ملخص
يكفينا تأمل بعض الصور الجزائرية التي تعود لسنوات السبعينيات وما قبلها التي تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي، لكي ندرك الهوة السحيقة التي وصل إليها الجزائري في تشويه مسطرة قيم هوية لباسه.
لباسنا ليس قضية اعتباطية، فهو المعنى المجسد في التفصيل والألوان والخيوط، كل ما نرتديه يحيل على مسطرة من القيم الاجتماعية المعقدة، للباس ذاكرة حية، إنه يتكلم، يكلمنا ويكلم غيرنا، إنه خطاب كامل ومتكامل اجتماعياً وسياسياً ودينياً وطبيعياً ومناخياً وجهوياً، كل لباس يحمل أيديولوجية نائمة أو مستيقظة، لا شيء مما نلبس بريئاً.
كل أمة، كانت من جغرافية الشمال أو من الجنوب، بكل فخر، تربط جزءاً من تاريخها بقيم لباس مواطنيها، وتكتبه بخط واضح على تفاصيل هندام أبنائها من النساء والرجال.
في إجابته عن سؤال حول حدود بلاد الأمازيغ، قال ابن خلدون: "تبدأ بلاد الأمازيغ حيث يأكل الناس الكسكسي وتنتهي حيث يلبس الناس البرانيس"، في هذه المقولة، يبن لنا مؤسس علم الاجتماع البشري كيف تتماهى الهوية، وإلى حد كبير، من جهة مع فنون الطهي ومن جهة ثانية مع ملبس البشر.
وفي زمننا هذا، يحدث في مدننا العتيقة والكبيرة والصغيرة وفي القرى وحتى في الأرياف ما يبعث على القلق، حيث الجزائرية والجزائري يبدوان وكأنهما ضيعا المرجعيات التاريخية والهوياتية للباسهما. لقد دنس اللباس الجزائري العريق.
اليوم، لا يمكننا تمييز الجزائري عن غيره من خلال ملبسه، إذ كان قبل الثمانينيات معروفاً بقيم تحملها خصوصية لباسه، قيم جمالية واجتماعية وحضارية ومناخية، لقد تحول الجزائريون والجزائريات كثيراً، فمنذ مطلع الثمانينيات تبنوا هويات لباس الآخر وتناسوا أو تنكروا لهويات ملبسهم.
لقد أصبح الجزائري يعيش في ما يشبه الفوضى في مسطرة قيم لباسه، وهذه الفوضى تحيل وتعكس اضطراباً خفياً في الهوية.
بلامبالاة مطلقة، يلبس الجزائري على الطريقة الأفغانية، يلبس أفغانياً، في وهران وبجاية وبشار وعنابة وجيجل وفي بقية البلاد من دون استثناء، يرتدي العباءة الأفغانية ومن فوقها معطفاً جلدياً وسروالاً رياضياً ويذهب إلى شغله، إلى المدرسة، إلى الجامعة، إلى مخبر صناعة الأدوية، ولا يتحرك ضميره ولا غيرته على قيم ملبسه الأصيل!
أما في أيام الأعياد الدينية فيلبس الجزائري على الطريقة السعودية، يصبح سعودياً في المظهر، وهو يعتقد أن ارتداء مثل هذا اللباس سيجعل منه مسلماً من الدرجة الأولى، وربما سيجعله قريباً من الله تبارك وتعالى، وبسذاجة يعتقد أن مثل هذه المراتب الدينية لا يمكنه أن يحققها بلباسه المحلي الجزائري!
من جهة أخرى، فقد تم "تتريك" لباس المرأة الجزائرية، فهي تشتري الخمار التركي وتربطه حول عنقها على الطريقة التركية، وتبدو العباءة التركية الإسلامية هي الأكثر انتشاراً بين الفتيات الجزائريات، وهو ما يؤكد سلطة أيديولوجيا الإخوان في المجتمع الجزائري.
لقد تم تشويه العباءة القبائلية الجميلة، وهي التي تعد رمزاً مركزياً لحضارة عريقة في بلادنا، فقد أدلجوها وتمت "خونجتها"، والذي يشاهد ما تتعرض له العباءة القبائلية من اختراق أيديولوجي يومي يعتقد أن أمهاتنا وجداتنا اللاتي كن يلبسنها على أصولها وبألوانها الزاهية وبفوطتها الجميلة لم يكن مسلمات، وأن الإسلام الجديد الحقيقي جاء منذ أن بدأ مسخ العباءة القبائلية كرمز للبلاد وللإنسان الذي صنع تاريخ هذه البلاد العريق والمعاصر.
وفي أقصى الجنوب الجزائري، بمنطقة الطوارق، بلاد الرجل الأزرق، يتم اختراق قيم اللباس هناك أيضاً، وهو اللباس الذكي والجميل الذي يحيل على مسطرة من القيم الأخلاقية والطبيعية والمناخية والعقائدية المركبة التي تعود لآلاف السنين، وتحمل ذاكرة حضارة الصحراء والإنسان الصحراوي الطارقي في معركته من أجل الحياة والجمال والسعادة والكرامة والافتخار بالانتماء إلى هذا الوطن، فالعباءة الطارقية النسوية الجميلة بشكلها وألوانها وطريقة لبسها تتعرض للمسخ السياسي المبرمج من خلال تحميلها أيديولوجية جديدة وصلت مع وصول التيارات الدينية المتطرفة مطلع الثمانينيات هذه المنطقة من الجزائر الشاسعة، الجزائر القارة.
كل هذا محزن ومثير للغضب.
يكفينا تأمل بعض الصور الجزائرية التي تعود لسنوات السبعينيات وما قبلها التي تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي، لكي ندرك الهوة السحيقة التي وصل إليها الجزائري في تشويه مسطرة قيم هوية لباسه، فمقارنة بسيطة بين لباس معلماتنا ومعلمينا في سنوات السبعينيات بلباس معلمات ومعلمي اليوم ندرك حجم الاضطراب الكبير والقلق المدوي اللذين يضربان المنظومة التعليمية من خلال المس بمسطرة قيم اللباس، وشريط الصور هذه يجعلنا نعتقد، وكأننا أمام شعبين تفصل بينهما قرون من الزمن، أمام بشر يعيشون على كوكبين لا يلتقيان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول لنا هذه الصور: باسم الأيديولوجيا المتطرفة الوهابية المستوردة، تتم محاربة قيم الجمال والتقدير الإنساني الموجود في لباس المرأة والرجل على حد سواء، وباسم الأيديولوجية ذاتها تفرض قيم القبح والتشويه تحت شعار الدفاع عن "العفة المفتعلة" و"الحشمة المصطنعة".
من جهة أخرى، وباسم الحضارة الغربية، ظهرت موجة من الشباب الذين يسيرون في الشوارع بسراويل هابطة على آلياتهم في منظر ممسوخ لا يمت بصلة للباس الرجل الجزائري الأصيل. إنه القبح الذي يزحف من كل الجهات على مسطرة قيم لباس الجزائري الجميل العريق.
وفي معركة التشويه والمسخ هذه التي يتعرض لها اللباس الجزائري بكل أنواعه وأشكاله ومرجعياته، تظل المرأة هي الضحية الأولى في ذلك. فإذا أردنا أن نبشع ونشوه مجتمعاً فعلينا البدء بمسخ لباس المرأة وفسخ هذه الأخيرة وفصلها عن ذاكرتها الجمالية وسلمها الأخلاقي والاجتماعي.
إن الله جميل ويحب الجمال.
وباسم هذه الأيديولوجيا الجنائزية، وبدعوى المحافظة على تقوى "الرجل" ترتفع أصوات غريبة بتحريم العطور على المرأة في الفضاء العام، فالمرأة التي تضع عطوراً وتذهب إلى العمل أو تقطع الشارع أو تذهب للتسوق أو عند الطبيب هي تجسيد للشيطان، إنها تثير غريزة الرجل المتعبد القانت! يتم تحجيب المرأة حجاباً غريباً على حساب لباسها الأصلي الذي ورثته عن الأجداد، الذي فيه الحشمة كلها والاحترام كله، لا لشيء إلا لأن هذه المرأة بعباءتها الطبيعية "تشوش" على "الرجل المسكين" إيمانه الهش!
إن الرجال "الرجال" أولئك الذين فجروا ثورة الجزائر العظيمة وقادوها وكانوا حطبها حتى الاستقلال من ربقة استعمار فرنسي همجي، والرجال "الرجال" الذين أسسوا بعد ذلك للدولة الوطنية الجديدة، هؤلاء جميعاً كانوا يحاربون ويناضلون ويعملون جنباً إلى جنب مع نساء شريفات شهيدات ومناضلات ثوريات صادقات يلبسن اللباس الطبيعي العادي من مثيلات الشهيدات: حسيبة بن بوعلي ومليكة قايد وصليحة زبيدة ولد قابلية ومليحة حميدو وغيرهن، ومن مثيلات المناضلات: جميلة بوحيرد وزهرة ظريف وجميلة بوعزة وجميلة بوباشا وأسيا جبار وزهور ونيسي وغيرهن، وكان هؤلاء الرجال "الرجال" مسلمين أباً عن جد غير مشوهين بالأيديولوجيا الوهابية المتطرفة وبالهوس الجنسي ضد المرأة.
يوماً بعد يوم يبتعد الجزائري عن نفسه، عن "أناه"، ليصبح "آخر"، غريباً. أكثر فأكثر، يكره الجزائري نفسه ليحب الغريب في ذاته؟ وذلك من علامات التقهقر والانحدار ومن مخلفات اضطراب الهوية.
ما العمل لتقييم هذا الوضع الاجتماعي الذي تمارس فيه اختراقات خطرة لسلم قيم اللباس الجزائري الثري والمتنوع التي هي مكون أساسي من مكونات الهوية الوطنية عبر التاريخ، - ما العمل - من دون المس بالحياة الشخصية للمواطن ومن دون التعدي على الحرية الشخصية؟
نحتاج إلى متحف أو أكثر متخصص في فنون اللباس الجزائري، حتى تعي الأجيال الجديدة قيمة موروثها الجمالي والفني المتنوع المرتبط بلباس المرأة والرجل، وعلاقة ذلك بالتاريخ الوطني في تشكله عبر فترات السلم والحرب، القوة والضعف، الهزيمة والانتصار، ومطلوب أيضاً من وزارة السياحة أن تؤسس لجوائز كبيرة محترمة تشجع فيها الحرفيين المتخصصين في صناعة ورعاية ذاكرة الجزائر في لباسها، جوائز للعباءة القبائلية، والتارقية، والملاية القسنطينية، والبرنوس، وجلابة أولاد نايل وغيرها، ومطلوب أيضاً من وزارة التربية أن تضع قانوناً للباس المعلم والأستاذ، تحترم فيه مسطرة قيم اللباس الجزائري، ولمساعدة هيئة التدريس في ذلك يمكن إنشاء ما يسمى "بشيك - اللباس" المدرسي الرسمي.