ملخص
لم تكتفِ إسرائيل بمنع وتقييد دخول المواد الغذائية إلى القطاع منذ بدء الحرب، بل وجهت ضربة رهيبة لأحد أعمدة النظام الغذائي ودمرت أكثر من ثلث الأراضي الزراعية في غزة، وأكثر من خمس الدفيئات الزراعية، وثلث البنية التحتية للري
في مواجهة الحصار الإسرائيلي الخانق على قطاع غزة منذ أكثر من 17 عاماً، لجأ الغزيون للمعول والفأس كوسيلة حيوية لتأمين غذائهم، حتى أصبح القطاع الزراعي بمساحته المقدرة بنحو 117 مليون متر مربع، والذي يقع أكثر من 60 في المئة منه في مناطق وسط غزة وشمالها، مصدراً لأكثر من 45 في المئة من الغذاء لسكان القطاع، ومنقذاً رئيساً لآلاف العمال، وغدت الأرض وما عليها من محاصيل، الركيزة الأساس لصمود 2.3 مليون فلسطيني هناك، إلا أن الاجتياح الإسرائيلي الأوسع والأكثر دموية في تاريخ الصراع الممتد لأكثر من 75 عاماً، خلف وراءه ولا يزال، مشهداً من الدمار لم تشهد له البشرية مثيلاً منذ ما يزيد على 100 عام. ولم تكتفِ إسرائيل بمنع وتقييد دخول المواد الغذائية إلى القطاع منذ بدء الحرب، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بل وجهت ضربة رهيبة لأحد أعمدة النظام الغذائي ودمرت أكثر من ثلث الأراضي الزراعية في غزة، وأكثر من خمس الدفيئات الزراعية، وثلث البنية التحتية للري التي تعد مصادر رئيسة لغذاء سكان القطاع الذين يتعرضون لخطر مجاعة وشيكة ومروعة، كيف لا وقد وصل الفلسطينيون في القطاع، بحسب شهادات وتصريحات أممية، لشرب مياه ملوثة، وأكل النباتات البرية، واستخدام علف الحيوانات لصنع الخبز، في حين يهدر العالم نحو 1.5 مليار طن من الطعام سنوياً.
ويعد حظر استخدام الجوع كسلاح ضد المدنيين أثناء الحروب مبدأً أساسياً في القانون الدولي الإنساني، الذي يشدد، في عديد من الوثائق القانونية الدولية، على حماية المدنيين وممتلكاتهم في أوقات النزاع المسلح، ويحظر خصوصاً استخدام الجوع كأداة للضغط في النزاعات، معتبراً ذلك انتهاكاً للقانون الدولي، ويحظر البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقات جنيف لعام 1949، استخدام الجوع كوسيلة للحرب ضد المدنيين. ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف"، يعاني واحد من كل ثلاثة أطفال دون سن الثانية في شمال غزة سوء التغذية الحاد، و4.5 في المئة من الأطفال النازحين في مراكز الإيواء يعانون الهزال الشديد الذي قد يفضي إلى الموت بصورة عاجلة.
خسائر فادحة
وبعد مرور 181 يوماً على الحرب شهدت الأراضي الزراعية في القطاع تدميراً واسعاً غير مسبوق إلى جانب القصف العنيف الذي تعرض له كثير من الأراضي، وأدى التجريف الهائل الذي قامت به معدات الجيش الإسرائيلي لضرر كبير في القطاع الزراعي الذي يعد واحداً من أهم القطاعات في غزة، والذي أسهم في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022 بنحو 11 في المئة، وقرابة 10.6 من مساحة القطاع مخصصة للأراضي الزراعية، وتشغل ما لا يقل عن 116 كيلومتراً مربعاً، كما أن 55 في المئة من صادرات قطاع غزة تنتمي إلى المنتجات الزراعية. ووفقاً لخبراء في البيئة والزراعة، فإن مرور الدبابات فوق الأراضي الزراعية وما يتسبب فيه من انضغاط للتربة قد يؤدي لانخفاض ناتج المحاصيل الزراعية بنسبة تصل إلى 60 في المئة، لصعوبة وصول جذور النباتات إلى المغذيات في التربة، وصعوبة اختراق المياه والمخصبات الزراعية طبقات التربة نفسها. كما أشار متخصصون إلى أن التلوث الكيماوي الذي قد ينتج من استخدام الذخيرة والأسلحة الكيماوية، إضافة إلى البقايا الحيوانية، عوامل تفسد التربة، وربما يمتد هذا الضرر إلى عقود عدة.
وبحسب تقرير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني الذي صدر نهاية العام الماضي، فإن الدمار في الأراضي الزراعية داخل أراضي غزة، طاول نحو 34 كيلومتراً مربعاً تقريباً، بنسبة وصلت نحو 39 في المئة من مجموع الأراضي المزروعة، وأظهرت البيانات أن كثافة وصحة الأراضي الزراعية في القطاع تراجعت بنسبة 18 في المئة، في حين بينت وزارة الزراعة الفلسطينية أن وقف التصدير يؤثر في 60 ألف أسرة من العاملين بالقطاع الزراعي، وقد أدى عدم قدرة المزارعين على الوصول إلى أراضيهم القريبة من مناطق التماس لسقايتها ومتابعتها، خوفاً من الاعتقال أو الاستهداف من قبل الجيش، لفقدان عشرات الأصناف الزراعية من الأسواق، وارتفاع أسعار كل أنواع المنتجات. وكانت مناطق وسط وشمال قطاع غزة حتى لحظة اجتياحها، توفر 60 ألف طن من الخضراوات والمحاصيل الحقلية لسكان القطاع.
سنوات طويلة
وقال رئيس جمعية التنمية الزراعية الفلسطينية هاني الرملاوي "إن فقدان المحاصيل اللازمة لكسب الرزق والدخل سيؤدي إلى الانهيار الشامل للزراعة في غزة لسنوات طويلة"، مؤكداً أن قيمة القطاع الزراعي تزيد على 575 مليون دولار سنوياً، في حين قالت منظمة "أوكسفام" للإغاثة والتنمية إن إسرائيل دمرت الإنتاج الزراعي الموسمي شمال قطاع غزة في "زمنه الذهبي"، وإن القصف الإسرائيلي أدى إلى "تدمير أغنى الأراضي الزراعية التي تعد واحدة من أكبر مصادر الفاكهة والخضراوات".
ويتوقع مزارعون أن تفقد مساحات واسعة من أراضيهم الزراعية قدرتها الإنتاجية مستقبلاً جراء استخدام الأسلحة المحرمة دولياً مثل القنابل الفوسفورية، وتهجيرهم قسراً خارج أراضيهم. وبحسب أرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، يخسر القطاع الزراعي في قطاع غزة يومياً نحو مليوني دولار أميركي بسبب توقف عجلة الإنتاج، والذي يزداد بشكل ملحوظ عند احتساب الدمار الواقع على قيمة الأصول والممتلكات الزراعية وتجريف المساحات الزراعية.
إبادة بيئية
وبحسب التقارير الميدانية لاتحاد لجان العمل الزراعي، دمرت إسرائيل، خلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب، أكثر من 75 في المئة من القطاع الزراعي في غزة، خصوصاً في مناطق شمال القطاع التي تستحوذ على أكثر من ثلث الأراضي الزراعية في القطاع، والتي تسهم في توفير أكثر من 30 في المئة من الحاجات الغذائية من الخضراوات والمحاصيل الحقلية، كما تم تدمير أكثر من 90 في المئة الأراضي الزراعية لخان يونس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفقاً للتقديرات، فإن استمرار الجيش الإسرائيلي في تدمير آلاف الأشجار وتجريف عديد من المساحات والممتلكات الزراعية قد يرفع حجم الخسائر الزراعية الكلية إلى ربع مليار دولار، والتي قد تكون أكبر وأشد وطأة، إذا ما أضيفت الخسائر غير المباشرة للقطاعات التصنيعية الأخرى المتصلة بالزراعة، والتي قد تستغرق عملية التعافي منها برأي خبراء سنوات طويلة. ووصفت المؤسسة البحثية Forensic Architecture أن ما تقوم به إسرائيل من تدمير الأراضي الزراعية والبنية التحتية في غزة باستخدام جرافات ومتفجرات لتوسيع "المنطقة العازلة" على جانب القطاع هو "عمل متعمد من أعمال الإبادة البيئية يؤدي إلى تقليص مساحة القطاع بنسبة 16 في المئة".
في المقابل، لا تعترف إسرائيل رسمياً بأنها تعتزم إنشاء منطقة غازلة أو حزام أمني على امتداد الحدود، وتقول إن جميع أعمال الهدم التي طاولت المنازل والطرق والأراضي الزراعية تستهدف البنية التحتية "للإرهاب"، بيد أن المركز الإسرائيلي لحقوق الإنسان في المناطق المحتلة "بتسليم" أشار إلى أن تصريحات رسمية إسرائيلية أكدت أن إنشاء الحزام الأمني، أو المنطقة العازلة، الذي سيمتد مع كامل حدود قطاع غزة مع إسرائيل (نحو 60 كيلومتراً) هو جزء من منظومة دفاعية لحماية بلدات الجنوب، وأن هذه ضرورية لتمكين سكانها من العودة لمنازلهم. وهو ما أكده رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هليفي حين قال إن الغاية من هذه الأنشطة هي "خلق شروط أمنية تتيح عودة آمنة لسكان غلاف غزة"، في حين أوضح الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري أن "هدم المباني غايته توفير الشروط الأمنية المطلوبة لإتاحة عودة سكان الجنوب إلى منازلهم". واعتبر "بتسليم" أن أعمال الهدم التي تنفذها إسرائيل لتحقيق هذه الغاية "محظورة وتشكل جريمة حرب، إذ تنفذ كوسيلة وقائية غايتها مجابهة خطر مستقبلي، والهدم لسبب كهذا ممنوع منعاً باتاً".
جريمة حرب
ووفقاً لتقرير مركز "الميزان" لحقوق الإنسان تقدر المسافة الإجمالية للمنطقة العازلة بنحو 62 كيلومتراً مربعاً، ونحو 35 في المئة من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية، وأظهرت تحليلات الصور الملتقطة بالأقمار الاصطناعية التي نشرتها صحيفة "غارديان" البريطانية، تعرض ما بين 38 و48 في المئة من الغطاء الشجري والأراضي الزراعية في القطاع للتدمير، وهو ما أثار دعوات إلى اعتبار ذلك "إبادة بيئية"، والمطالبة بالتحقيق فيها باعتبارها جريمة حرب محتملة. وشدد الجيش الإسرائيلي للصحيفة على التزامه "القانون الدولي" ومحاولته "الحد من أي ضرر يلحق بالمناطق الزراعية والبيئة"، مشيراً إلى أنه "لا يتعمد إلحاق الضرر بالأراضي الزراعية". وقال متحدث باسم الجيش إن "حماس تعمل في كثير من الأحيان من داخل البساتين والحقول والأراضي الزراعية"، لافتاً إلى أن "الجيش ملتزم تخفيف الأضرار الواقعة على المدنيين والبيئية خلال الأنشطة الميدانية".
وبحسب تحليلات الصور الفضائية الذي أجرته مجموعة Forensic Architecture البحثية التي تحقق في العنف الذي تمارسه الدول، وتتخذ من العاصمة البريطانية لندن مقراً لها، فإن الأراضي الزراعية والبساتين في غزة، قبل السابع من أكتوبر الماضي، كانت تغطي 170 كيلومتراً مربعاً، أو 47 في المئة من المساحة الكلية للأراضي، إلى جانب سبعة آلاف و500 دفيئة زراعية، كانت تشكل جزءاً حيوياً من البنية التحتية الزراعية في القطاع، في حين بينت الصور الملتقطة حديثاً أن العمليات العسكرية الإسرائيلية دمرت أكثر من 65 كيلومتراً مربعاً، أو 38 في المئة من الأراضي، وأن ما يقارب ثلث الدفيئات دمرت بالكامل، 90 في المئة منها تقريباً في شمال غزة، كما نحو 40 في المئة في محيط خان يونس. وأظهرت الصور ومقاطع فيديو ملتقطة حجم الدمار الذي تعرضت له الأراضي الزراعية وبساتين الزيتون والحقول جراء الحرب، وأشار خبراء في المجموعة إلى أن المنطقة "لم تعد صالحة للعيش".
وأظهرت تحليلات الصور الفضائية الملتقطة منذ يناير (كانون الثاني) الماضي، أن ما بين 50 و62 في المئة من جميع المباني في غزة تضررت أو دمرت. ووفقاً لتقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة، خلف القصف، منذ يناير الماضي، 22.9 مليون طن من الحطام والمواد الخطرة، وأن معظم الأنقاض تحوي أشلاءً بشرية. وبحسب البرنامج، فقد يؤدي القصف العنيف للمناطق المأهولة بالسكان إلى تلويث التربة والمياه الجوفية على المدى الطويل، كما قد يؤدي انهيار المباني إلى انتشار مواد خطرة، مثل "الأسبستوس" والمواد الكيماوية الصناعية والوقود في الهواء المحيط، والتربة، والمياه الجوفية.