ملخص
أجمل العادات والتقاليد الرمضانية أضفت على شهر رمضان أجواء مميزة يطغى عليها الدفء والتكافل الاجتماعي. فما الذي حافظنا عليه منها مع مرور الزمن؟
لشهر رمضان طابع خاص بكل ما فيه من عادات وتقاليد جميلة تتوارثها الأجيال. وكأن هذه العادات تأتي لتزين هذا الشهر وتضفي عليه نكهة مميزة بما فيه من دفء، وتضامن اجتماعي، وتكافل بين العائلات. لكل من الشعوب عاداتها، وفي لبنان، كثيرة هي التقاليد التي انتقلت من جيل إلى جيل، فيما اندثرت أخرى مع مرور الزمن وبقيت مجرد ذكرى جميلة تعيد إلى الأذهان صورة شهر رمضان في الأيام الغابرة كما بدا في زمن الأجداد، وقبل أن يترك عصر التكنولوجيا أثره في أجمل معالمه.
"سيبانة رمضان"
تبدو "سيبانة رمضان" وكأنها بمثابة استعداد نفسي للصائمين قبيل بداية شهر رمضان. ويوضح الباحث في التراث الشعبي زياد عيتاني لـ"اندبندنت عربية" أن "سيبانة رمضان" عبارة عن نزهات يقوم بها المسلمون في أواخر شهر شعبان، وغالباً في يوم الأحد الأخير قبل حلول شهر رمضان "بهذه الطريقة، يودعون حياتهم المعتادة بما فيها من مباهج، ويتحضرون لبداية شهر الصيام والانصراف خلاله للعبادة والصيام".
وتوجد روايتان حول تسمية "سيبانة رمضان"، تعيد الأولى أصل التسمية إلى عبارة "استبانة"، أي الرؤية، إذ جرت العادة قديماً بأن ينتشر الناس على شواطئ بيروت في الـ29 من شعبان لرؤية هلال رمضان، فإذا تبين لهم، توجهوا إلى المحكمة الشرعية للإدلاء بشهادتهم، أما الرواية التاريخية الثانية فتشير إلى أن كلمة "سيبانة" باللهجة البيروتية، هي عبارة عن تصحيف لكلمة "شعبانة"، إذ إن قسماً من العائلات البيروتية يعود إلى جذور مغربية، ويعرف التنزه قبل حلول شهر رمضان في المغرب باسم "شعبانة"، لأنه يحدث في الأيام الـ10 الأخيرة من شهر شعبان.
وجرت العادة أن يخرج الناس في آخر يوم عطلة أسبوعية من شهر شعبان، أي في اليوم المخصص لـ"السيبانة"، إلى الحقول والبساتين والمتنزهات مع عائلاتهم وأولادهم وأصحابهم.
طقوس جميلة ترافق السحور
وفق ما يوضح عيتاني، اتخذ التسحير أشكالاً ووسائل مختلفة، في مراحل عدة عبر التاريخ، ولكن أول هذه الأشكال تمثل بالأذان والفوانيس من على المآذن والمنارات والمساجد، بعدها، اعتمدت الطلقات المدفعية المدوية لإيقاظ الصائمين. في مرحلة لاحقة، أخذت شخصية "المسحراتي" بالتطور، وأدخلت الآلات الموسيقية في أساليب التسحير، لحث الناس على الصيام. كما اعتمدت الأناشيد والمدائح والأدعية في نداءات التسحير، وتنوعت الأساليب المستخدمة على مر الزمن، فمنها "البوق" ومنها "النفير" وأحياناً الطبلة كوسيلة للتسحير، وغيرها من الآلات، حتى إن "التسحير" لم يقتصر على الرجال فقط، إذ تطوعت بعض النساء لتسحير الصائمين.
"اصحى يا نايم وحد الدايم. وقول نويت بكرة إن حييت، الشهر صايم والفجر قايم، ورمضان كريم"، أو " يا نايم وحد الدايم، يا نايم وحد الله. قوموا على سحوركن، إجا رمضان يزوركن"، أو "رمضان كريم... رحمن رحيم"، وهي من النداءات التي تتجدد كل عام مع حلول شهر رمضان.
تعتبر ظاهرة "المسحراتي" من الظواهر الرمضانية القديمة، وهي تقليد تراثي عريق، ولطبلة "المسحراتي" إيقاع خاص في ذاكرة المعمرين، لأنها تعيدهم إلى أيام خلت عندما كانوا يتسحرون على أنغام طبلة "المسحراتي" وصوته الشجي.
بحسب عيتاني، بيروت كغيرها من المدن تأثرت وتفاعلت خلال الحقبة الماضية وفي عصرنا الحاضر بظاهرة "المسحراتي"، وصارت مع مرور الزمن تشكل جزءاً أساسياً من تراث رمضان الشعبي وتقليداً ملازماً له. فجرت العادة قديماً، وفي الأسبوع الأخير من شهر شعبان، بأن يتطوع أحد أبناء المحلة للقيام بمهمة "المسحراتي"، ليطوف على البيوت ويكتب أسماء من استجد من الأطفال والسكان، حتى يذكر أسماءهم ويدعوهم إلى السحور، عندما يبدأ شهر رمضان. ويفترض بـ"المسحراتي" أن تتوافر فيه شروط ومواصفات، ليحظى بشرف تولي أمر التسحير. فيجب أن يكون ذا ثقة عند الناس وحسن السمعة، وأن يتمتع بصوت جميل، وأن يجيد الإنشاد وشعر التسحير، وأن يعرف كل سكان المحلة التي يجول فيها. وكان يقف عند كل باب، منادياً صاحبه، فإذا ما رآه قد أضاء القنديل، يكمل جولته على باقي أهالي الحي. وكان الأطفال ينتظرونه خلف النوافذ وعلى الشرفات، وإذا ما ناداهم بأسمائهم، فرحوا، ورموا له الحلوى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد جرت العادة قديماً، في كثير من أحياء بيروت، أن تجول جوقة من "المسحراتية"، هي عبارة عن مجموعة من المنشدين، ينشدون أشعار التسحير على أنغام الرق والمزاهر، فتخرق أصواتهم سكون الليل لتسمع مناجاتهم في كل مكان. ومن تقاليد التسحير، التي كانت سائدة في الماضي أيضاً، أن لكل "مسحراتي" منطقة نفوذ، لا يتخطاها زميل له في المهنة، وإلا فتحدث مشاجرات في ما بينهم.
تجدر الإشارة إلى أن "المسحراتي" لم يكن يتقاضى أجراً بل كان ينتظر حتى أول أيام العيد ليمر بالمنازل ومعه طبلته، فيهب له الناس المال والهدايا والحلويات، ويبادلونه عبارات التهنئة بالعيد.
مونة رمضان
حرص البيروتيون على تموين منازلهم بـ"مونة رمضان" قبل بداية الشهر بكل ما يمكن أن يحتاجوا إليه خلاله. كانوا يقصدون أسواق "المدينة" أو "البلد"، لا سيما "المعرض" وسوق "أبو النصر" للتبضع وشراء الرز والسكر والبقوليات والتوابل على أنواعها، إضافة إلى السمن البلدي والمكسرات وغيرها. وكان بعضهم يقصد سوق "الزجاج" والمحال التجارية المنتشرة في ساحة "البرج" (بيروت) لتجديد أواني المطبخ وباقي مستلزمات المائدة. أما اللحوم والدجاج والفاكهة والخضراوات، خصوصاً مكونات "الفتوش"، فكانوا حريصين على شرائها يومياً لتكون طازجة من "درج خان البيض" وسوق "اللحامين" وسوق "النورية".
احتفالات بيروت
كثيراً ما استقبلت بيروت شهر رمضان بحلة زاهية، فتتزين شوارعها وزواياها، وتضاء فيها المصابيح، وتطلق الأسهم النارية ابتهاجاً. كما تشع أنوار مساجدها ترحيباً واحتفالاً بقدوم شهر الصوم والعبادة. وما إن يعلن ثبوت شهر رمضان حتى كانت تنطلق الفرق والأفواج الكشفية بمسيرات لاستقباله، وكانت تطوف أحياء العاصمة يتقدمها حملة الأعلام والمشاعل المضيئة، ويرتدي أفرادها الزي الكشفي الموحد على وقع الخطوات المنتظمة. وكان الأهالي ينثرون عليهم الأزهار والأرز وماء الزهر والورد، لكن مع مرور الزمن اندثرت الاحتفالات الكشفية لتحل مكانها المواكب الرمضانية السيارة التي تجوب الشوارع والمناطق، وعلى متنها مجسمات تمثل معالم تاريخية وتراثية وتطلق الأغاني الخاصة، مثل أغاني أحمد قعبور (فنان لبناني). كما تقل الأطفال الذين يرتدون ثياباً تراثية جميلة مثل ثياب "المسحراتي" والعروس المكللة بتاج من الورد والأزهار، ويلوحون بالأعلام، ويوزعون ابتساماتهم البريئة على المواطنين المنتشرين على الأرصفة وشرفات المنازل.
مدفع رمضان عبر التاريخ
خلال القرن الماضي كانت هناك حاجة إلى وسيلة تعلم الناس بحلول شهر رمضان وأيضاً للإعلان عن موعدي الإفطار والإمساك. وفي تلك الحقبة لم يكن جهاز "الراديو" قد توافر بعد، حيث دخل المدينة للمرة الأولى عام 1928.
لذلك ارتأت الدولة العثمانية في عهد إبراهيم باشا استحداث مدفع في ولاية بيروت، لإطلاق 21 طلقة بهدف إعلام الناس رسمياً بحلول شهر رمضان. أما خلال موعدي الإفطار والإمساك، فكانت المدفعية تطلق طلقة واحدة. وكان موقع المدفع في العهد العثماني في الثكنة العسكرية الواقعة على الرابية المطلة على بيروت، في ما يعرف اليوم بمجلس الإنماء والإعمار. وكان لمدفع رمضان عجلتان كعجلات العربات، وقذيفته حشوة قماش كتان محشوة باروداً. وكانت البغال تجر هذا النوع من المدافع من مركزه في ثكنة "مار الياس"، التي تعرف اليوم بـ"ثكنة الحلو"، واستمرت هذه العادة حتى عام 1923. وكان يشرف على إطلاق المدفع "ميقاتي" (نسبة إلى توليه ضبط مواقيت الإفطار والإمساك) من الأوقاف آنذاك، فيسحب من جيب سترته ساعة معلقة بسلسال ذهبي، لإطلاق المدفع، فيحدث دوياً ترتج له المدينة.
ومع انتهاء عهد الدولة العثمانية، واتساع مدينة بيروت جنوباً وغرباً، وظهور أحياء جديدة، قررت المفوضة العليا الفرنسية التي كانت تشرف على هيئة شؤون الإفتاء والأوقاف الإسلامية نقل مدفع رمضان إلى منطقة تلة الخياط، التي كانت تطل على معظم أحياء بيروت بسبب ارتفاعها عن باقي المناطق. واستمرت عادة إطلاق مدفع رمضان حتى قبيل الحرب اللبنانية عام 1975، ولكن خلال الحرب التي عصفت بلبنان، ولأنه كان يتعذر التمييز بينه وبين المدافع التي كانت تستخدم للأغراض العسكرية، توقف إطلاق مدفع رمضان طوال سنوات الحرب.
الفتوش طبق رمضاني بامتياز
تماماً كما ترافق شهر رمضان عادات وظواهر احتفالية، للسفرة الرمضانية خصائصها وأطباقها التي بقيت صامدة مع مرور الزمن. وبحسب عيتاني يبدو وكأن مهرجان الخضراوات قد اجتمع في طبق واحد هو طبق الفتوش الذي يزين مائدة رمضان بمكوناته التي تضم باقة غنية ومتنوعة من الخضراوات الطازجة، فيضفي رونقاً ولا أجمل عليها. وهذه السلطة التي انطلقت من المطبخ اللبناني وارتبطت باسمه، اكتسبت شهرة واسعة في شهر رمضان بعد أن تحولت إلى طبق يومي على موائد الإفطار. أما عن تسمية هذه السلطة، فهناك روايتان. ترجع الأولى أصل الكلمة إلى "فت وشوف"، إذ يتطلب إعداد الفتوش تفتيت الخضراوات إلى قطع صغيرة، ومع مرور الزمن صارت تلفظ "فتوش". أما الرواية الثانية فتعيد التسمية إلى أن أصول إعداد وتحضير الفتوش يقتضي تقطيع الخضراوات بأحجام صغيرة جداً، وعندما تمزج في الطبق تضيع هوية الأصناف فيحتاج كل من يتذوق الفتوش أن يفتش أو يبحث عن كل قطعة صغيرة في حال أراد التمييز بين المكونات، فأطلق عليه تسمية "فتوش" بمعنى التفتيش.
"شوربة" العدس من الثوابت أيضاً
من بين عشرات الأطباق التي تزدان بها المائدة الرمضانية تعتبر "الشوربة" بأنواعها المختلفة سيدة الأطباق الرمضانية التي يقبل عليها الصائم ساعة الإفطار. و"شوربة" العدس ملائمة لحاجة الصائم لشراب ساخن غني بقيمته الغذائية وخفيف على المعدة. وتشير الدراسات التاريخية إلى أن الفراعنة هم من أوائل شعوب الأرض التي تعرفت على حبوب العدس وكيفية استخدامها في طعامهم. علماً أن كلمة "شوربة" هي فارسية وتعني الحساء والمرق.
الرز باللحم
يعتبر الرز باللحم ملك الأطباق الذي يتربع على "سفرة" رمضان. فطبق الرز باللحم أو الدجاج يكتسب، منذ زمن بعيد، أهمية خاصة لا غنى عنه، لذلك يتميز بحضوره الدائم على مآدب رمضان. ففي الماضي كان طبق المناسبات، لأنه من الأطباق المكلفة، خصوصاً في زمن المجاعة. فكان الرز من السلع الغذائية النادرة والمستوردة، في حين أن البرغل (مشتقات القمح) كان متوفراً وبكلفة زهيدة. لذلك، كان معتمداً في تحضير معظم الأطباق اللبنانية، من هنا أتى المثل الشعبي "العز للرز والبرغل شنق حالو".
أجمل الذكريات من العادات الرمضانية
من جهته يعود الباحث في تاريخ بيروت نضال شومان إلى العادات الرمضانية الجميلة والأجواء التي كانت سائدة في بيروت في شهر رمضان "فمع اقتراب الشهر الكريم، يحرص الشباب والفتيان على جمع التبرعات من المنازل لتزيين الحي ومد خطوط الإنارة وطلاء الجدران في الشوارع باللون الأبيض، كما تثبت سعف النخل على مداخل البيوت".
"وجرت العادة أن يجتمع الجميع حول مائدة الإفطار في اليوم الأول عند كبير العائلة، إذ يجتمع الأبناء والأحفاد على المائدة التي يشارك الجميع بتحضيرها. ولا يجلس أحد على كرسيه قبل أن يأخذ كبير العائلة مكانه على رأس الطاولة، ويكسر الصيام بحبة تمر وقليل من الماء مع الدعاء فتقام صلاة المغرب وبعدها يبدأ الطعام".
ولدى الانتهاء من الأكل، بحسب شومان، "يتحضر الرجال للتوجه إلى المسجد لأداء صلاة العشاء والتراويح فيما تقوم النساء بترتيب المائدة، وتحضير لوازم السهرة من مشروبات ونرجيلة وأصناف الحلويات على اختلاف أنواعها من زنود الست، وكلاج، ومعمول مد، فتكون جلسة لتناول الحلويات مع عودة الرجال والأطفال من المسجد، وتبدأ بعدها جلسة القصص ونوادر الأجداد والترحم على من توفي منهم".
ويتابع شومان "لم تكن تحلو سهرات الأجداد من دون الاستماع لقصص الحكواتية في المقاهي الشعبية التي تعمر بعد صلاة التراويح"، أما عن العادات الرمضانية الحالية فيشير شومان إلى أن ليالي رمضان باتت قصيرة تسرقها نشرات الأخبار ومسلسلات الفضائيات، ومما لا شك فيه أن الحياة اختلفت كثيراً، خصوصاً في ظل الأزمات المحلية والعالمية التي انعكست على أجواء رمضان ولا سيما في السنوات الأربع الأخيرة التي أرهقت المجتمع اللبناني بصورة عامة، ويأتي شبح الحرب الذي يلقي بظلاله على لبنان ليزيد من مرارة الأزمة الاقتصادية التي انعكست على مجمل الطبقات البيروتية.