في تطعيم نحو 250 صنارة سيرميها في البحر فجراً، ثم يعود إليها بعد ساعات قليلة.
يقول طه "بعد تجهيز 200 إلى 250 صنارة نخرج إلى البحر القريب أنا وأخي بما لا يتجاوز كيلومترين اثنين، بعد منتصف الليل نرميها وننشرها ونعود إلى بيتنا ثم نقصدها بين الخامسة والسادسة صباحاً، ربما يعلق بين 4 أو 5 كيلوغرامات من اللقز الرملي أو الفريدي، هذا إذا نجت صنانيرنا من كلب البحر".
على الميناء الصوري، ينهمك أصحاب المراكب "السياحية" المخصصة للرحلات البحرية حول صور الجزيرة أو باتجاه الجنوب فالناقورة، أو الشمال فالزهراني، في إعداد مراكبهم، طلائها وتحديثها وتحضيرها "على أمل أن يأتي عيد الفطر وتكون الحرب قد توقفت وصارت الأجواء ربيعية أكثر مهيأة للرحلات البحرية"، وفق طه.
100 صياد هجروا ميناء الناقورة
في صور نحو 380 صياداً أو مساعد صياد بين لبنانيين وفلسطينيين، يتبع إليهم نحو 400 صياد بين كبير وصغير من منطقة الصرفند وعدلون والزهراني، منهم قسم يخرج في بعض المواسم البحرية ويتمنع في مواسم أخرى، وفي الناقورة نحو 100 صياد ويرتفع إلى نحو 150 في مواسم مختلفة، بعضهم يمارس الغوص أو يصطاد بالصنارة. ترك معظمهم ميناء الناقورة والبلدة والمحيط، منذ ستة أشهر وسحبوا مراكبهم وزوارقهم خشية تعرضها للقصف والتدمير.
على رغم أن بلدة الناقورة التي تبعد أكثر من 64 ميلاً عن العاصمة بيروت، و12 ميلاً عن مدينة صور، هي مركز قيادة قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان "اليونيفل"، فإن هذا الأمر لم يحم الصيادين أو يمنع القصف الإسرائيلي عنها، أو الغارات التي دمرت عدداً كبيراً من بيوتها وسقط فيها عديد من الضحايا جراء الغارات هذه.
جرب صيادو الناقورة الخروج بمراكب الصيد إلى بحرهم الأقرب إلى المواقع الإسرائيلية عند الحدود، على مدى شهر ونيف من بدء العمليات العسكرية في جنوب لبنان، لكن وبفعل الضربات التي باتت تتعرض لها البلدة، هجر الصيادون ميناءهم شيئاً فشيئاً، وسحب بعضهم مراكبهم ونقلوها إلى أماكن بعيدة.
ومع تزايد النزوح من البلدة، توقف الصيادون نهائياً عن خوض غمار بحرهم جماعات، إذ إن الطائرات المسيرة لا تغادر سماء المنطقة، خصوصاً بعدما قامت بالإغارة على عديد من الأهداف على الطريق التي توصل الناقورة بمدينة صور، أما من يخرج منهم بحثاً عن قوت عياله، فهو يخوض مغامرة محفوفة بأخطار جمة.
مع توقف العمل والصيد في بحر الناقورة، أقفلت كذلك أربع مسامك داخل البلدة الحدودية، كانت تبيع ما يجنيه صيادو الناقورة وبعض صيادي الجوار وصور، وكان لها زبائن يقصدونها من أماكن بعيدة. لذلك يخسر صيادو الناقورة في كل يوم تستمر فيه الحرب ويتعطل معه الصيد البحري، مئات الملايين من الليرات اللبنانية، ويعانون في المقابل أوضاعاً صعبة فرضتها ظروف الحرب والنزوح وقد باتوا بلا عمل وبلا مصدر رزق.