ملخص
تواصل أميركا إنزال بعض المساعدات الإنسانية جواً، فضلاً عن حديثها المثير حول الميناء العائم لنقل المساعدات الإنسانية إلى الشعب الحاصر في غزة، وهذه المبادرة الأميركية التي بدأت بإثارة كثير من المخاوف في الإعلام العربي والمصري تحديداً تقتضي وقفة خاصة.
لا يمكن استيعاب تعقيدات الموقف الأميركي الراهن تجاه غزة من دون الأخذ في الحسبان الاعتبارات المتناقضة خلف هذا الموقف، فمن ناحية تواصل واشنطن ادعاء استمرار ضغوطها للتوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة، وتشارك بقدر ملحوظ من الجدية في الاجتماعات التي تديرها مصر وقطر بهذا الصدد، وفي الوقت نفسه تواظب على دعمها اللامحدود لإسرائيل عسكرياً واقتصادياً وكذلك في الأمم المتحدة، وتحاول العمل حالياً على قرار دولي مريح لها، وتمضي في تحركها هذا مدركة المعارضة العربية والفلسطينية للقرار المشوّه، وكذلك المعارضة الإسرائيلية ذاتها.
من ناحية أخرى تواصل أميركا إنزال بعض المساعدات الإنسانية جواً، فضلاً عن حديثها المثير حول الميناء العائم لنقل المساعدات الإنسانية إلى الشعب الحاصر في غزة، وهذه المبادرة الأميركية التي بدأت بإثارة كثير من المخاوف في الإعلام العربي والمصري تحديداً تستحق في البداية وقفة خاصة.
ميناء أم أداة جديدة للتحكم؟
يتصاعد القلق في أوساط إعلامية عربية من المشروع الأميركي الجديد ودوافعه الفعلية وماذا سيحقق، فالسياسة الأميركية التي لم تتمتع تاريخياً بثقة شعبية عربية، ووصلت إلى أدنى مستوياتها بسبب موقفها غير المسبوق من هذه الحرب، وبالمناسبة لا تقارن حال الانحياز الأميركي الراهنة إلا بحرب 1973، وحتى في تلك المرحلة كانت تحاول أن تخفف انحيازها ببعض الأكاذيب اللفظية، بل نحن الآن أمام خطاب سياسي رئاسي أميركي شديد الانحياز، ولم يبدأ بالتراجع التدريجي إلا أخيراً، وهو تراجع يستحق التنبه إليه، وجاء أقصى تعبير له على لسان زعيم الكتلة الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي تشاك شومر الذي انتقد بنيامين نتنياهو بقوة، واتهمه بالإضرار بمصالح إسرائيل، ودعا إلى ضرورة عقد انتخابات جديدة.
من ناحية أخرى يدور الخطاب الرسمي الأميركي حول التحفظ على عملية رفح لما يمكن أن تسببه من كارثة إنسانية غير مسبوقة، ومعنى هذا أنه ببساطة يجب أن يقفز السؤال، كيف يصدق أحد تقديم مساعدات إنسانية ممن فتح مخازن سلاحه بلا حدود لعملية القتل والتدمير في غزة، ومن ثم فالمشهد يبدو هزلياً وغير قابل للتصديق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتستكمل هذه المسألة بتواتر المعلومات عن أن الفكرة عرضها نتنياهو على الرئيس بايدن منذ بدايات الحرب في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ويطرح هذا عدداً كبيراً من التساؤلات، فالحديث الأميركي يدور حول شهرين لإقامة هذا الرصيف البحري، ومعنى هذا أن تستمر المجاعة والمعاناة والموت جوعاً ومرضاً وليس بالأسلحة حتى يتم توصيل هذه المساعدات والأغذية، وحتى من تجاوب مع هذا المشروع مثل المملكة المتحدة أعرب وزير خارجيتها ديفيد كاميرون عن تشككه في صلاحية أي سبيل آخر غير الطريق البري والمنافذ القائمة بالفعل، ويعزز هذا أن إسرائيل تفحص هذه المساعدات في كل الأحوال.
من ناحية أخرى، أثارت كتابات عربية عدة مسألة السعي الأميركي إلى السيطرة على شواطئ غزة، حيث تتناثر معلومات عن اكتشافات للغاز الطبيعي، وهي مسألة تحتاج إلى كثير من النظر، فلو كانت صحيحة فإن هذا سيعني حسابات غير دقيقة وتجاهلاً كبيراً لقواعد القانون الدولي، ولا أظن أن الأمور يمكن أن تتم بهذه البساطة.
واستكمالاً لنظرية المؤامرة التي تتناسب مع سجل السياسة الأميركية في المنطقة، تحدث بعضهم عن توظيف هذا الميناء لتهجير الشعب الفلسطيني، وأيضاً يحمل هذا كثيراً من التبسيط وكأن هناك دولاً أبدت استعدادها لاستقبال مئات الألوف، ولا حتى عشرات الألوف من سكان غزة، وهذا أيضاً غير صحيح، ولا توجد شواهد عليه.
الاعتبارات المعقدة للسياسة الأميركية
ما زال الدافع الأميركي الأول هو الدفاع عن إسرائيل ومسايرتها بلا حدود، ولسنا في حاجة إلى تكرار أن الأمر أكبر من دور جماعة الضغط اليهودية- الأميركية بهذا الصدد، ومرتبط منذ نشأة إسرائيل بتوجهات المكون الإنجيلي في المجتمع الأميركي الأبيض الذي يتبنى الرواية والأفكار التوراتية بهذا الصدد، وتصاعد هذا المكون في اليمين الأميركي المحافظ الذي يقاتل حالياً ليحافظ على مكانته وسيطرته التاريخية في المجتمع، يسهم بدور كبير مع دور جماعة الضغط اليهودية التي يتقدمها الـ"أيباك" في السيطرة على الحياة السياسية الأميركية لتصل الأمور إلى ما أصبحت عليه الآن.
في مقابل هذا يقف بعيداً دور الرأي العام العربي والإسلامي والأميركي وكل مؤيدي الحقوق الفلسطينية حتى في أوساط التيارات الليبرالية الأميركية، بما فيها قطاعات متزايدة من اليهود وشباب الجامعات الأميركية، وفي الغالب هناك إدراك بأروقة الحكم الأميركية للصعود الملحوظ في هذا الاتجاهات التي رصدتها كثير من الكتابات، وتدرك واشنطن أيضاً التحولات المتصاعدة في الرأي العام الدولي وحتى الغربي ضد إسرائيل، وأن هناك تراجعاً ملحوظاً في تأييد السردية الإسرائيلية، وأن الموقف الأميركي يتحول إلى حال عزلة دولية بعد تصاعد انتقادات الغرب حكومات وإعلاماً، ومن ثم تجد الإدارة الأميركية نفسها في موقف ضرورة إبداء اهتمام بالجانب الإنساني الفلسطيني، وألا تبدو شريكاً كاملاً مع وجود احتمالات لم يكتمل تبلورها بعد في شأن خطوات التقاضي الدولية ضد إسرائيل، وفي جميع الأحوال فإن رسالة السيناتور شومر السياسي اليهودي البارز لا يمكن تجاهلها في رصد تحولات واسعة حتى داخل الولايات المتحدة.
ومن الطبيعي أيضاً أن تأخذ واشنطن في حسبانها البعد الاستراتيجي الشامل، وهو حرصها على كبح جماح حال تراجعها الدولي، مما يعني استمرار وجودها ونفوذها في المنطقة العربية التي توطدت مكانتها فيها منذ عملية السلام المصرية - الإسرائيلية. والمشكلة هنا أنها، أي واشنطن، تدرك النتائج المعقدة لسياساتها المنحازة في الأوساط الشعبية والإعلامية العربية، لكنها في ما يبدو ما زالت تراهن على مواقف الحكومات العربية، وتستند كذلك إلى أنه لا يوجد طرف آخر يملك قدراً من الضغط على إسرائيل.
المراهنات الأميركية لن تنجح
ربما سيكتب التاريخ أن المشروع الأميركي الجديد سيكون أحد أكبر نماذج السياسات المشوهة التي ستقود إلى نتائج متضاربة، فهي تنقل الدور الأميركي من دور الشريك لإسرائيل والوسيط المنحاز إلى دور جديد هو دور المشارك في إدارة منطقة محتلة، ومن ثم المشاركة في تحمل المسؤولية عن إعاشة الشعب الفلسطيني، مما يعني خطوة أخرى في الورطة الأميركية- الإسرائيلية لو استمرت قصة معاقبة الـ"أونروا" التي هي نتاج آخر للمخطط الإسرائيلي لتصفية القضية، وبعبارة أخرى إذا لم يحدث انفجار أخطر في غزة واندفع الأحياء من الشعب الفلسطيني في كل الاتجاهات المجاورة بما في ذلك إسرائيل، فستصبح مسؤولية الإعاشة ومستلزمات الحياة كلها على عاتق الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما سيحدث أيضاً لو واصل الشعب الفلسطيني كذلك الصمود، وهو الأمر الأقرب إلى التوقع.
يضاف إلى هذا أن تصعيد الخطاب الأميركي ضد عملية رفح وضع أيضاً الصدقية الأميركية وهيبتها الدولية على المحك، حتى لو كان خطابها هذا للاستهلاك الدولي والمحلي، وربما ينقلنا هذا إلى آخر احتمال من أهداف هذا المشروع الأميركي وفق بعض التقديرات، وهو فك الارتباط بين غزة ومصر وتقليل حاجة الشعب الفلسطيني إلى المنفذ المصري، مما سيضاعف أيضاً من مسؤولية إسرائيل وواشنطن، ليسفر كل هذا التخبط الأميركي عن أن يكون المخرج الوحيد من هذه السياسات المتخبطة التي نتجت من سير الإدارة الأميركية خلف نتنياهو هو سرعة التوصل إلى وقف إطلاق نار، والبحث عن معدات أخرى شرط نجاحها واستمراريتها أن تقترن برؤية جادة لتحقيق سلام شامل وعادل للشعب الفلسطيني.