Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يحيى جابر وأنجو ريحان يحفران في ذاكرة اليسار اللبناني

مسرحية "شومنلبس" المونودرامية تجسد معاناة أهل الجنوب بين الخارج والداخل

الممثلة أنجو ريحان في مونودراما "شو منلبس؟" (خدمة الفرقة)

ملخص

يعمد الكاتب والمخرج يحيى جابر والممثلة أنجو ريحان في مسرحية "شومنلبس؟"إلى البحث في ذاكرة اليسار اللبناني، خصوصاً في أرض الجنوب، والمعاناة التي كابدها أهله، خلال مواجهة الإحتلال الاسرائيلي، ومواجهة التيارات الأصولية التي حاربتهم. مسرحية مونودرامية تقدم مشاهد بانورامية عن البيئة الجنوبية والصراعات التي شهدتها.

تمثل مسرحية "شو منلبس؟" أقصى ما تطمح إليه مسرحية مونودرامية من انصهار بين النص والإخراج من جهة، والتمثيل من جهة أخرى، حتى ليبدو العرض مثلثاً واحداً لا يمكن الفصل بين زواياه الثلاث. وليس من المصادفة أن يكون الكاتب والمخرج هو يحيى جابر الذي أسس مسرحه المونودرامي الخاص،  والممثلة هي القديرة أنجو ريحان، فكلاهما "متواطئان" وشريكان في هذه اللعبة الخطرة التي أدياها، ليس بصفة جابر كاتباً ومخرجاً فحسب ولا بوصف ريحان ممثلة فحسب، وإنما أيضاً، لكونهما يتقاربان في مسارهما الميلودرامي، مثل هذا التقارب أو يتماهيان مثل هذا التماهي، وكأن الكاتب والمخرج مرآة للممثلة والممثلة مرآة له. صحيح أن جابر كتب النص لأنجو أو على مقاسها كما يقال، لكن أنجو بدت كانها أعادت كتابته تمثيلاً وكأنه نصها، بمقدار ما هو نص جابر. فهي هنا ليست فقط ممثلة تؤدي شخصية كما تفترض اللعبة، بل هي أنجو نفسها تؤدي شخصيتها، بحسب ما ارتأياها معاً. وهذا، ليس لأن جابر استعان فقط بشخصية أنجو وذكرياتها وببعض من سيرتها ومسارها كفتاة (يارا في النص) عاشت الكثير من التفاصيل والوقائع الواردة في العرض، بل بوصفها الركيزة التي بنى عليها رؤيته المسرحية ومقاربته الدرامية للمرحلة الشائكة التي عاشها هو أيضاً شخصياً، عندما كان  قيادياً يسارياً وشيوعياً، عانى ما عاناه "الرفاق"، على الجبهة الإسرائيلية أولاً وعلى الجبهة الأهلية داخلياً، ما بين العلمين الأخضر (أمل) والأصفر (حزب الله).

مثلث مسرحي

إنها مسرحية يحيى أولاً في كونه الكاتب والمخرج وهي مسرحية أنجو ثانياً، في كونها شخصية النص وممثلته. لقد التقيا كما لم يلتقيا سابقاً، في الرؤية والبحث والحفر في ذاكرة مشتركة، فردية وعامة، تكاد تندثر، بعد تراجع الحركة الوطنية وهيمنة الأيديولوجيا الدينية لا سيما، على الساحة الجنوبية التي تدور فيها وقائع المسرحية.

لعل العنوان هو من عتبات المسرحية الرئيسة "شو منلبس؟": الحجاب أم المايو (لباس البحر)؟ وهو سؤال أنجو مثلما هو السؤال المطروح دائماً في معظم مناطق البيئة اللبنانية الإسلامية، وهي الشيعية هنا. وينفتح السؤال، عندما يدور مرة، في رأس أنجو / يارا التلميذة الشيعية التي تدرس في مدرسة الراهبات، إن كان ممكناً أن تصبح مسيحية وتعتمر منديل الراهبة، لكنها لا تلبث أن تبدل رأيها المتقلب، مؤثرة ارتداء الحجاب، لكن والدها الشيوعي يوسف يمنعها بشدة. اللباس هنا بظاهره، يمثل عمق الأزمة التي ما برح يعانيها لبنانيون ولبنانيات كثر، وهي أزمة دينية ووجودية وسياسية في البعد اللبناني. أما منديل الراهبة الذي خطر في بال يارا، فهو مستحيل مثلما هو مستحيل ارتداء المسيحيات الحجاب في البيئة المسيحية.

بدا يحيى جابر جريئاً جداً في هذه المسرحية المونودرامية، فهو عمد إلى نبش الماضي اليساري والشيوعي تحديداً، الذي بات شبه منسي أو مسكوتاً عنه أو شبه مهمش، على غرار الفكر اليساري نفسه اليوم في لبنان، غداة سيطرة الأيديولوجيا الدينية والفكر الطائفي. وهذه قضية كتب عنها الكثير في الحقل السياسي والفكري وحتى في الرواية، ولكن نادراً ما تم التطرق لها مسرحياً وحتى سينمائياً. نجح جابر وريحان في خلق المعادلة المسرحية التي تعيد إحياء قضية اليساراللبناني وما عانى اهله من هموم ومشاكل، وما تعرضوا له من اضطهاد اسرائيلي وديني وطائفي. وقد خلا العرض في هذا السياق من أي "كليشيه"، حتى في أغنية "بيي راح مع العسكر" لفيروز التي تم تحويرها لتنتهي بـ"حارب وانهزم بعنجر" عوض "حارب وانتصر بعنجر". فثمة غمز واضح وجريء هنا في شأن الدور السلبي الذي أداه النظام السوري في لبنان، فقسم أفرقاء الصف الواحد وأسهم في القضاء على الحركة الوطنية، وجعل من مدينة عنجر مقراً لأحد جنرالاته البطاشين.

إذاً إنها شخصية أنجو ريحان متلبسة اسم يارا، تؤدي العرض كاملاً، بشخصياته المتعددة وأحداثه ووقائعه، راسمة عبر المونودراما صورة شاملة عن جماعة يسارية وطنية تقع في صميم بيئة شيعية، وعن بيئة شيعية مضطربة سسياسياً واجتماعياً. وأجمل ما في مسار هذه الميلودراما انطلاقها من الشخصي إلى العام أي البيئي والحزبي. فهي تبدأ مع أنجو/ يارا التي تقدم ولا تروي فقط، حكاياتها وحكاية والدها يوسف الشيوعي الذي يأسره العدو الإسرائيلي ويتنقل به من سجن الريجي في النبطية المحتلة، إلى سجن أنصار الشهير، فإلى سجن عتليت في فلسطين المحتلة... وهنا في فترة السجن يبرز واقع الأسرة والقرية وتحل المراسلات التي تشكل محوراً مسرحياً مهماً، فيتم التنقل عبرها بين جو السجن وظروفه القاسية، وجو العائلة وما تعاني في ظل أسر الأب. ونتيجة معلومة أوردتها الابنة خطأ وببراءة، حول السلاح المخبأ في البيت، تقتحم فرقة إسرائيلية كنف العائلة باحثة عن السلاح بفجاجة وغلاظة. أما الرسائل فيستغلها جابر ليجعل منها فسحات درامية، مفعمة بالمشاعر الحزينة حيناً والمواقف الساخرة حيناً آخر. هناك مثلاً "خبرية" استحمام الأب بالماء البارد في السجن الذي يدفع الزوجة/ الأم نجوى إلى مبادلته الشعور نفسه. وهناك حكاية طبخ المأكولات البيتية التي تصر الأم والجارة عليها عسى الهواء يحمل روائحها إلى السجن فيتنشقها السجناء...

الحكايات و"الخبريات" كثيرة في المسرحية وتتوزع  خلال مسارها: سجن الأب وخروجه، ثم المضايقات التي تعرض لها الأب والشيوعيون، ثم هجر القرية والنزوح إلى الساحل وتحديداً إلى الرميلة... وخلال هذا المسار تؤدي أنجو أدواراً وشخصيات كثيرة، ببراعتها المعهودة. بل إنها هنا تبلغ ذروة الأداء المونودرامي، متخطية "الأفخاخ" المتوقعة في الانتقال من شخصية إلى أخرى، من خلال إيقاع دينامي حي، افقي وتصاعدي . وفي هذا العرض تجاوزت "الثقل" الذي ظهر أحياناً قليلة في مسرحية "مجدرة" خلال انتقالها من شخصية إلى أخرى، فالشخصية الرئيسة هنا مختلفة بل هي شخصية أنجو كما أشرنا، التي تؤدي شخصيات أنثوية ونسائية وذكورية، تغني وترقص، تتكلم وتصمت. هذا كله من دون مبالغة او تصنع. كل الشخصيات هي أنجو وأنجو كل الشخصيات، وكل شخصية لها منطقها وحركتها ولهجتها...

العلمانية والطائفية

أنجو الابنة، الموزعة بين تربية علمانية أساسها الوالد الشيوعي، وأخلاقيات بيئة محافظة، يخضع لها الأب خلال الإقامة في القرية، ويتخلى عنها بعد النزوح إلى الرميلة، البلدة التي يقطنها كثر من الشيوعيين، ومنهم القيادي المعروف الياس عطالله الذي ذكر أكثر من مرة مثله مثل جورج حاوي وسواه. فالمايو ممنوع في القرية وكذلك "الزنطرة" والحياة العاطفية، أما في الرميلة فكلها مسموحة. أنجو الأم الحنونة والمتينة و"الأصيلة"، المحافظة والحرة. أنجو الجارة الحاجة التي تلفظ كلمة الباب بـ"البيب" على الطريقة الشيعية. أنجو الأب الذي تقصف سيارته بعد خروجه من السجن الإسرائيلي والذي يتعرض للتهديد في القرية التي بات يسيطر عليها العلمان (الأخضر والأصفر)، والذي ينجو من هجوم إسرائيلي دمر بيت الحزب الشيوعي في الرميلة، الأب القاسي والحنون والمتحرر في آن واحد. أنجو الابن إبراهيم الذي لم ينجبه الوالد والوالدة وظل أمنية وحلماً، تتخيله أنجو وتؤدي دوره "الذكوري" الطفولي. أنجو الراهبة كلود وقد أدت دورها بطرافة تامة، أنجو الفتاة المحجبة، أنجو التي ترقص على مقاطع غنائية لام كلثوم، وتستحضر "اناديكم" الاغنية اليسارية الشهيرة لأحمد قعبور وتردد "تصبحون على وطن" لمحمود درويش بصوت مارسيل خليفة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أنجو التي خطر في بالها صغيرة أنها ستصبح ممثلة، هي الممثلة نفسها، وقد سخّر لها يحيى جابر المخرج كل "الأدوات" الدرامية، بل سخّر "الأدوات" في خدمة رؤيتها كشخصية. وقد دمجت بمهارة بين فن المونولوغ وفن الديالوغ، سواء في مخاطبتها نفسها أو في محاورة نفسها كشخصية أخرى. وقد نجحت هي في جعلنا كمشاهدين، نشاهد المسرحية بعينيها، وهنا التحدي بل القوة. لقد جعلت العالم الذي يحيط بها يبدو كما تدركها هي نفسها كممثلة وشخصية، من خلال وجودها على المسرح. وهذه ملاحظة يقول بها ستانيسلافسكي، وطبقها على سبيل المثل المخرج والممثل الأميركي الكبير روبرت ويلسن عندما حول "هاملت" مسرحة ميلودرامية أدى فيها معظم الشخصيات، ببراعة فائقة، وجعل المشاهدين ينرون هاملت بعينيه وحركته. ولا تُنسى أنجو في المشهد الأخير الذي جسدت فيه موت الأم، تجسيداً تراجيدياً، فردياً مشبعاً بمأسوية جماعية، حتى بدا جسدها كأنه نشيد جنائزي تتردد فيه أصداء الموت. وكالعادة شاء جابر مسرحه فقيراً ومتقشفاً من ناحية الديكور، فقصره على بضع درجات خشبية ومستيل من ألمونيوم وقماشة بيضاء وظفتها أنجو جيداً في مخلتف أدورها النسائية، علاوة على روب حمام وجاكيت. لكن الممثلة والمخرج حولا الخشبة شبه الفارغة، مع الإضاءة، إلى فضاء مسرحي رحب، بالحركة والتعبير.

لا يمكن الكلام عن يحيى جابر في مسرحية "شو منلبس؟" الاستثنائية فعلاً على معظم المستويات، خارج الكلام عن أنجو ريحان. إنهما يكملان بعضهما بعضاً، المخرج والكاتب والممثلة والشخصية أو الشخصيات، كأنهم كلهم في لعبة المرايا المسرحية. ولعلمها، يحيى وأنجو، يجسدان في هذا العمل خير صورة لما يسمى الثنائي المسرحي. المخرج والكاتب يعطي ويأخذ، والممثلة بدورها تعطي وتأخذ، بلا حساب ولا حدود.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة