Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

أطفال غزة يواجهون المستقبل بأطراف مبتورة

أكثر من 10 صغار يفقدون إحدى ساقيهم أو كلتيهما في القطاع يومياً منذ اندلاع الحرب

الأطفال أول من دفع ثمن الحرب في غزة (رويترز)

ملخص

مع اصطفاف مئات الجرحى والمصابين وفقر الإمكانات الطبية في غزة يتم التأخر في تقديم الرعاية الطبية اللازمة أو إنقاذ كثير من الحالات مما يسفر في كثير من الأحيان عن عمليات بتر أعضاء لم تكن ضرورية

"اسمه يوسف أبيضاني وشعره كيرلي وحلو" تلك الكلمات البسيطة كانت تصف بها أم فلسطينية ملامح صغيرها "يوسف" ذي السبع سنوات عندما كانت تبحث عنه في أحد مستشفيات قطاع غزة بين كثيرين سقطوا ضحايا قصف إسرائيلي. الكلمات تعكس نظرة الجمال في عين الأم المكلومة لقرة عينيها الذي وافته المنية بالفعل على أثر تهشم رأسه في الاعتداء الغاشم، لتظل صورته في ذاكرتها هو ذلك الملاك الجميل ذو الشعر المجعد "الكيرلي".

فر يوسف من جحيم مقيت للأطفال والكبار إلى سماء عادلة، تاركاً مئات آخرين في حياة لا تعرف للعدل سبيلاً، ملائكة آخرون عليهم الكفاح بأجساد ضعيفة واهنة بين سوء التغذية والعجز الناجم عن فقدان أحد الأطراف وغيرها من الإصابات التي جعلت حياتهم أكثر ألماً وصعوبة، حرمتهم من المرح واللعب مع أقرانهم، فقدوا أطرافهم ومعها فقدوا أحلامهم، وكأن نيران الحرب والهلع المستدام ليس كافياً على أرواحهم الرقيقة، ليطرحهم العالم في بئر من القسوة الصادمة.

مثل يوسف رحل التوأم فرح ومرح حودة (13 سنة)، بعد بتر ساقي الأخت الأولى على أثر إصابتهما في قصف إسرائيلي على بيت العائلة في قرية المغراقة جنوب مدينة غزة، بحسب عمهما الذي تحدث لـ"اندبندنت عربية" عبر الهاتف من غزة. يروي العم محمد حودة لحظات الصدمة التي عاشتها فرح بعد علمها برحيل توأمها وفقدان أطرافها، لترحل هي الأخرى بعد أيام من عملية البتر.

يتذكر العم تلك اللحظات القاسية عندما استهدف صاروخان بيت العائلة، هرع العم لإنقاذ الأطفال بعد سقوط الصاروخ الأول، غطى الحطام مرح وبينما هم العم إخراجها سقط الصاروخ الثاني ليسقط مزيد من الركام ولم يستطع أحد إخراجها، ذهب العم لحمل فرح التي كانت ساقاها متدليتين ونزيف دماء ينفجر منهما، وسرعان ما نقلها إلى المستشفى.

عمليات بتر غير ضرورية

مع اصطفاف مئات الجرحى والمصابين وفقر الإمكانات الطبية، فضلاً عن النقص في عدد الطاقم الطبي، يتم التأخر في تقديم الرعاية الطبية اللازمة أو إنقاذ كثير من الحالات مما يسفر في كثير من الأحيان عن عمليات بتر أعضاء لم تكن ضرورية. ويقول الأطباء في المستشفى الأوروبي في خان يونس إنه لو كان لديهم مزيد من الموظفين والموارد، لكانوا قادرين على إنقاذ بعض الأطراف التي اضطروا إلى بترها. ويقول جراح من مدينة أونتاريو الكندية عاد من مهمة طبية في غزة إن "قلبه وروحه" لا يزالان مع الأطفال في غزة معرباً عن شعوره بالألم لتلك المشاهد القاسية التي كان يمكن تفاديها.

وقال إسماعيل الهمص، كبير الأطباء في المستشفى في تعليقات للصحافة الكندية، إن نظام الرعاية الصحية في غزة "مدمر بالكامل". وأضاف "لاحظت عدداً من المرضى، كان من الممكن عدم بتر أطرافهم لو أمكن علاجهم سريعاً أو كانت هناك الإمكانات المتاحة". وأوضح أنه في بعض الأحيان تكون هناك مضاعفات بعد الجراحة، التي يمكن أن تؤدي أيضاً إلى بتر الأطراف أو الوفاة "كمية الإصابات التي تصل إلى المستشفى هائلة، مما يؤدي إلى تأخير التعامل مع الحالات لأيام بينما نتعامل مع حالات أخرى، بما في ذلك حالات البتر".

ريتال وحيدة في رحلة قاسية

رحل التوأم فرح ومرح تاركين أختهما الصغرى ريتال بإصابة بالغة وبتر وحروق في جسمها النحيل وإصابة في الرأس، وفق العم. تشتت لم الأسرة، فالأب والابن يعالجان في الإمارات من حروق بالغة والأم لا تزال في غزة تتلقى العلاج، بينما سافرت ريتال إلى تركيا لاستكمال العلاج. حرم الأطفال الأربعة من حضن ودعم الأب والأم المصابين، رحل التوأم من دون وداع أسرتهما، وتعالج ريتال وأخاها كل في بلد مختلف من دون دعم نفسي يعينهما على تحمل مصابهما.

وفق منظمة إنقاذ الطفولة، فإن أكثر من 10 أطفال يفقدون إحدى ساقيهما أو كلتيهما في غزة يومياً منذ اندلاع الحرب. ووفق تقرير صادر عن "اليونيسف" في يناير (كانون الثاني) 2024، فإنه منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تعرض أكثر من 1000 طفل لبتر إحدى ساقيه أو كلتيهما، مع إجراء عديد من هذه العمليات من دون تخدير، في ظل شلل نظام الرعاية الصحية في غزة والنقص الكبير في الأطباء والممرضات والإمدادات الطبية مثل التخدير والمضادات الحيوية.

وفي بيان نقلاً عن إحصاءات الأمم المتحدة، قال مدير منظمة إنقاذ الطفولة في الأراضي الفلسطينية جيسون لي، إن "معاناة الأطفال في هذا الصراع لا يمكن تصورها، بل وأكثر من ذلك". وأضاف "إن قتل الأطفال وتشويههم أمر مدان باعتباره انتهاكاً خطراً ضد الأطفال، ويجب محاسبة مرتكبيه".

ووفقاً للمنظمة، فإن الأطفال أكثر عرضة للوفاة بسبب إصابات الانفجارات بنحو سبع مرات مقارنة بالبالغين. وقال لي، "جماجمهم لم تتشكل بعد بشكل كامل، وعضلاتهم غير المتطورة توفر حماية أقل، لذلك من المرجح أن يؤدي الانفجار إلى تمزيق أعضاء في بطنهم، حتى عندما لا يكون هناك ضرر واضح"، داعياً إلى "وقف نهائي لإطلاق النار" والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية والأدوية.

أمضى ألدو رودريغيز، وهو جراح يعمل مع منظمة أطباء بلا حدود، خمسة أسابيع في غزة في نهاية العام الماضي. وكانت معظم حالاته عبارة عن عمليات بتر مؤلمة، مما يعني وصول المرضى إلى المستشفى بأطراف مفقودة بسبب الانفجار، لكنه قال إنه لا يستطيع إخراج مشاهد الأطفال من عقله. ولأول مرة في حياته، اضطر إلى بتر ساق طفل يبلغ من العمر سنة واحدة إلى أعلى الفخذ. وقال "لا أفهم لماذا مريض كهذا... طفل ذو عام أو عامين يعاني بتر ساقه أو ذراعه، وليس مريضاً واحداً أو اثنين فقط. العديد والعديد من الأطفال الذين بترت أطرافهم". يقول الجراح، "كثير من الأطفال" يواجهون جروح الحرب في غزة.. "لقد كان الأمر صادماً حقاً بالنسبة لي".

عمل رودريغيز في عديد من مناطق الحرب، بما في ذلك السودان وأفغانستان واليمن، لكنه قال إنه لم ير قط عدداً كبيراً من الأطفال المصابين كما رآه في غزة. وقال "لقد كان الأمر صادماً حقاً بالنسبة إليّ لأنني لم أر أطفالاً من قبل. فعديد من الأطفال ضحايا الصدمات والحرب".

جراحة من دون تخدير

غزل هي واحدة من أولئك الأطفال الذين يحملون وزر تأثيرات الحرب المباشرة على أجسادهم الصغيرة. فالطفلة ذات الأربع سنوات لم تكد تشق خطواتها الأولى نحو عالم المرح والطفولة حتى تعرض بيتها للقصف في الـ12 من أكتوبر (2023)، لتفقد ساقها اليسرى. وفق القصة التي أوردها موقع "اليونيسف"، فإنه ونظراً لحجم الدمار والمخاوف الأمنية، لم يتمكن الفريق الطبي من الوصول إليها فور الهجوم، فقام طبيب يعيش بالقرب من إجراء عملية جراحية مرتجلة لوقف النزيف في قدمها.

وكما هي الحال في كثير من الحالات الأخرى في قطاع غزة، اضطر الطبيب إلى إجراء الجراحة في ظروف غير ملائمة، ومن دون تخدير بسبب نقص اللوازم والمعدات الطبية. تمكن الطبيب من وقف النزيف، إلا أن قدمها كانت قد تلوثت والتهبت. وأخيراً، وبعد عدة أيام، تمكنت غزل من الوصول إلى مجمع ناصر الطبي في خان يونس. هناك، واجه الفريق الطبي قراراً صعباً ومروعاً "قرار أنه لا مناص من بتر قدم غزل".

تعيش غزل حالياً مع والداتها في قطر حيث تم إجلاؤها لاستكمال العلاج. وتروي الأم أنه أحياناً عندما تقوم غزل من السرير تحاول استخدام ساقها اليسرى المفقودة وتسقط، "مثل هذه اللحظات صعبة". ليس ذلك فحسب، تطوى الطفلة ساق دميتها اليسرى وتجعلها تسير على قدم واحدة، وتقول إنها تشبهها هكذا، بينما تحاول الأم إقناع طفلتها أنها ستحصل على قدم بديلة (صناعية) قريباً.

لا مسكنات ألم

مما يزيد من قسوة المصاب للطفل وعائلته هو نقص الأدوية اللازمة بعد العملية وأهمها مسكنات الألم. ويقول رودريغيز "لم يكن لدينا أي مسكنات للألم ولا مورفين ولا ترامادول ولا دواء للألم... الألم من دون دواء لا يمكن تصوره على الإطلاق".

التعافي من البتر هو عملية طويلة، تبدأ بالجراحة الأولية التي يتم إجراؤها عادة في بيئة معقمة، لكن في ظل توفر المعايير الطبية اللازمة مع انهيار النظام الصحي في غزة، فإن الأطفال الذين يخضعون لتلك العمليات يعانون مزيداً من المضاعفات ويحتاجون إلى مزيد من العمليات الجراحية مستقبلاً.

"لم يعد لدي شيء"

الحياة صعبة للأشخاص العاديين فكيف بأولئك الصغار الذين يواجهون قدرهم بأطراف ناقصة وبطون خاوية، ويزيدها قسوة النبذ المجتمعي. كان مصطفى أحمد شحادة (12 سنة) يجرى ويلعب مع أصدقائه في مدينة جباليا شمال غزة قبل الحرب، لكنه حرم متعة الحياة بعدما فقد ساقه اليمنى في قصف إسرائيلي أصاب منزل عمه عندما كان في زيارة له.

يقول مصطفى في مقابلة مع شبكة "سي بي سي" الكندية، "قبل الحرب، اعتدت اللعب مع أصدقائي (في الحي)... لم أعد أستطيع اللعب بسبب إصابتي. لا أستطيع اللعب ولم يعد لدي أصدقاء ولم يعد لدي أي شيء".

 

 

تلقى مصطفى العلاج في مصر لكنه سرعان ما عاد إلى غزة، وانتهى به الأمر في منطقة رفح الجنوبية، ويقيم الآن مع أخته وزوجها وطفليهما في مخيم موقت. يريد مصطفى العودة إلى منزله لرؤية والديه المحاصرين في الشمال وأصدقائه. ويقول "لا أحد ينظر إليّ. أريد أن يأتي شخص ما ويخرجني من هنا".

يحتاج مصطفى إلى علاج إضافي لساقه، لكن عمه في رفح قال إن نقله إلى مستشفى في خان يونس القريبة كان تحدياً. يأمل مصطفى أن يحصل يوماً على ساق صناعية حتى يتمكن من الجري واللعب كما اعتاد، ويقول "أريد فقط أن أتمكن من المشي مثل الأطفال الآخرين عندما أكبر.. أريد أن أصبح طبيباً حتى أتمكن من مساعدة المرضى والجرحى".

أكبر مجموعة من مبتوري الأطراف

أشارت الإحصاءات من قبل الحرب إلى أن 12 في المئة من الأطفال الفلسطينيين ممن تتراوح أعمارهم بين اثنين و17 سنة يواجهون صعوبة وظيفية واحدة أو أكثر، في حين أن 21 في المئة من الأسر المعيشية في غزة تضم فرداً واحداً في الأقل يعاني من إعاقات جسدية أو ذهنية. وعلى رغم شح البيانات المتاحة في الوقت الحالي، فإن التقديرات تشير إلى ارتفاع كبير في الإعاقات بين الأطفال، وفق منظمة "اليونيسف".

يروي الجراح البريطاني الفلسطيني المعروف غسان أبوستة لمجلة "نيويوركر" قسوة المشاهد في غزة. ويقول "هذه أكبر مجموعة من مبتوري الأطراف من الأطفال في التاريخ".

أمضى أبوستة 43 يوماً في غزة بين شهري أكتوبر ونوفمبر 2023، حيث أجرى عمليات جراحية طارئة مع منظمة أطباء بلا حدود. كان يتنقل بين مستشفيين، الشفاء والأهلي، المعروف أيضاً بالمستشفى المعمداني. كان معدل الإصابات مرتفعاً جداً لدرجة أنه، خلال بعض الفترات الشديدة، لم يغادر غرفة العمليات لمدة ثلاثة أيام. وقال "لقد بدا الأمر وكأنه مشهد من فيلم عن الحرب الأهلية الأميركية". وفي غزة، كان أبوستة يجري ما يصل إلى ست عمليات بتر في اليوم "في بعض الأحيان لا يكون لديك خيار طبي آخر".

ويقول "لقد حاصر الإسرائيليون بنك الدم، لذلك لم نتمكن من إجراء عمليات نقل الدم. وإذا كان أحد الأطراف ينزف بغزارة، كان علينا بتره"، كما أسهمت ندرة الإمدادات الطبية الأساسية بسبب الحصار في ارتفاع عدد حالات البتر، فمن دون القدرة على التعامل مع الجرح على الفور في غرفة العمليات، غالباً ما تظهر العدوى والغرغرينا.

 

 

بينما يعلق أولئك الأطفال آمالهم على الأطراف الصناعية البديلة، فإن الأمر يبدو بعيد المنال في ظل فقر الإمكانات الطبية واستمرار الحرب. وقد دمرت القوات الإسرائيلية المنشأة الوحيدة في غزة لتصنيع الأطراف الاصطناعية وإعادة التأهيل، وهو مستشفى حمد، الذي تم افتتاحه عام 2019.

وتعمل شركة "أوتوبوك"، الشركة الألمانية الرائدة في تصنيع الأطراف الاصطناعية للأطفال، على توفير المكونات اللازمة للأطفال حتى سن الـ16، مع وجود جهات مانحة لتمويل المشروع من خلال مؤسستها.

ومع ذلك، فإن شراء الأطراف الاصطناعية ليس سوى الخطوة الأولى. فوفق أبوستة، "يحتاج الأطفال مبتوري الأطراف إلى رعاية طبية كل ستة أشهر أثناء نموهم". فنظرا لأن العظام تنمو بشكل أسرع من الأنسجة الرخوة ولأن الأعصاب المقطوعة غالباً ما تتصل بالجلد بشكل مؤلم، فإن الأطفال المبتورين يحتاجون إلى تدخلات جراحية مستمرة، وغالباً ما يتطلب كل طرف من ثمانية إلى 12 عملية جراحية أخرى. ولتتبع هذا المسار، يتشاور أبوستة مع "مركز دراسات إصابات الانفجارات في إمبريال كوليدج لندن" و"معهد الصحة العالمية في الجامعة الأميركية في بيروت" لإنشاء قاعدة بيانات للسجلات الطبية حتى يتمكنوا من متابعة هؤلاء الأطفال أينما ذهبوا.

وفيما أوضح المتحدث باسم وزارة الصحة المصرية حسام عبدالغفار لـ"اندبندنت عربية" أن 70 في المئة من المصابين القادمين من غزة ممن يتم علاجهم في المستشفيات المصرية هم من الأطفال، فإنه رفض الرد على الأسئلة المتعلقة بإصابات الأطفال والتأهيل النفسي للتعامل مع حالات بتر الأطراف أو توفير أطراف صناعية.

المزيد من تقارير