Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل أصيب طرفا النزاع في السودان بمتلازمة "ضجر الحرب"؟

أصبح الحفاظ على الروح المعنوية يتطلب مزيداً من الحوافز التي لا قبل لقواتهما بها خصوصاً بعد تناقص الدعم اللوجيستي

باتت هناك حالة عبثية ناتجة عن الملل الذي أصاب القوات المتحاربة في السودان (غيتي)

ملخص

لا تقل المفارقات في الأداء الإعلامي عن الوضع الميداني، إذ يتحرك إعلام "الدعم السريع" وفق دعاية سياسية ممنهجة لإدارة الحرب، بينما تأخر الجيش عن خوض هذا السباق لاعتماده على الإعلام التقليدي.

مع اقتراب الحرب في السودان من دخول عامها الأول، أخذ قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان، وقائد قوات "الدعم السريع" الفريق محمد حمدان دقلو حميدتي يحثان قواتهما على الحفاظ على الروح المعنوية، وكل منهما تعهد بتحقيق النصر على خصمه.

وعندما أعلن الجيش إعادة السيطرة على "الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون" السودانية وانتزاعها من قوات "الدعم السريع" الأسبوع الماضي، في عملية وصفت بأنها تحول في سير الحرب، توقع كثيرون أن تتلوها سيطرة الجيش على مناطق أخرى، لكنها لا تزال تحت قبضة "الدعم السريع" الذي تصدى لهجوم الجيش في أكثر من إقليم.

كما استطاعت قوات "الدعم السريع" اقتحام بعض المعسكرات والوحدات العسكرية الحصينة التابعة للجيش بالخرطوم. وفي بعض المواقع، أخلت قوات الجيش مواقعها وانسحبت من مدن مهمة مثل ود مدني ولحقت به انتكاسات أضعفت الروح المعنوية للمواطنين، الذين توقعوا حماية الجيش لهم بعد هجوم "الدعم السريع".

يلاحظ أن الأداء في الفضاء الإعلامي لا تقل المفارقات فيه عن الوضع الميداني، إذ يتحرك إعلام "الدعم السريع" وفق دعاية سياسية ممنهجة لإدارة الحرب، بينما تأخر الجيش عن خوض هذا السباق لاعتماده على الإعلام التقليدي المتمثل في الإذاعة والتلفزيون القومي، ولم تمكنه ظروف السيطرة عليهما من قبل "الدعم السريع" من محاكاة الآلة الإعلامية الضخمة التي كان يسخرها نظام الرئيس السابق عمر البشير إلى جانب الجيش في حرب جنوب السودان، وببرامج كانت تتولاها شعبة التوجيه المعنوي بموازنة ضخمة.

ترجيح القوة

على عكس الحروب السابقة التي اقتصرت على مواقعها الجغرافية مثل الحرب الأهلية في جنوب السودان التي لم تتسع رقعتها إلى أكثر من منطقة جبال النوبة والنيل الأزرق بحكم تمدد الحركة الشعبية لتحرير السودان هناك، والحرب في دارفور، فإن هذه الحرب التي اندلعت شراراتها من الخرطوم، عمت أرجاء واسعة من البلاد، كما أن المدى الزمني لها ليس مخططاً له، وهي مفتوحة على كل الاحتمالات. ففي الأشهر السابقة كانت تبدو كحرب شرسة طويلة، أما الآن فإنه يحتمل أن تطول إلى سنوات عدة، لكن باستمرار العوامل السابقة وأهمها عدم وضوح هدف محدد من الحرب، ففي كل مرة يبرز هدف مختلف يستقطب أطرافاً إقليمية أو دولية. ويمكن أن تنتهي قريباً، ليس بالضغوط الدولية، ولا بترجيح قوة طرف على الآخر، ولهذا الاحتمال إشارات ظهرت في الوصول إلى حالة من التململ داخل قوات طرفي النزاع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذه الحالة ليست حكراً على الحرب في السودان، وإنما حروب كثيرة سواء في عهد الإمبراطوريات العظمى قديماً أم القوى الدولية حديثاً أو غيرها، فإن أي بطولات وانتصارات عسكرية كان يتخللها بعض الملل. وتروي قصص الحروب أن الجنود يمكن أن يمكثوا سنوات خلال مدة الحرب من دون أن تكون هناك معركة ومناوشات، وكذلك من دون هدنة متفق عليها. ومن تلك الحالة انطلقت خلال الحرب العالمية الأولى المقولة الشهيرة التي تقول إن "الحرب فترات طويلة من الملل تتخللها لحظات من الرعب المطلق". وهذا يعني أن "الملل" الذي يظهر أثناء الحروب هو ظاهرة نفسية عسكرية مستمرة بكل تعقيداتها في كل الأزمان والأماكن، ولها تبعاتها السياسية. ولا يتحول الجنود إلى الاستجابة للوضع والاستنفار إلا بهجوم قوي من الطرف الآخر أو استفزاز عسكري، وطول المكوث في فترة اللاحرب واللاسلم من الملل يمكن أن يؤدي إلى خلل وظيفي في الخدمة العسكرية وضعف أفرادها.

تهديد بالعنف

تحاول "قوى إعلان الحرية والتغيير"، تصوير هذه الحرب على أنها حرب بين طرفين متكافئين، فالجيش يمتلك ترسانة أسلحة ظلت تتنامى بعد إنشاء مجمعات مصانع حربية بالتعاون العسكري الذي عقده النظام السابق مع كل من الصين وإيران في تسعينيات القرن الماضي، كما ظهر بصورة جلية في هذه الحرب استخدامه المروحيات والمدفعيات والطائرات المسيرة التي حصل عليها أخيراً من إيران، بينما يمتلك "الدعم السريع" مدرعات ومدفعية ودروعاً ومضادات طائرات من مصادر روسية، فضلاً عن نحو 10 آلاف سيارة رباعية الدفع بعضها مصفحة مزودة بأسلحة رشاشة خفيفة ومتوسطة.

وبدأت قوات "الدعم السريع" التسلح بعد إقرار قانون إلحاقها بالجيش عام 2017 والذي منحها صفة قوة أمنية شبه عسكرية مستقلة، فعقدت القوات صفقات ضخمة مستعينة بنشاط تعدين الذهب الذي تديره، لاستيراد السلاح من شرق أوروبا وبعض الأسلحة الأوروبية والأميركية تحت غطاء وسطاء في السوق السوداء.

صور الهجوم الدامي في هذه الحرب، ووقوع الضحايا والنازحين واللاجئين والعنف المستخدم ضد سكان المدن التي اجتاحتها قوات "الدعم السريع" بالسلب والنهب والاغتصاب، لم تكن الوحيدة وإنما كان هناك جانب آخر يعيشه الجنود من الطرفين، في حالة من الملل بين المعارك. الحالة الأخيرة شهدتها مناطق وقرى أخرى، نفذت فيها قوات "الدعم السريع" تهديداً بالعنف، ولكن لم يقع إلا في حالات استثنائية بالعنف الفعلي والمواجهات الحادة مع الجيش.

وبما أن المتابعات في زمن الحرب تركز عادةً على المسائل العسكرية فقط، فإن الجوانب الأخرى للحرب غالباً ما تكون غائبة. وما ظهر منها هو أن جنود "الدعم السريع" عاشوا في منازل المواطنين التي استولوا عليها، بعد فرارهم من الحرب، حياة ربما تكون مملة، ووثقوا جزءاً كبيراً منها لتحركاتهم العشوائية في المساكن، وارتيادهم الأسواق. وفي الجانب الآخر، فإن مراكز الجيش أيضاً دخلت في حالة من ممارسة الحياة الطبيعية، لدرجة انفصالها تماماً عن واقع الحرب في المناطق الملتهبة.

حوادث عبثية

يرى الباحثان في جمعية الدراسات الدولية البريطانية بجامعة كامبريدج يورج كوسترمان وإريك رينجمار أن "البحث عن السلام الدائم هو ظاهرة حديثة، مرتبطة بنظرة تقدمية للتاريخ، وأن الشعور بالملل يرتبط بفقدان القدرة على التصرف، وكلما أصبحت المجتمعات أكثر سلاماً، أصبح سكانها أكثر مللاً. وكوسيلة للتغلب على الملل، يبدأ تزايد التفكير في العنف، ويتم تمجيد الحرب كوسيلة لاستعادة القدرة على العمل".

ومع تأكيد الباحثين أن الحرب غير عقلانية في مقابل عقلانية السلام، فإن السلام الدائم سيأتي في نهاية المطاف، لكن سينتج مجتمعاً مملاً يتم التحايل عليه بإثارة العنف مرة أخرى. وربما يفسر ذلك دورة الحروب في السودان ونشوءها في أوقات متفرقة، وصولاً إلى الحرب الأخيرة. وخلالها أيضاً تمضي دورة الملل بالتناوب مع العنف المتجدد في غير مناطق الحرب وفي اشتباكات مع سكان المناطق التي اقتحموها، وهو ما ظلت تمارسه قوات "الدعم السريع"، ويظهر في فيديوهات وثقوها بأنفسهم.

 

في الجانب الآخر، حلل بعض المراقبين الهجوم الموجه من الطيران الحربي التابع للجيش، في حالات منه يبدو وكأنه تم بيد هواة وليس جنود محترفين، من جهة عشوائيته وعدم التركيز على الهدف، وكلفة الأضرار الناتجة منه والتي طاولت أبرياء ومدنيين وممتلكاتهم. وظهر في إحدى الصور المتداولة ضباط من الجيش يحملون رؤوساً بشرية أشير إلى أنها لجنود من "الدعم السريع".

ومع إدانة هذه الحوادث المرتكبة من الجهتين، لكنها تثبت عبثية ناتجة من حالة من الملل الذي أصاب القوات بين المعارك. كما أن طول أمدها يزيد قوة التيار الذي ينادي بخيار الحسم العسكري، مقابل تيار آخر يتبنى خيار "لا للحرب" لكن لا يمضي نحو حل تفاوضي، ولا يقبل بالهدن التي اقترحتها الوساطة في "منبر جدة" بقيادة السعودية، منذ بداية الحرب.

دورة الحرب

استدركت قيادات الجيش و"الدعم السريع" تنامي حالة الانقسامات داخل قواتهما، ونفذت عمليات يمكن وصفها بالنوعية، منها سيطرة "الدعم السريع" على مقار عسكرية ومقر "هيئة الإذاعة والتلفزيون"، ثم في جولة أخرى استطاع الجيش استعادة بعض المقار بعد إحباط كبير أصاب القوات. وبعد ما يقرب من اكتمال عام، يمكن تفسير دورة الحرب هذه والأحداث التي تبدو مستغربة في أحايين كثيرة أنها ناتجة من عوامل عدة؛ العامل الأول، أصبح الحفاظ على الروح المعنوية في قوات الطرفين يتطلب مزيداً من الحوافز التي لا قبل لقواتهما بها، خصوصاً بعد تناقص الدعم اللوجيستي ومواجهة التحديات اليومية مباشرة. والثاني، عدم الوصول إلى حالة رضا لدى القوات منذ بداية الحرب، فليس هناك انتصار واضح أو هزيمة واضحة، مع صعوبة مغالبة عدم الانضباط في أوقات كثيرة، أو القدرة على البقاء في حالة من الحماسة. أما العامل الثالث، فهو ارتباك الخطط والتوجيهات، وعدم الحفاظ على المعايير العسكرية الأساسية لدى الجنود، وعدم التناسق خلال الصراع، فعندما يكون هناك هجوم منخفض الحدة يقابله رد فعل حاد، وعندما يكون الهجوم عنيفاً يختفي الطرف الآخر ليواجهه السكان بمفردهم.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل