ملخص
فيلم ألماني جديد بعنوان "أن نموت" للمخرج ماتياس غلاسنر، يتطرق الى قضية العائلة المفككة التي يعيش فيها الأب والأم والولدان حالاً من الصراع الذي يؤدي إلى انهيارها التام. ثلاث ساعات من المشهدية البصرية السينمائية تتخللها موسيقى الودأع.
"أن نموت" للمخرج الألماني ماتياس غلاسنر من الأفلام التي كانت تستحق أكثر من جائزة السيناريو التي نالها في الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السينمائي. هذه دراما عائلية نخرج منها بحيرة وقلق وشعور يجعلنا لا نعرف أي رأي نكوّنه في ما شاهدناه للتو. ولكن يبدو أن جوائز "لولا" للسينما الألمانية التي ترشَّح الفيلم لتسع منها، لها رأي آخر، وعلى الأرجح سترفع عنه الظلم الذي طاوله في برلين. من بين هذه الترشيحات: أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو وأفضل تمثيل، أي كل ما يرفع من جودة العمل السينمائي. من المنتظر أن يُعرض الفيلم في الصالات الألمانية بدءاً من 25 الشهر المقبل، مدعوماً بآراء نقدية إيجابية حصدها خلال عرضه الأول في البرليناله.
"أن نموت" نص بصري يمتد طوال ثلاث ساعات، يحتاج إلى طول أناة لتجاوز الفصل الأول منه، لكنه يحلّق في الفصل الثاني إلى مستويات أعلى، في رغبة لمكافأة المُشاهد على صبره وانتظاره، كي يرسم السيناريو ملامح الشخصيات والعلاقات بينها، وهي للمناسبة شديدة التأزم والتعقيد. العنوان يكشف نيات الفيلم، لكنه يتستّر أيضاً على جزء غير قليل منه. فصحيح أن الموت يحتل الصدارة، لكن لا حديث عن الموت من دون التطرق إلى الحياة. وفي هذا الفيلم، موت بعضهم هو عند آخرين حياة. وهكذا هي الأفلام التي لا تولد من وجهة نظر أحادية، فهي تبدأ من مكان لتنتهي في مكان آخر. كما أنها تعطي الانطباع بأنها تتحدّث عن شيء فيما هي تتحدّث عن شيء آخر. في أي حال، كيف لا يكون فيلم عن الموت فيلماً عن الحياة في الحين نفسه؟
العائلة في قلب الفيلم، فهو يتناول روابط الدم التي من المفترض أنها ترسخ الصلات الحميمة بين أفراد لا يشبه بالضرورة، بعضهم البعض الآخر، وتعزز علاقاتهم بعضاً ببعض وتحصّنهم أمام الصعاب والتحديات. هذه هي العائلة في المفهوم التقليدي، ولكن لا شيء تقليدياً عند عائلة لونيس. الروابط هنا هشّة وآيلة إلى التفكّك الكامل في أي لحظة، بسبب التراكمات والفتور وقدرة بعض الأفراد على كتم أحاسيسهم منذ فترة طويلة. هناك الأب والأم (هانز باور وكورينا حرفوش)، والولدان (لارس أيدينغر وليليت ستانغربرغ). كلا الوالدين في السبعين، ويعانيان أمراضاً، خصوصاً الأب المصاب بالخرف، فيجد في المأوى حلاً لوضعه الصحّي الآيل إلى المزيد من التدهور. أما الزوجة فهي الأخرى مصابة بأمراض خطرة تجعل حتفها قريباً.
الشرخ العميق
كل شيء يبدو مفكّكاً لا يصلح معه الترميم. الشرخ عميق ليس فقط بين الأهل والولدين، بل أيضاً بين الشقيقين. الشاب يعمل قائد أوركسترا، وهو مشغول على الدوام بقطعة موسيقية اسمها "أن نموت" لمؤلف صديق له (روبرت غفيسديك) يعاني من اكتئاب مزمن ومن عدم التحقق ويعتقد بأنه موسيقي فاشل. أما أخته، فحدث ولا حرج. فهي مدمنة على الكحول، تعمل في عيادة طبيب أسنان (رونالد زهرفيلد) تقيم علاقة معه. طائشة ولا يبدو أنها تكترث لشيء أو لأحد، تتنفس الحياة بملء رئتيها، تعيشها وكأن لا غد ينتظرها.
هذا هو باختصار جو الفيلم الذي استلهمه المخرج من حياته الشخصية. وهذا واضح تمام الوضوح، نلمسه حتى من دون الاطلاع على الملّف الصحافي الذي يورد المعلومة. فهذا النوع من الأفلام، بصرف النظر عن رأينا به وبمكامن الضعف فيه، يتطلّب إنجازه تجربة معيشة. "لا أحتاج إلى أن أقود قطاراً كي أصوّر سيرة شخص يقوده، ولكن على الأقل أعرف وحدة سائق القطار"، تقول المخرجة الفرنسية كلير دوني، ومن الواضح أن غلاسنر يعرف ماذا يعني أن يعيش الإنسان علاقة مكلومة وغير مكتملة مع الأهل، فهذا ليس مجرد تفصيل عابر في حياتنا. وأسوةً بالعازفين المبتدئين الذين يُطلب إليهم عزف مقطوعة اسمها "أن نموت"، وهم لا يعرفون شيئاً عن الموت، فالفيلم يضع المشاهد في تحدي الاحتكاك بمسائل لم يختبرها بالضرورة ليتماهى مع الشخصيات في مصابها ومعاناتها والصعوبات التي تجد نفسها فيها.
الكوميديا والمأساة تتبلوران، لكنهما تسلكان خطين متوازيين. لا لقاء محتملاً بينهما. النتيجة: فيلم يتجاوز حالة اليأس ليبلغ حالات أخرى من فقدان الأمل في كل شيء، فتغدو الشخصيات أمواتاً مع وقف التنفيذ. الجميع أموات أو أشباه أموات، منذ أول لقطة من الفيلم، وما يلي هو مراسم الدفن. إنها حكاية شخوص استقلوا من مشاعرهم، ينظرون إليها كشيء منفصل عنهم، ولعلهم يدرون ذلك ويعونه، ولكن ما من حيلة في اليد، سوى التعايش المفروض مع الواقع. الكائن الوحيد الذي ليس على هذا النحو، سيدفع الثمن غالياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الانفعال الذي يبثّه الفيلم جراء تعلّقنا التدريجي بالشخصيات، بصرف النظر عن تصرفاتها وسلوكها، يصعد إلى القلب كلّما تقدّمت الحكاية إلى الخاتمة. وعلى رغم أن تلك الخاتمة لا تقع في اللحظة الصح (هناك بضع لقطات إضافية بلا مبرر، وهذه حال العديد من الأفلام)، فثمة قوة تجعلنا نستعد لهذا التصعيد، تتبلور على منأى منّا، ومن دون أن نلحظ تطورها مشهداً بعد مشهد أو أن نترقب وصولها.
لا يبخل الفيلم بالأسئلة التي يطرحها على نفسه والآخرين، وفي مقدّمها: هل يستحق الفن أن نضحّي من أجله؟ وأين حدود هذه التضحية؟ في كل الأحوال، ليس هذا الفيلم بعيداً من الإيمان بفكرة الفن الذي يرتقي بالموت. وهذا ما نراه في مشهد عزف المقطوعة التي تحمل ألم مؤلفها ومعاناته وذكراه. نسمع المقطوعة نفسها قبل رحيله، ولكن بعد الرحيل يزداد تقديرنا لها، وقد نسمعها بآذان أخرى كلياً.