Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يمكن إخضاع روايات ديكنز للتحليل النفسي على ضوء سيرته؟

الدراسات المعاصرة تؤكد ذلك وتبني عليه ولو في مجال علاقته بالمرأة وتربيته العائلية

تشارلز ديكنز وسط بيئته العائلية (غيتي)

ملخص

على رغم أن واحدة في الأقل من روايات ديكنز تكاد تكون تصويراً ما لسيرة حياته، فإن تلك الحياة بدت دائماً في منأى عن إنجازاته الروائية إذ ظلت الحيوات التي تطل من نصوصه غالبة على صورته المعهودة وتتلفح بكل تلك الحكايات الممتعة التي تشكل عماد أدبه

من ناحية مبدئية يعتبر الكاتب الإنجليزي الكبير تشارلز ديكنز واحداً من كبار الروائيين الأوروبيين على مر العصور، بل واحداً من أكثرهم رواجاً لدى القراء الأكثر جدية، بعد شكسبير وأغاثا كريستي. واشتهر الرجل دائماً بكونه كاتباً أخلاقياً بالدرجة الأولى يمكن للمدارس حتى الابتداية منها أن تتكل على رواياته في نوع من التربية التي غالباً ما تبدت ناجحة بالنظر إلى أنها تحض على الفضيلة في الوقت نفسه الذي تعرف فيه كيف تدر دموع القراء صغاراً وكباراً وتستثير ضحكاتهم واعتادت دائماً أن تنصر الخير على الشر، مما يتماشى تماماً مع الأهداف التربوية المتوخاة من دون أن تكون وعظية مملة.

وعلى رغم أن واحدة في الأقل من روايات ديكنز تكاد تكون تصويراً ما لسيرة حياته، فإن تلك الحياة بدت دائماً في منأى عن إنجازاته الروائية إذ ظلت الحيوات التي تطل من نصوصه غالبة على صورته المعهودة وتتلفح بكل تلك الحكايات الممتعة التي تشكل عماد أدبه فباتت صورته أقرب إلى المسلمات، غير أن الأزمنة الحديثة أتت، لا سيما خلال النصف الثاني من القرن الـ20 لتخبرنا أن ثمة للميدالية وجهاً آخر أقل مجداً من الوجه المتوافق عليه. ومن هنا مثلاً ما يمكن أن نستشفه من قراءتنا واحدة من أفضل وأعمق وأضخم السير التي كتبت لصاحب "دافيد كوبرفيلد" و"أوليفر تويست" وغيرهما من رواياته الخالدة. ونتحدث هنا بالطبع عن تلك السيرة التي كتبها بيتر أكرويد واعتبرت نصاً في نحو ألف صفحة يسير على خطى جيمس بوزويل الذي يعتبر رائد كتابة السيرة في الأدب الإنجليزي.

يوم أفلتت الأقلام

والحقيقة أن "الجرأة" التي أبداها أكرويد في كتابته سيرة ديكنز، لا سيما في مجال علاقاته النسائية وتعامله مع زوجته وتسامحه في المقابل غير المبرر مع بناته الثلاث، أفلتت الأقلام من تحفظها إلى درجة أن بعض تلك الأقلام، لا سيما منها المتسمة بنزعة نسوية عاتية، راحت تنهش في سيرة الرجل من دون أن يجرؤ أحد على تكذيب ما فيها. ولعل من آخرها وأكثرها جرأة كتاب الجامعية الأميركية ليليان نايدر التي تدرس الأدب الإنجليزي في جامعة ماين الأميركية. والحقيقة أن الطابع الاستفزازي لهذا الكتاب يبدأ مع عنوانه "ديكنز الآخر: حياة كاترين هوغارت" ولكي لا يبدي القارئ هنا تعجباً من هذا العنوان، نسارع إلى التوضيح، فكاترين المذكورة هنا هي بالتحديد "ديكنز الآخر" أي زوجة تشارلز ديكنز التي شاءت الكاتبة تركيز اهتمامها عليها على رغم أنها لم تكُن ذات دور فكري أو فني أو حتى اجتماعي يبرر تكريس  نحو 300 صفحة لتتبع حياتها، بل لتتبع حياة زوجها الكبير على ضوء تلك الحياة ومن ثم دراسة حياة هذا الأخير، بل رسمه للنساء في رواياته انطلاقاً من تعامله معها. ولنقل بالأحرى وفي معنى ما، من خلال تصوير بالغ الأهمية في مقارنة الكاتبة بين نساء ونساء أخريات في نصوص ديكنز. والحقيقة أن نايدر تتبع هنا حتى بصورة قد تبدو تبسيطية، منهجاً فرويدياً يقوم على أساس علمي لا مراء في أهميته، منهج العودة لطفولة فرويد لتحري المؤثرات التي اشتغلت عليه وكيف ظهرت لاحقاً من خلال اختياراته في رواياته.

آباء وأبناء

مهما يكن قد يكون من المفيد هنا أن نحصر حكايتنا، وكما تقترح نايدر، في بعد واحد هو علاقة ديكنز بزوجته علاقة تكاد تختصر في حد ذاتها الحكاية كلها، لكننا سنبدأ من سمة أخرى تماماً من سمات نظرة كاتبنا إلى المراة. فهو لم يكُن معادياً للمرأة تماماً حتى إن كانت ابنته كيت تخبرنا بأنه كان "رجلاً قاسياً، بل شديد القسوة" وأنه "كان عاجزاً تماماً عن فهم النساء". والحقيقة أن كيت لم تكُن منصفة في حكمها. فصحيح أن ديكنز لم يكُن من أنصار حصول المرأة على أي استقلال، لكنه كان يعترف لها بأن تملك الحق في أن تكون ذات طموحات خاصة بها خارج المنزل العائلي، بل كان لا يكف عن إبداء الإعجاب بموهبة موسيقية حقيقية كانت تتمتع بها أخته فاني، كما بمواهب عشيقته نيللي تيلمان في مجال التمثيل المسرحي. وكذلك تعاون مع الكاتبة وسيدة المجتمع إليزابيت غاسكل على إنقاذ فتيات الهوى من مصيرهن البائس. وكان في المقابل لا يتهاون في أن تتحدى أي امرأة سلطته، لكنه كان يبدي امتعاضه في تينك النساء اللواتي يستسلمن بسرعة لإرادة الرجال. واضح أن في كل تلك المواقف قدراً من التناقضات التي تفيدنا  نايدر بأن ليس من المحتم البحث عنها في سلوك ديكنز وأخلاقه، بل تحديداً عبر تحليل نفسي صارم لطفولته... بل إن المؤلفة تحددها بعلاقته مع أمه. ففي نهاية الأمر تؤكد المؤلفة أن الذنب الوحيد الذي اقترفته كاترين لم يكُن سوى المحاولة الدائمة لإحاطة زوجها بالرعاية الغامرة وإصرارها على مسامحته على كل ما يقترفه في حقها، إلى درجة أنها وعلى فراش موتها أورثت مراسلاته لها للمتحف البريطاني وهي تقول، "كي يعرف العالم كله كم كان يحبني حقاً!".

سؤال أساسي

حسناً كل هذا صحيح ولكن يبقى السؤال الأساسي الذي حرك مؤلفة "ديكنز الآخر" لوضع هذا الكتاب متعلقاً بـ"لماذا كان كل هذا التناقض في تعامل ديكنز مع المرأة؟"، والجواب لأن ما تبقى من طفولة الكاتب هو الذي، بحسب الكاتبة يملي عليه ذلك. ففي الحقيقة أن مبالغة كاترين في القيام بدور الأم وربما أيضاً الأب معاً في حياة زوجها وربما في محاولة منها للتعويض على طفولته البائسة في ظل ذينك الوالدين القاسيين، كما يتحدث عنهما على أية حال في رواية "سيرته الذاتية" "دافيد كوبرفيلد" اللذين "حرماه من طفولته بإرساله إلى العمل طوال الأسبوع و10 ساعات في اليوم، ومارسا عليه كما على أخته فاني كل أنواع القمع والاضطهاد، هو الذي ولدت لديه تلك الرغبة في تصوير رواياته لاحقاً من منطلق الصراع الدائم والمرير بين الوالدين من جهة والأبناء من جهة ثانية. ويقيناً، تخبرنا نايدر، أن علاقته الطيبة مع أخته التي كانت شريكته في التعرض لسوء معاملة الأب والأم لهما (الأب عن نزعة طغيان كانت طبيعية في ذلك الحين، وخضوع للأب من دون تفكير وربما عن خوف بالنسبة إلى مواقف الأم)، كانت هي ما اشتغل على تكوينه، ومن هنا لئن كان منتظراً من التي كانت حب حياته في البداية، أي زوجته كاترين هوغارت، أن تحل في حياته مكان الأم القوية والحنون التي كانتها أمه الحقيقية، فإن خنوع كاترين واستسلامها جعلاه يسقط عليها كل الرغبات الانتقامية التي تلبسته طوال المرحلة الفاصلة بين مراهقته وتحوله إلى ذلك الكاتب الكبير الذي عرفناه لاحقاً. ومن هنا ظل مرتبطاً بأخته فاني لأنها هي بقيت محافظة على قوتها وعلى مواهبها من دون تنازلات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تبرئة ما...

والحقيقة أن قارئ تشارلز ديكنز النبيه يمكنه بكل بساطة وموضوعية أن يفهم هذا الجانب من شخصيته وحياته، ليس فقط من قراءة كتاب "ديكنز الآخر" ولكن أيضاً بخاصة من خلال محاولة موضوعية لتفهم دوافع وسلوكات عدد كبير من الشخصيات الديكنزية، ليس على ضوء مفهومي الخير والشر، بل بصورة أكثر دقة على ضوء ما يتبقى من الطفولة لدى شخص مرهف الحس من الواضح في نهاية الأمر أنه، وفي العدد الأكبر من نصوصه، لم يكُن من السهل عليه أن يدرك الأبعاد الحقيقية القائمة على الصراع بين الكبار والصغار، بين الأهل والأبناء في تلك النصوص، فإن اختياراته ورسمه للشخصيات يأتي ليكشف عن خلفية تلك الاختيارات، مما يبعد من كتاب "ديكنز الآخر" تلك السمات التي تجعل منه، وبحسب الكاتبة على أية حال، مجرد "نص انتقامي نسوي" بل تقدمه لنا مثل دراسة في السلوك الإنساني القائم على مبدأ السببية، بل ربما أيضاً مثل كتاب في التحليل النفسي للأدب يتخذ من نصوص ديكنز مادة لدراسة تتطلع إلى استكمال ما اشتغل عليه فرويد نفسه في هذا السياق.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة