ملخص
زادت حدة الاتهامات بعد شن الهيئة منذ الصيف الماضي حملة اعتقالات واسعة طاولت مئات المدنيين والمقاتلين من فصائل أخرى وقادة وعناصر من صفوفها بتهم الانضواء في "خلايا أمنية" و"العمالة للنظام" أو جهات خارجية، عدا تمنعها عن تزويد عائلاتهم بمعلومات عنهم.
قبل أسابيع، علم أحمد الحكيم بالصدفة أن شقيقه المعتقل منذ أشهر بتهمة "العمالة" لحساب دمشق قضى جراء التعذيب داخل سجن تابع لهيئة تحرير الشام في شمال غربي سوريا، في ممارسات أججت في الفترة الأخيرة احتجاجات في الشارع وتنديد حقوقيين.
يقول أحمد إن شقيقه عبدالقادر (27 سنة) تعرض لطرق تعذيب عدة، "بينها الضرب حتى الإغماء بخرطوم، وتعليقه بيديه لأيام عدة بلا طعام أو شراب"، مضيفاً نقلاً عن معتقلين سابقين "لم يعترف بأي شيء، لذلك زادوا التعذيب عليه حتى قتل بين أيديهم".
نقمة شعبية
وتلاحق هيئة تحرير الشام، الفصيل الذي تصنفه واشنطن إرهابياً ويسيطر على مساحات واسعة في إدلب ومحيطها، وهي إحدى آخر المعاقل الخارجة من سيطرة دمشق، اتهامات من سكان وعائلات معتقلين وحقوقيين بارتكاب انتهاكات داخل سجونها ترقى إلى "جرائم حرب"، وفق الأمم المتحدة.
وزادت حدة الاتهامات بعد شن الهيئة منذ الصيف الماضي حملة اعتقالات واسعة طاولت مئات المدنيين والمقاتلين من فصائل أخرى وقادة وعناصر من صفوفها بتهم الانضواء في "خلايا أمنية" و"العمالة للنظام" أو جهات خارجية، عدا تمنعها عن تزويد عائلاتهم بمعلومات عنهم.
وأثار شيوع مقتل عبدالقادر تحت التعذيب نقمة شعبية.
ومنذ فبراير (شباط) الماضي، خرجت تظاهرات غير مسبوقة في مدن وبلدات عدة بمحافظة إدلب كان آخرها مساء الأحد الماضي، مطالبة بشكل منتظم بإطلاق سراح المعتقلين، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
ويردد المتظاهرون هتافات مناوئة لقائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، في مشهد احتجاجي نادر في منطقة يقيم بها 3 ملايين شخص، نصفهم تقريباً نازحون فروا مع تقدم المعارك في مناطق أخرى.
وفي وقت سابق هذا الشهر، أقر الجولاني بأن مطالب المتظاهرين "في غالبها محق"، مضيفاً "نحن مع الناس ضد هذه المؤسسات إذا قصرت"، ومعلناً سلسلة إجراءات من بينها "إعادة تشكيل جهاز الأمن العام" المسؤول عن السجون.
ورداً على سؤال لوكالة الصحافة الفرنسية، أكد المكتب الإعلامي لهيئة تحرير الشام، أنها تنظر "بعين الاهتمام والجدية" إلى مطالب المتظاهرين لأنها "تشعر كما الشعب بحجم الخلل الذي نتج من إجراءات وقرارات عدة لا تتسم بالمهنية في بعض المؤسسات الثورية".
تحت التعذيب
وقال إن الهيئة بصدد "اتخاذ قرارات من شأنها ضبط عمل الأجهزة الأمنية وتحسين البنية التحتية للسجون والارتقاء بظروف التحقيق بما يعالج ما وقعت به من خلل، ويمنع التعامل في المرحلة المقبلة بالطريقة التي ظهرت أخيراً في أحد الملفات".
يروي أحمد أن شقيقه شارك باكراً في التظاهرات المناوئة لنظام الرئيس بشار الأسد منذ 2011، وانضم لاحقاً إلى "جيش الأحرار"، وهو فصيل معارض نفوذه محدود في المنطقة. وعلم بأنه مطلوب من هيئة تحرير الشام "بتهمة العمالة للنظام"، وبعد أيام أبلغته قيادة "جيش الأحرار"، الذي ينضوي في صفوفه بضرورة مراجعة الهيئة، على ما يؤكد شقيقه.
ويوضح "سلم نفسه في الـ16 من مارس (آذار) 2023 إلى جهاز الأمن العام التابع للهيئة على أساس أن يخرج بعد يومين أو أسبوع على الأكثر، لتنقطع أخباره ثلاثة أشهر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لاحقاً تبلغت العائلة من "قيادة تحرير الشام أنه بصحة جيدة وأموره سليمة وسيخرج بعد فترة"، لكن ذلك لم يحصل.
ومع مواصلتها طوال أشهر سؤال كل من يطلق سراحه عن ابنها، وصلت إلى العائلة، النازحة أساساً من محافظة حلب المجاورة، معلومات عن "مقتله تحت التعذيب"، فيما لم تتجاوب الهيئة مع مراجعاتها المتكررة.
ومن خلال أحد معارفه في الفصيل الذي أعلن عام 2016 فك ارتباطه عن تنظيم "القاعدة" جاءه الجواب، "ليتقبله الله.. لقد قتل". وتمكن أحمد لاحقاً من مطابقة المعلومة مع معتقل سابق، ثم أبلغت قيادة "جيش الأحرار" العائلة رسمياً بالأمر في الـ22 من فبراير (شباط).
بعد إبلاغها بموقع دفنه من حراس السجن، وجدت العائلة أن "القبر مجهز حديثاً لكن تاريخ الوفاة المدون عليه كان بعد اعتقاله بنحو 20 يوماً"، وفق شقيقه.
وينقل أحمد عن معتقل كان في السجن ذاته، أن عبدالقادر "لم يكن قادراً على الأكل والشرب. ومن شدة التعذيب لم يعد يقوى على المشي بعدما تورمت قدماه وامتلأتا بالقيح".
في يوم وفاته، نقله الحراس من مهجعه "على قطعة قماش وعذبوه لمدة ست ساعات". وبعد إعادته حاول زملاؤه أن "يطعموه ويشربوه، لكنه كان يتقيأ في كل مرة" حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وفق شقيقه.
سجون سيئة الصيت
وتعيد هذه الممارسات للأذهان انتهاكات شائعة في السجون السورية السيئة الصيت، خصوصاً بعد اندلاع التظاهرات الشعبية المناوئة للنظام عام 2011 مع وجود عشرات آلاف المخفيين قسراً والمحتجزين بشكل تعسفي.
ولطالما وثقت منظمات حقوق الإنسان الدولية والمجتمع المدني السوري "مخالفات خطرة وصادمة"، خصوصاً في السجون السورية. واتهمت منظمة العفو الدولية عام 2017 السلطات السورية بارتكاب عمليات شنق جماعية سراً و"خارج نطاق القضاء" طاولت 13 ألف معتقل في سجن "صيدنايا".
بينما يجلس قرب قبر شقيقه المكسو بالورود، يعجز أحمد من كبت دموعه. ويقول بانفعال "نحن خرجنا وثرنا على نظام الأسد للخلاص من ظلم وفساد أجهزة الأمن والمخابرات، لنفاجأ اليوم بأننا محكومون بالأساليب ذاتها".
ويضيف "قتل تحت التعذيب، مع إخفاء الجثة، عدم إخبارنا بمقتله، وحتى عدم الاعتراف بقتله أو سبب وفاته، أين الإسلام من هذا كله؟".
وفي محاولة لاحتواء الامتعاض الشعبي، تم مطلع الشهر الجاري إطلاق سراح 420 سجيناً بموجب مرسوم عفو، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
لكن زوج نهى الأطرش، أحمد عباس مجلوبة، لم يكن ضمنهم.
تشرح السيدة المنقبة بينما يحمل طفلاها الصغيران صور والدهما في منزلهم في إدلب، "تم اعتقاله خمس مرات، آخرها في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 2022، ولا يوجد سبب مثبت لاعتقاله"، موضحة أنهم مرة يتهمونه بالسرقة ومرة بالانتماء إلى حزب متطرف مناوئ للهيئة.
ويعاني زوجها الذي كان يعمل في مجال الديكور، كما تروي، من إعاقة في قدمه نجمت عن إصابة بطلق ناري تعرض له "خلال توقيفه سابقاً" لدى الهيئة.
لم يبق إلا التظاهر
تستعيد الأطرش التي تقول إنها بدورها اعتقلت أكثر من 20 يوماً مع طفليها بعد تكرار مراجعة الهيئة للسؤال عن زوجها، حاله عندما التقته لمرة في السجن. وتقول "عدا عن الرصاصة في قدمه ويده المكسورة، قال لي إن أحد الحراس داس على يده برجله ووجهه متورم من الضرب".
لم تفلح الأطرش في إخراج زوجها من السجن، تقول "طلبوا للإفراج عنه 3 آلاف دولار"، وهو مبلغ ليس بحوزتها.
وتضيف "استنفدت ما لدي من وسائل لإخراجه، ولم يبق أمامي إلا التظاهر". مضيفة "أجهز لافتات أطبع عليها صور زوجي، وأصطحب أطفالي على أمل أن يفك الله أسره من هيئة تحرير الشام"، وتؤكد "لن أستسلم طالما أن زوجي عندهم".
في تقرير صدر الشهر الجاري، قالت لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا إن لديها "أسباباً معقولة للاعتقاد بأن أفراد هيئة تحرير الشام ظلوا يرتكبون أعمالاً قد ترقى إلى جرائم الحرب المتمثلة في التعذيب والمعاملة القاسية والحرمان غير القانوني من الحرية، بما في ذلك بطريقة ترقى إلى الاختفاء القسري".
ونقلت عن معتقل سابق احتجز لأكثر من 100 يوم تعرضه للضرب خلال احتجازه، ووصف كيف توفي محتجز آخر بعد تعرضه للضرب في غياب الرعاية الطبية، وهو وصف يتسق مع ما ذكره آخرون جرت مقابلتهم عن كيفية ضرب المحتجزين بخراطيم المياه أثناء الاستجواب لانتزاع اعترافات منهم، وفق اللجنة.
يقول بسام الأحمد من منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة"، مقرها باريس وتعنى بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في سوريا، "ضاقت الناس ذرعاً بالانتهاكات التي ترتكبها هيئة تحرير الشام على غرار الاعتقالات التعسفية والتعذيب والقتل تحت التعذيب".
ويشدد على أهمية أن يبادر الأهالي والمنظمات الحقوقية إلى "جمع أدلة مستقلة موثوقة وذات صدقية تمهيداً لتحقيق العدالة في المستقبل، سواء عبر استخدام الاختصاص العالمي أم ملاحقة أفراد من التنظيم أو في حال تحويل ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية".
أبكيه ليلاً ونهاراً
في خيمة قرب الحدود التركية، تبكي أمينة الحمام (70 سنة) وقد غزت التجاعيد وجهها، غياب ابنها غزوان حسون (39 سنة) الذي اعتقلته الهيئة قبل أربع سنوات ونصف السنة من قريته في ريف إدلب الجنوبي، بتهمة "التخابر مع النظام".
تنقل والدته، التي زارته مع زوجته لمرة واحدة بعد ثمانية أشهر من اعتقاله، "عذبوني كثيراً وعلقوني على البالانغو، كان الدم يخرج من مفاصلي"، في إشارة إلى طريقة تعذيب سائدة في سوريا يعلق فيها المعتقل بزرد حديد متدل من السقف ويداه مقيدتان إلى الخلف.
على غرار عائلات موقوفين آخرين، لم تتمكن العائلة منذ ذاك الحين من معرفة أية معلومة عن ابنها على رغم مراجعتها مراراً هيئة تحرير الشام.
بحرقة، تقول الحمام بينما يجلس قربها طفلاه (تسع وخمس سنوات)، "لم نترك طريقة لنعرف عنه شيئاً. ناس يقولون لنا إنه ميت وآخرون يقولون إنه حي".
تشك العائلة في أن يكون مقطع فيديو نشره قبل ثلاثة أيام من توقيفه، انتقد فيه الهيئة، السبب خلف اعتقاله. لكن الوالدة تصر على أن ابنها، الذي انشق عن جهاز الشرطة بعد اندلاع النزاع، "لم يرتكب أي خطأ"، مطالبة بإطلاق سراحه.
وتقول الأم، "أبكيه ليلاً ونهاراً. لقد هربنا من الظلم، لكننا رأينا هنا ما هو أشد ظلماً وصعوبة".