ملخص
يقدم مركز بومبيدو في باريس أعمال الرسام الفرنسي إيرفيه دي روزا في معرض فريد يكشف معالم تجربته الشاملة ومراحل مساره الذي يمتد من الحركة الدادائية إلى حركة "بانك" الفوضوية، مروراً بجان دوبوفيه وحركة "كوبرا".
وارث تاريخ يمتد من الدادائية إلى حركة "بانك" الفوضوية، مروراً بجان دوبوفيه وحركة "كوبرا"، ما برح الفنان الفرنسي إيرفيه دي روزا يسائل في عمله التراتبيات الفنية واستبداد "الفن الراقي"، منذ انطلاقته. تساؤل تتجلى ثماره، بكل ألقها وحيويتها، في المعرض الذي ينظّمه حالياً له متحف مركز بومبيدو في باريس تحت عنوان "دي روزا، عوالم مختلطة"، ويمنح زائره، من خلال عشرات الأعمال الفنية التي تنتمي إلى مختلف مراحل إبداعه، فكرة بليغة عن مسيرته الفنية الفريدة.
لمن يجهل دي روزا، نشير بدايةً إلى أنه ولد عام 1959 في مدينة سيت المتوسطية، من عائلة إيطالية ــ كتالانية فقيرة جداً، لكن ذلك لم يمنعه من لفت انتباه النافذين في ميدان الفن، باكراً، بفضل موهبته الفنية الاستثنائية. هكذا حظي بمعارض مهمة في باريس، أمستردام، دوسلدوف ونيويورك، وكان لا يزال في سن العشرين، قبل أن يشارك مع فرنسوا بوارون وريمي بلانشار وروبير كومباس في تأسيس حركة "التصوير الحر"، عام 1981، التي تميّزت في عودة رساميها إلى الأسلوب التصويري، كردّ فعل على التجريد الذي كان طاغياً على الفن المعاصر آنذاك.
أهمية هذه الحركة تكمن في تجديدها فن الرسم، خلال الثمانينيات، باستلهامها صورية الشرائط المصوَّرة ورسوم الغرافيتي والملصقات الإعلانية وموسيقى الروك، وحتى علامات الشركات الاستهلاكية، وببلورتها جمالية جديدة تقوم على الرسم بخطوط تعبيرية عنيفة وألوان نيّرة، وباستثمار فنانيها الحاذق للحس الدعابي والسخرية داخل أعمالهم، لفضح عيوب المجتمع المعاصر. هذا بموازاة سعيهم إلى تفجير الحدود الفاصلة بين مختلف الوسائط الفنية عن طريق استخدامهم تقنيات مختلطة وخلقهم تجهيزات فنية تتضمن عناصر من الحياة اليومية. ومع أن هذه الحركة لم تدم طويلاً، إلا أنها كان لها تأثير كبير على الفن المعاصر، ولا تزال تشكّل إلى حد اليوم مصدر إلهام لفنانين كثر عبر العالم.
داخل "التصوير الحر"، لعب دي روزا دوراً مركزياً، وأنجز لوحات مستوحاة من الثقافة الشعبية، مثل "ديروبوليس" و"معركة سحرية" الحاضرتين في معرضه الحالي. وبفضل هذه التجربة، ابتكر عام 1988 مفهوم "الفن المتواضع" إثر افتتانه بأعمال فنية تقع على هامش الفن الرسمي، وتقترب في بدائيتها وفجاجتها من الفنون الشعبية. وفي مطلع التسعينيات، شعر بالحاجة إلى الخروج من محترفه وتنويع مقارباته الفنية من خلال الاتصال بحِرَفيين من مختلف أنحاء العالم. هكذا، تمكّن خلال العقود الثلاثة اللاحقة من شحن بطاقة جديدة صوريته الغنية والمفعمة بالحيوية، بفضل مشروع فريد سمّاه "حول العالم" وقاده من صوفيا إلى لشبونة، مروراً بكوماسي (غانا) وبورتو نوفو (بنين) وأديس أبابا وبينه دونغ (فيتنام) وديربان (إفريقيا الجنوبية) وهافانا ومكسيكو وفومبان (الكاميرون) وميامي وإشبيلية وتونس العاصمة حيث تعاون للمرة الأولى، عام 1989، مع حرفيين لإنجاز أعمال بتقنية الطباعة الحريرية (sérigraphie) في محترف يُعنى بطباعة الملصقات الإعلانية.
خلال هذه الأسفار، درس دي روزا الطُرُق التي تُصنع بواسطتها الصور في أماكن متفرّقة من المعمورة، بغية استخدام هذه التقنيات والخبرات المختلفة في عمله: تقنية رسم الأيقونات في بلغاريا، المستثمَرة في لوحة "السعادة"، تقنية رسم اللافتات في غانا، التي تظهر في لوحة "فن متواضع"، تقنيات التزيين والتطريز على قماش في بنين، التي تحضر في لوحة "الخروج من المصنع"، تقنية الترصيع بعرق اللؤلؤ في فيتنام، التي أنجز بواسطتها منحوتة "نمر صدفيّ"، تقنية السبك الكاميروني التي تقف خلف منحوتة "إنسان آلي بملقطَين"، تقنية الخزف المعتمَدة لصناعة "أشجار الحياة" في مكسيكو، والتي لجأ إليها في منحوتة "اصغِ إلى جسدك، فهو حيّ"، تقنية التطريز بالترتر اللماع التي اكتشفها داخل الطائفة الهايتية في فلوريدا، وأنجز بواسطتها لوحة "مسدسات وذخيرة"، إضافة إلى تقنيات أخرى كثيرة ألهمته بدورها أعمالاً مدهشة نشاهد مختارات منها في معرضه الحالي.
ولا عجب إذاً في متابعة دي روزا ترحاله حول العالم، منذ انطلاقه في مشروعه الفريد، وفي مثابرته على المزج داخل عمله بين ثقافات البلدان التي يحطّ فيها وأنماط التعبير الرائجة فيها. وفي هذا السياق، ومن دون أن يدّعي ابتكار أسلوب خاص به، تمكّن من تشييد عالمٍ سردي خاص به، تسكنه شخصيات وكائنات عجيبة، وتشكّل جميع وسائط الإبداع ركائز له: الرسم، التلوين، النحت، الشرائط المصوّرة، النسيج، الطباعة الحجرية، الترصيع، النقش، السراميك، الرسوم المتحرّكة، الصور الرقمية... عالمٌ وصف بعض النقاد الذين يعانون حتماً من قصر نظر، جماليته بـ "المبتذلة"، لكونها تقع على هامش المعايير المعتادة لـ "الذوق الرفيع"، وفاتهم مدى انخراط صاحبها في زمنه، بلغته التعبيرية المرحة، ومدى تطابق منهج عمله مع ما يحدد تيار "ما بعد الحداثة"، أي الغرف من مراجع فنية مختلفة، وخلط عناصرها. فنان لم يمنعه انتماؤه الصريح إلى ثقافة الجماهير المدينية، من قلب قوانين الفن المعاصر بحمّى أشكاله وألوانه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
باختصار، ما يمنح عمل دي روزا كل قيمته، هو موهبته الفريدة في مزاوجة تقنيات الطلائع الفنية بتلك المعتمدة داخل الثقافات الشعبية المحلية، وتمكّنه، بجماليته الـ "بوب" وسطوة تشكيلاته، من الإمساك بجوهر حقبة تطبعها ثقافة الشارع والتخريب الفني. أما جاذبية ثمار هذا العمل فمصدرها مناخاتها الحلمية الآسرة، أشكالها العضوية، وكائناتها الغريبة، البشرية الشكل، التي تشهد على خيالٍ جامح ورؤية كونية فريدة. أعمال تثير داخل المتأمل فيها انفعالات جمّة، وتفتنه بالجرأة الإبداعية والتجريب اللذين يستشفّهما في كل منها.
يبقى أن نشير إلى أن دي روزا، بموازاة عمله الفني، هو أيضاً مجمِّع فن استطاع، على رغم ضآلة إمكانياته المادية، تكوين مجموعة مهمة من الأعمال التي تنتمي إلى "الفنون المتواضعة". ولأن العلاقة وثيقة بين نشاطه هذا ونشاطه التشكيلي، صُمِّمت داخل معرضه الحالي واجهة زجاجية ضخمة تشهد، بالقطع التي تتضمنها، على هذا الحوار الخصب بين الصور التي يبتكرها وتلك التي يجمعها.