ملخص
قد يكون أول هذه التمايزات إصرار فرنسا على عدم تصنيف "حزب الله" منظمة إرهابية في حين أن الولايات المتحدة تعتبر أن الحزب معني بضرب سيادة واستقلال لبنان
تظهر المتابعة اليومية للملفات اللبنانية الشائكة ومواقف الدول المؤثرة منها، وجود تمايز بنيوي قائم بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا تجاه لبنان، ولو أن ثمة تقاطعات أكيدة بينهما انطلاقاً من حاجتهما إلى الإبقاء على الحد الأدنى من التعاون.
وقد يكون أول هذه التمايزات التي لم تتغير في السنوات الـ20 الماضية إصرار فرنسا على عدم تصنيف "حزب الله" منظمة إرهابية والفصل بين جناحيه العسكري والسياسي، والاستمرار في قنوات تواصل مباشر معه، في حين أن الولايات المتحدة تعتبر أن الحزب معني بضرب سيادة واستقلال لبنان، وقد عبرت مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بربارا ليف، الأسبوع الماضي، بوضوح عن الموقف الأميركي من الحزب معتبرة أنه "يقود لبنان إلى وضع خطر"، وعبرت عن تطلعها "لأن تحتكر الدولة اللبنانية السلاح ويكون حزب الله حزباً سياسياً".
وإلى الموقف من "حزب الله" يسجل تمايز ثان بين واشنطن وباريس على صعيد حجم المساعدات التي تقدم سنوياً للجيش اللبناني. ففي حين تبدي الإدارة الأميركية اندفاعة لدعم المؤسسة العسكرية بالعديد والعتاد، وتعد أميركا الدولة المساهمة الأولى في تسليح الجيش اللبناني، بقي الدور الفرنسي على هذا الصعيد خجولاً على رغم التعاون العسكري اللبناني - الفرنسي. ولم تنجح محاولات باريس في التفرد بتنظيم مؤتمر لدعم الجيش، على غرار "باريس – 1" و"باريس – 2" بسبب الاعتراض الأميركي. واستعيض عنه باجتماع عقد في روما بين قائد الجيش العماد جوزيف عون ورؤساء جيوش فرنسا وإيطاليا وألمانيا وقائد القيادة المركزية الأميركية الوسطى.
ومن التمايزات أيضاً انكباب فرنسا على محاولة الاختراق الدائم للقطاع الخاص اللبناني من خلال تثبيت موقعها الاقتصادي أكثر من السياسي، في حين أن الولايات المتحدة ذهبت باتجاه تزخيم الدعم الاقتصادي المالي من دون عقود لشركاتها بالمباشر، وعملت على دعم قوى المجتمع المدني بما يسهم في محاولة قيام قيادة مغايرة تساعد لبنان على الخروج من مأزقه، في المقابل، أسهمت فرنسا في إنعاش الطبقة التقليدية، بحجة أنها منتخبة من الشعب.
في الرئاسة والجنوب
أما التمايز الأكثر نفوراً بين الدولتين الصديقتين للبنان، فتمثل بمقاربة مسألة الاستحقاق الرئاسي، خصوصاً في الأشهر الثمانية الأولى من الشغور الرئاسي، ففي حين رفضت أميركا والسعودية ومصر الدخول في لعبة الأسماء وركزت على المواصفات وأن يكون سيادياً وإصلاحياً، اندفعت فرنسا في تسويق أسماء وطرح مقايضات بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، على قاعدة المبادرة الواقعية، وبدت أقرب إلى الخيار الإيراني الذي يعبر عنه "حزب الله" منها إلى خيار المجموعة الخماسية، حتى عندما اصطدمت مبادرتها بمعارضة داخلية انتقلت فرنسا إلى تبني فكرة رئيس مجلس النواب نبيه بري لعقد طاولة حوار للاتفاق على الرئيس العتيد، بما يخالف نص الدستور اللبناني.
وعكست أحداث غزة وانخراط "حزب الله" في مواجهات حربية داعمة لحركة "حماس"، تبايناً جديداً بين الأميركيين والفرنسيين خصوصاً على صعيد الترتيبات الأمنية المطلوبة لتنفيذ القرار الدولي 1701. وتفردت فرنسا في تقديم ورقة إلى الجانب اللبناني، تضمنت اقتراحات بترتيبات أمنية تنفذ على مراحل، لم يأخذها الحزب على محمل الجد مفضلاً التفاوض مع الأصيل كما نقل عنه. وحاول الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين قطع الطريق على الورقة الفرنسية، علماً أنه وفق مصادر دبلوماسية في واشنطن، فإن الموفد الرئاسي كان موضع مساءلة واستماع أمام الكونغرس الأميركي والخارجية لتأكيد عدم الفصل بين القرار 1701 وأي حل مستقبلي للمنطقة الجنوبية في لبنان.
لماذا التعاطي الفرنسي مختلف؟
ويعترف منسق لجنة التنسيق اللبنانية الفرنسية CCLF طارق وهبي بوجود اختلاف بالتعاطي شكلاً ومضموناً بين الدوائر الفرنسية والأميركية تجاه الملف اللبناني، ويعتبر أن فرنسا، وانطلاقاً من تاريخ العلاقة مع لبنان تتعاطى بحماس للمساعدة لكنها تصطدم بالواقع أو بالمساحة السياسية التي تستطيع أن تتحرك فيها، ويشرح وهبي، وهو باحث في العلاقات الدولية، أن باريس اتخذت موقفاً واضحاً منذ الانتخابات النيابية السابقة برفض أي فراغ في الحكم والحيلولة دون تأجيل الاستحقاقات الدستورية، لكن الواقع السياسي اللبناني أجبر المفاوضين الفرنسيين على التقليل من مستوى التفاؤل. ويؤكد وهبي المقيم في فرنسا أن باريس حددت قبل نهاية مدة الرئيس السابق ميشال عون ثوابت، كان أولها أن الفراغ سيؤدي إلى فوضى، ويقوي من مواقف الفريق الأقوى، لناحية الحضور والإمكانات والتحالفات الخارجية، لكنها لم تستطع أن تفعل دبلوماسيتها فوقع الشغور. ويعتبر الباحث الدولي أن الدبلوماسية الفرنسية فشلت في تحقيق أي من الثوابت المتعلقة بلبنان، وأن موقفها الرافض الفراغ الرئاسي فسر بأنه تفضيل لمرشح على آخر، إلا أن القاسم المشترك مع أميركا في الملف الرئاسي اللبناني يتمثل حالياً عبر "المجموعة الخماسية" (الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر) كإطار دولي جامع للمساعدة في إنهاء الأزمة الرئاسية.
وعن انفتاح فرنسا على "حزب الله" فهو، وفق وهبة، "انطلاقاً من ضرورة إقامة علاقات مع كل الأطراف اللبنانية لتسهيل الوصول إلى حلول"، ويضيف أن العلاقة مع الحزب كانت ولا تزال جزءاً من الدبلوماسية الفرنسية مع إيران، وهي تصب في صالح المصالح الفرنسية التي ترغب بإعادتها وتثبيتها مع طهران، وأن باريس ترى أن النقاش مع الحزب في لبنان أمر أساس لتحقيق المشروع الفرنسي القائم على الوصول إلى صيانة الجمهورية اللبنانية من دون الانجرار إلى التدخل المباشر وترك الأطراف اللبنانية تفاوض، "ويجب ألا ننسى أن أميركا تفاوض إيران بالواسطة عبر شركاء أوروبيين أو سلطنة عمان سعياً إلى تحقيق مصالحها"، ويتحدث وهبي عن ثابت ثالث في السياسة الفرنسية تجاه لبنان وهو داخلي فرنسي وأوروبي قائم على فكرة أن لبنان القوي لن يسمح بتزايد حركة المهاجرين من شواطئه إلى المدن الأوروبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتابع "هناك مقاربة متمايزة للحل في الجنوب إلا أن الدولتين تعتبران أن القرار 1701 هو أساس الحل، ومن الواجب إعادة تفعيله بمساعدة الجيش اللبناني والقوات الدولية (يونيفيل)، ومن هنا سعت فرنسا إلى تنظيم مؤتمر لدعم الجيش حتى يتمكن من تنفيذ القرار، إلا أن أميركا أرادت أن يعقد في دولة أخرى وسعت إلى تأجيله حتى لا يستخدم هذا المؤتمر لصالح العماد جوزيف عون في السباق الرئاسي".
قضية لبنان جيواستراتيجية
من جهته يؤكد المدير التنفيذي في المعهد الأميركي اللبناني للسياسة، عضو لجنة التنسيق اللبنانية - الأميركية LACC جوزيف الحاج، أن إدارة الرئيس جو بايدن تنظر إلى الملف اللبناني كجزء من الملفات الإقليمية وليس كجزء مستقل، ويعتبر الحاج أن حرب غزة كرست قناعة لدى الأميركيين بأن كل الطرق تؤدي إلى إيران، بالإشارة إلى ملفات لبنان والعراق وغزة وسوريا واليمن، "لكن الإدارة الأميركية غير المستعدة لمواجهة طهران بصورة علنية كما أعلنت مراراً، وجدت نفسها أمام ابتزاز تمارسه طهران مستخدمة وكلاءها في الشرق الأوسط، وأميركا تتواصل مع هؤلاء بصورة غير مباشرة، وقد نجحت هذه السياسة الأميركية إلى حد ما في العراق وسوريا لكنها فشلت في اليمن ولبنان".
وفي قراءته للتمايز الفرنسي - الأميركي تجاه طريقة تحييد لبنان عن حرب غزة، يؤكد الحاج أن الولايات المتحدة لم تنجح حتى الآن من خلال مساعي الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين في فصل لبنان عن غزة، ويشرح أن أميركا تنظر إلى القضية اللبنانية على أساس أنها قضية جيواستراتيجية لأميركا وللمستقبل، بينما فرنسا، بحسب رأيه، تنظر إلى القضية اللبنانية من زاوية "توتال إنرجيز" ومستقبل إمدادات الغاز إلى أوروبا، ويشير الحاج إلى مشروع قيد البحث حول إنشاء أنبوب لنقل الغاز من إسرائيل إلى قبرص وإلى اليونان ومنها إلى تركيا، وهذا المشروع يشكل الجاذب الأساس لكل من أميركا وفرنسا ليكون لهما قواعد مباشرة أو عبر وكلاء لهما في الشرق الأوسط لحماية تصدير الغاز في المستقبل، ومن المرجح أن يستفيد كل من لبنان ومصر من هذا الخط.
ويؤكد الحاج أن السياسة الأميركية واضحة لجهة رفض أي وجود عسكري تابع لإيران و"حزب الله" على ساحل البحر الأبيض المتوسط، تفادياً لتعطيل حركة المرور البحرية ومستقبل الخط الشرقي لأنبوب الغاز إضافة إلى تجنب خطر إغراق أوروبا بالمخدرات، في المقابل، يعتبر الفرنسيون أنهم قادرون على استيعاب أي وجود مسلح بمجرد تمتين علاقتهم بإيران وانفتاحهم على "حزب الله". وينقل الحاج عن الإدارة الأميركية والكونغرس ووزارة الخارجية اهتماماً بتحصين الجيش اللبناني وثقة بالمؤسسة العسكرية وقائدها من دون أن يعني ذلك استعداداً لدفع العماد جوزيف عون إلى الانتفاضة على السلطة السياسية وتخطي قرارها.
أما في ملف رئاسة الجمهورية فلا انحياز أميركياً لأي طرف، يوضح الحاج "لكنهم يدعمون انتخاب رئيس سيادي بالدرجة الأولى مستقل عن أي ضغط قد يمارسه عليه (حزب الله)، وغير مرتبط بأي ملف متعلق بالفساد. وعلى عكس فرنسا التي تعمل مع قطر داخل المجموعة الخماسية على تسوية لسلة متكاملة تجمع الاتفاق على رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة وحكومة ووعود بإعادة الإعمار، فإن الولايات المتحدة لا ترى أن الأزمة الرئاسية يمكن أن تحل من طريق التسويات، وهي تدفع باتجاه الحل الكلاسيكي بأن ينتخب رئيس للجمهورية مستقل وسيادي بالطرق الديمقراطية، ويصار بعدها إلى استشارات نيابية لتسمية رئيس للحكومة يشكل بدوره مع رئيس الجمهورية الحكومة الجديدة، فأي تسوية من وجهة نظر أميركا يمكن أن تهتز مجدداً عند أي احتكاك داخلي كما حصل سابقاً".
ويدرك الأميركيون أن قرار "حزب الله" هو في طهران وعلى عكس الإشاعات المتداولة في لبنان، يتابع الحاج، فإن أميركا غير مستعدة بأي شكل من الأشكال للدفع باتجاه معالجة الأزمة اللبنانية من خلال السماح للحزب بأن يتحكم بلبنان على حساب السيادة اللبنانية وهذا أمر غير وارد وهي وعود قطعت لأميركيين من أصل لبناني، وفق الحاج.
أما عن المقاربة الأميركية للحل في جنوب لبنان عبر تطبيق تدريجي للـ1701 فيؤكد عضو لجنة التنسيق اللبنانية - الأميركية أن الأولوية بالنسبة إلى إدارة بايدن هي لتهدئة الوضع ووقف إطلاق النار، على أن تستتبع بترتيبات أخرى تعالج النقاط الحدودية، علماً أن الأميركيين يعلمون أن الصواريخ التي يمتلكها "حزب الله" تتخطى بمداها مساحة الخمسة كيلومترات التي سينسحب منها الحزب، وإذ يشدد على أن أولوية الإدارة الأميركية هي بضمان أمن إسرائيل إلا أن ذلك لن يكون، بحسب رأيه، على حساب زعزعة الاستقرار في أية دولة مجاورة لها وخصوصاً لبنان وهو الحلقة الأضعف بين العراق ومصر والأردن.