ملخص
نشطت حركة الأحزاب في تونس، في فترة ما بعد 2011، في ظل نظام برلماني تنافسي حزبي وصلت فيه الصراعات الحادة إلى حدّ تبادل العنف تحت قبة البرلمان، على حساب مشاغل التونسيين في الرّفاه والتنمية، وضعٌ أدّى إلى انعدام الثقة في المنظومة السياسية الحزبية وباتت النخب بعيدة من التونسيين إن لم نقل في قطيعة معها.
تتشكّل الخارطة الحزبية في تونس من عائلات سياسية كبرى تتفرّع عنها عشرات الأحزاب التي تؤلّف شبكة سياسية متشعبة في قواعدها ومتباينة في توجهاتها، أبرز هذه العائلات السياسية هي العائلة الإسلامية، والأخرى الدستورية، وعائلة اليسار، وكذلك الأحزاب الحداثية الديمقراطية، والأحزاب القومية العروبية، والأحزاب الوسطية الاجتماعية.
وشهدت تونس بعد 2011، طفرة غير مسبوقة في تكوين الأحزاب التي تجاوز عددها 240 حزباً.
نشطت حركة الأحزاب في تونس، في فترة ما بعد 2011، في ظل نظام برلماني تنافسي حزبي وصلت فيه الصراعات الحادة إلى حدّ تبادل العنف تحت قبة البرلمان، على حساب مشاغل التونسيين في الرّفاه والتنمية، وضعٌ أدّى إلى انعدام الثقة في المنظومة السياسية الحزبية وباتت النخب بعيدة من التونسيين إن لم نقل في قطيعة معها.
وهيّأ مناخ الصّراعات الحزبية في المشهد السياسي الظروف للحظة 25 يوليو (تموز) 2021، التي دشّنت مرحلة ضمور دور الأحزاب والأجسام الوسيطة بشكل عام، من خلال القطيعة الجذرية التي أعلنها رئيس الجمهورية قيس سعيّد مع المنظومة السياسية القديمة التي تتكوّن من أحزاب سياسية في الحكم والمعارضة كانت فاعلة في المشهد السياسي من خلال تركيبة البرلمان والحكومة، فماذا بقي من الأحزاب في تونس؟ وهل ما زالت تحظى بثقة التونسيين؟
شهد 2022 و2023 محطات انتخابية هامّة في تونس، وهي الانتخابات البرلمانية والاستفتاء والانتخابات المحلية، وكشفت هذه الاستحقاقات عزوفاً عن المشاركة السياسية من قبل التونسيين، بينما أظهر المشهد السياسي تراجعاً لافتاً لدور الأحزاب في التأطير والتأثير في الناخبين والتعبئة في الشارع، في المقابل، تفاقمت ظاهرة ازدراء النخب السياسية، وترذيل الممارسة الحزبية، والتشكيك في قدرة النخب على إنقاذ البلاد من وضعها الاقتصادي والاجتماعي المتردي.
التآكل الذاتي
ويؤكد الكاتب الصّحافي خالد كرونة أن أهمّ ما يميّز الخارطة الحزبية في تونس اليوم هو "التآكل الذاتي"، فبعد طفرة في تأسيس عدد كبير من الأحزاب قياساً إلى عدد الفاعلين واقعيّاً، انتهى الأمر إلى تحلّل مكونات المشهد الحزبي، وفق قوله.
والمتابع للمشهد السياسي في تونس يلاحظ أن عدداً كبيراً من الأحزاب السياسية نشأت مباشرة بعد 2011، في سياق التعطش لممارسة العمل السياسي من خلال تكوين الأحزاب والجمعيات، بعد أكثر من عشريتين من التصحر السياسي، بحسب الكاتب الصحافي.
ويشدّد كرونة على أن عدداً من الأحزاب السياسية نشأت بشكل سريع، ثم اندثرت بطريقة أسرع مثل "نداء تونس"، الذي أسّسه الرئيس السابق الباجي قائد السبسي، و"تحيا تونس" الذي أسّسه رئيس الحكومة السابق، يوسف الشاهد، وعدد آخر من الأحزاب التي لا يتجاوز عدد المنخرطين فيها بضع عشرات، لأنها كانت نوعاً من ردّ الفعل من جهات نافذة سياسياً واقتصادياً للتحكم في المشهد السياسي ولإعادة رسم خريطة مواقعها على رقعة التحولات المتسارعة التي عرفتها البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتأسّس فكرة الأحزاب على التوجّهات الفكرية والسياسية والثقافية وتُبنى على البرامج والمشاريع، إلا أن الحالة التونسية شهدت ما يعرف بـ"حزب القائد"، و"حزب العائلة"، في غياب تام لأي برنامج سياسي أو اقتصادي حقيقي، وهو ما عمّق القطيعة بين الأحزاب وعموم التونسيين، حسب تقدير خالد كرونة.
في الأثناء، حافظت بعض الأحزاب التي لها امتدادات تاريخية، على تأثير محدود في الشارع السياسي، على غرار الأحزاب الدستورية واليسارية والعروبية والإسلامية، بينما غابت بقية الأحزاب المكونة للمشهد عن الساحة.
ويعتقد الكاتب الصّحافي أن "الساحة السياسية الحزبية باتت اليوم خالية من أيّ عرض سياسي جدّي يمكنه أن يشدّ اهتمام التونسيين وهو ما أثّر على مشاركة الشباب في الحياة السياسية، وعمّق أزمة الثقة في الديمقراطية التمثيلية".
وبالتوازي مع ضمور لافت لدور الأحزاب في الحياة السياسية في تونس اليوم، تراجع دور المنظمات الوطنية على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل ما أفقد الحياة السياسية والمدنية حيويتها.
ويخلُص كرونة إلى أن "استعادة الحياة الحزبية وهجها في تونس، سيحتاج وقتاً طويلاً، وهو رهين مشروع وطني جامع، يلبّي رغبة الأغلبية، ويرسي أسس مصالحة وطنية على أساس قواعد مشتركة تتفق بشأنها مكونات المجتمع السياسي والمدني في تونس".
المحاسبة
في المقابل، يؤكد متخصص القانون ورئيس حزب الائتلاف من أجل تونس، سرحان الناصري أنّ "المنظومة الحزبية السابقة للحظة 25 يوليو (تموز) 2021، خرّبت الحياة السياسية، لأنّها تشكّلت على أساس المصالح الحزبية الضيقة ولم تهتمّ لحال التونسيين وتطلعاتهم في الرّفاه الاقتصادي والاجتماعي".
ويرفض الناصري أيّ "مصالحة سياسية يكون أحد عناصرها المنظومة السابقة، مطالباً بمحاسبتها وبتحميلها مسؤولية الفشل الذي كانت له تداعيات اقتصادية واجتماعية على عموم التونسيين"، ومعتبراً أن "نخبة سياسية جديدة بصدد التشكل في تونس هدفها خدمة التونسيين أينما كانوا والاستجابة لتطلعاتهم في العيش الكريم".
ويتقاسم الكاتب الصحافي والنائب السابق في البرلمان، هشام الحاجي، المقاربة ذاتها معتبراً أن "الأحزاب السياسية التي كانت تتحرّك ضمن النظام السياسي السابق اندثرت من المشهد، وأخذت مكانها أحزاب جديدة، إلا أنها أحزاب وليدة تتلمّس طريقها نحو القدرة على التعبئة والتأثير في التونسيين".
ويرى الحاجي أن "الأحزاب السياسية التي ستسمرّ في المشهد بصرف النظر عن مدى قدرتها على التأثير في الشارع السياسي، هي الأحزاب التي تستند إلى الأيدولوجيا أكثر منها إلى البرامج، وهي العائلة الدستورية ويمثلها خاصة الحزب الدستوري الحر والعائلة المحافظة ويمثلها الإسلام السياسي، وحركة النهضة تحديداً، وكذلك العائلة القومية التي تمثلها مجموعة من الأحزاب".
وفي ظل عدم طرح رئيس الجمهورية، قيس سعيد، لبديل سياسي في شكل حزب أو جبهة وطنية يرجح النائب السابق، إمكانية عودة منظومة الأحزاب السياسية قريباً إلى الساحة السياسية في تونس.
يذكر أن رئاسة الحكومة أعلنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، حلّ 97 حزباً لعدم تقديم تقاريرها المالية منذ عام 2018، من بين 150 حزباً وجهت لها تنبيهات لتسوية أوضاعها المالية بينما أصدر القضاء قرارات بحل 15 حزباً بين عامي 2020 و2022، فيما قرّر 14 حزباً حل نفسه بنفسه.