لم يعلنوا أنه حصل على 99.99 في المئة من الأصوات، لكن مع إعلان حصوله على 87 في المئة من الأصوات فهذه ليست نتيجة سيئة. وصل فلاديمير بوتين إلى منصب رئيس الجمهورية في روسيا الفيدرالية لولاية ستستمر ست سنوات، وإذا لم يحدث أمر يوقف استمرار حكمه فإن حكمه على الروس سيكون الأطول منذ تأسيس روسيا كدولة في التاريخ كـ"دولة الأمة".
قبل ربع قرن عندما سلطت الأضواء على هذا الضابط السابق في "كي جي بي" والخجول والمتواضع لم يتصور أحد أن يحتل هامشاً في تاريخ روسيا. قال عنه إيغور غايدار الذي كان رئيساً للوزراء لفترة قصيرة في روسيا، مازحاً "فلاديمير بوتين وصل الكرملين بسيارة مضادة للرصاص. عندما توقفت السيارة نزلت منها بدلة فارغة".
لكن هذه البدلة الفارغة اليوم لم تتحول إلى سلطان من دون منافس في أوسع بلاد العالم فحسب، بل قدم بوتين نفسه كأسوة للحكام في القرن الـ21.
كتبت صحيفة "كومورسانت" الصادرة من موسكو: "كانت روسيا في حاجة إلى رجل قوي بعد الفوضى التي حلت في البلاد في عهد بوريس يلتسين. روسيا كانت محظوظة بالعثور على بوتين. جميع بلدان العالم اليوم في حاجة إلى رجل قوي مثل بوتين".
معادلة "الرجل القوي" تأخذ اليوم مكانها في البحوث السياسية الدولية. يعتبر الرئيس الصيني شي جينبينغ نفسه أيضاً رجلاً قوياً. إنه ومن خلال تغيير ميثاق الحزب الشيوعي الصيني يسعى إلى البقاء في الحكم حتى نهاية عمره. حتى البلدان الديمقراطية في أوروبا تتحدث اليوم عن الحاجة إلى "الرجل القوي". وفي ستة بلدان أفريقية حكم ستة رجال أقوياء بلدانهم خلال العامين الماضيين. وفي أميركا اللاتينية التي تعد مهداً للرجال الأقوياء من باتيستا إلى بيرون، هنالك أمثلة لهذا المصطلح المغلف بغطاء ديمقراطي منهم لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في البرازيل.
الأجهزة الدعائية في روسيا والصين تضع نموذج الحكم القائم على "الرجل القوي" أمام المثال الديمقراطي الفاشل. وتحدثت صحيفة "الشعب" التابعة للحزب الشيوعي الصيني عن عجز الديمقراطية الغربية في مواجهة المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من وجهة نظر موسكو وبكين وأتباعهما في الغرب أن جو بايدن يمثل الشيخوخة في الديمقراطية في عصرنا. أما باقي الديمقراطيات الغربية فهي ليست في أحسن حال. ففي بريطانيا يستمر رئيس وزراء البلاد ريشي سوناك بالعمل بواسطة "ماكينة تنفس اصطناعي". وفي ألمانيا الفيدرالية ينهمك المستشار أولاف شولتز بالرقص مع الموت في ساحة ملغومة قائمة على ائتلاف متناقض. وفي فرنسا يعيش إيمانويل ماكرون حالة يسلم فيها الأمر إلى القضاء والقدر على أساس قاعدة "أي شيء سيأتي نقول له أهلاً وسهلاً".
من وجهة نظر مناصري نموذج "الرجل القوي"، فإن الديمقراطية بنسختها الغربية تتعلق بزمان لم يعد له وجود. ففي العالم الحديث فإننا نواجه تحديات تتطلب حكماً متمركزاً وجاداً.
في حين يجري نقاش ديمقراطي لتوسيع مطار هيثرو في لندن منذ 50 عاماً وهنالك بحوث ومفاوضات ودراسات فإن حكم "الرجل القوي" في الصين إنشاء 200 مطار حديث في البلاد. الجمهورية الشعبية الصينية أنشأت سكك حديد خلال 30 عاماً أكثر من جميع البلدان الديمقراطية.
وفي جمهورية كوريا الشعبية فإن إنتاج السلاح ومنها السلاح النووي يبلغ ضعف ما تنتجه فرنسا. وجميع البلدان الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو" لا تستطيع الوصول إلى ما تنتجه روسيا من قذائف تنتجها من أجل الاستفادة في الحرب الأوكرانية، وإن الغرب يسعى حالياً إلى توفير هذه الحاجات من مصادر أخرى في باكستان والهند.
وأما الهند بواسطة "الرجل القوي" رئيس الوزراء ناريندرا مودي فتمكنت من تحقيق أسرع نمو اقتصادي في تاريخ البلاد. إنها تستعد للنهوض والوصول إلى مرحلة تصبح فيها قوة عالمية.
وفي الاتحاد الأوروبي استطاعت بعض البلدان منها المجر وسلوفاكيا ومن خلال نموذج "الرجل القوي" الحفاظ على أجزاء مهمة من استقلالها والوصول إلى تنازلات من شركائها الأثرياء.
وفي العالم الثالث تطرح علامات استفهام أمام مدى إمكان الديمقراطيات توفير حياة أفضل للشرائح الفقيرة في المجتمع. لا تزال تدوي هذه الأقوال للرئيس السابق في غينا لانسانا كونته: "حسناً لدينا حالياً نظام حكم ديمقراطي وهذا شيء جيد. ماذا بعد؟ كيف يمكن معالجة جروحنا العميقة؟ ماذا نعمل لجوعنا وفقرنا وأمراضنا والأمية المتفشية في البلاد ولاقتصادنا المتهالك والآلاف من المشكلات الأخرى؟".
من وجهة نظر المنظرين "الرجل القوي" في الديمقراطيات الليبرالية أصبح أسيراً للمعارضين الفكريين والمثليين الذين سخروا الحكم لأقلية معجبة بنفسها من خلال مجموعات الضغط وبخاصة نشطاء حقوق الإنسان ونشطاء البيئة.
ينتشر الفساد في الديمقراطيات في جميع السطوح. فضيحة تسلم ممثلي الاتحاد الأوروبي الرشوة والمعاملات المثيرة للجدل في شأن شراء لقاح كورونا بقيمة مليارات الدولارات تعد مثالاً لهذه الأمور.
في هذه الديمقراطيات تعد الأرباح في كازينوهات تسمى "البورصات" أكبر بكثير من الموارد التي تأتي عبر العمل البناء والمفيد. كما بالإمكان شراء أبرز الشخصيات السياسية في هذه الديمقراطيات، إذ كان أحد المستشارين الألمان وأحد رؤساء وزراء فرنسا ورئيس وزراء نمسوي وأكثر من 100 وزير ونائب برلمان من الديمقراطيات الأوروبية يعملون في شركة غاز بروم الروسية. كانت الشركات الصينية قد وظفت شخصيات غربية كبيرة كمستشار ومنهم هينري كيسنجر. يقول لينين إن رجل الأعمال يبيع حتى حبل المشنقة الذي يوضع على عنقه.
الديمقراطية لا تأتي إلا مع الرأسمالية وانتقاد هذا النظام لم يعد أمراً جديداً. الحكام العسكريون في اليابان والمستشارون الحديديون في بروسيا كانوا بصدد تشكيل رأسماليات من دون ديمقراطية. نعرف مصير هذه المحاولات. موسوليني وهيتلر سارا على هذا النهج ولم يكن مصيرهما جيداً. وحتى المثال الأكثر نعومة منهما مثل فرانكو في إسبانيا وسالازار في البرتغال واجها الفشل.
كان فولتير الفيلسوف الفرنسي أحد الأوائل من المفكرين الذين انتقدوا الديمقراطية الرأسمالية. إنه كتب قائلاً "ادخلوا بورصة لندن - المكان الذي يعد أشرف من كثير من البلاط الملكية - ستجدون ممثلي جميع الشعوب الذين قدموا من أجل الوصول إلى الربح. تجدون فيها اليهودي والمسلم والمسيحي يتعاملون مع بعضهم الآخر كأنهم أتباع دين واحد. بالنسبة إليهم يعد الخاسرون فقط خارج هذا النهج". لا ننسى أن فولتير كان مستشاراً للملكة الروسية كاثرين الثانية وكان يتلقى منها الأموال ويشتري الأسهم في بورصة لندن.
دعاة "الرجل القوي" الذين يشكلون تحدياً للديمقراطية والرأسمالية يتبعون الفلسفة الغربية. فالرئيس الصيني شي جينبينغ يرسل أبناءه إلى الولايات المتحدة الأميركية للدراسة. وبوتين وحلفاوه الأثرياء يحتفظون بأموالهم في البنوك الغربية ويسعون من خلال شراء الأسهم والممتلكات في أوروبا الغربية وأميركا وكندا الاستفادة من إمكانات "الكازينوهات" الفاسدة والآيلة إلى الفناء.
أما الأقزام "القوية" في العالم الثالث مثل نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية فيسيرون على نفس النهج. إنهم يشجبون الديمقراطية الغربية لكنهم يفضلون الغرب للدراسة والعلاج وغسل الأموال والتسلية على أي مكان آخر.
في الوقت الحالي يدرس 1.5 مليون طالب صيني في الجامعات الغربية في الديمقراطيات التي يسمونها بالية والتي تقع على حافة الموت. وإن أكبر استثمارات الصين الدولية توجد في الولايات المتحدة الأميركية وكندا وتايوان والاتحاد الأوروبي.
الغريب أن الديمقراطية الرأسمالية لها تأثير مهم في تشكيل "الرجل القوي" دون الرأسمالية، وتصدير التكنولوجيا الغربية والروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق لا يمكن لروسيا أن تحتل المرتبة الثانية في إنتاج النفط والغاز الطبيعي والأهم من ذلك استطاعت أن تكسر حاجز الجوع بفضل إنتاجها الزراعي.
أما المعجزة الاقتصادية الصينية فمدينة للرأسمالية الغربية، فتصدير التكنولوجيا والسلع من الديمقراطيات الغربية وكذلك اليابان وتايوان مهدت لهذا التقدم الاقتصادي. وفي الوقت الحالي لا يمكن لمثال "الرجل القوي" في بكين الاستمرار من دون الوصول إلى الأسواق في الديمقراطيات الغربية.
ترويج "الرجل القوي" بالنسبة إلى البلدان الواقعة في العالم الثالث في الواقع يعد "سماً قاتلاً". كثير من هذه البلدان تعيش بعد الاستقلال على أساس مثال "الرجل القوي" لكنها لا تزال فقيرة من دون أن تصل إلى حريات فردية واجتماعية كثيرة. هذا المثال يؤدي فقط إلى توسيع قوة أجهزة القمع والفساد في الدولة. والمثال البارز لها هو النظام الإيراني فالرجل القوي في النظام الإيراني أصبح أقوى من أي وقت مضى والمجتمع الإيراني أصبح أكثر فقراً وبؤساً.
أثبت تاريخ العالم في الألفين عام الماضية أن السعي من أجل فرض مثال للحكم على بلدان أخرى مآله الفشل. على أي بلد وأي نظام قائم على أساس "الدولة الأمة" أن يلبس عباءة على مقاييسه وفي بعض الأحيان يعد ارتداء العباءة القديمة أفضل من ارتداء لباس الآخرين.
إذا ما تصورنا أن جميع الديمقراطيات الرأسمالية قد خرجت من قالب واحد فهذا خطأ. مثلما يجب ألا نتخيل أن جميع الأنظمة القائمة على حكم "الرجل القوي" يشبه بعضها بعضاً. الصحيح هو أن النظامين المذكورين يقف أحدهما أمام الآخر، وأن نموذج الديمقراطية الرأسمالية قد أثبت نجاحاً أكثر من الآخر. والأمر المهم هو كيفية تطبيق هذا المثال في ظروف تاريخية وثقافية واجتماعية في البلدان المختلفة.
كشف أحدث تقرير لـ"بيت الحرية" في نيويورك عن تراجع الديمقراطية في العالم، أنا أعتقد أن هذا التراجع جزئي. التقدم التاريخي في أي بلد لا يسير بصورة مباشرة، بل بطرق ملتوية وعلى المدى البعيد فإن الاتجاه في العالم ليس نحو الأنظمة الاستبدادية أو تلك الأنظمة القائمة على حكم "الرجل القوي".
يبدو أن الحرب القائمة في الوقت الحالي ضد الديمقراطية الرأسمالية قد حققت نجاحاً لأنها تتغذى من التعصبات والحسد والجهل المتجذر. وفي هذا الوقت على الإيرانيين بخاصة المطالبين بالملكية الدستورية الوقوف في الجبهة المتناقضة مع نموذج "الرجل القوي" لأن إيران كانت من أوائل البلدان التي استطاعت تطبيق الديمقراطية الرأسمالية الغربية على أساس حاجاتها وعملت على تعريف هويتها الثقافية. الهدف من الملكية الدستورية الإيرانية هو تأسيس حكومة قوية تنشأ من مجتمع قوي، في حين أن مثال بلدان مثل كوريا الشمالية والصين وروسيا هو فرض حكم "الرجل القوي" على مجتمع ضعيف.
نقلاً عن "اندبندنت فارسية"