ملخص
من المهم الإشارة إلى أن نتنياهو يتحرك من أرضية أكثر صلابة في هذا التصعيد من الخصم الإيراني، فالردود الإيرانية المحتملة والتي يطرح بعضهم أنها قد تشمل استهداف سفارة إسرائيلية في الخارج، ستضع إيران في حرج ومشكلات أكبر.
تردد تعبير "خيار شمشون" كثيراً في مراحل عدة من الصراع العربي - الإسرائيلي، وبشكل محدد عندما طرح الخيار النووي في حال نشوب حرب تصل إلى تهديد حقيقي للكيان الإسرائيلي، وظهر ذلك خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، ثم كان يتردد عبر مراحل الصراع للتهديد وردع الخصوم.
لكن الشواهد الراهنة تغرى بالقول إن هذا البعد المغامر، ليس في شقه النووي في الأقل حتى الآن، يسيطر على عقل رئيس الوزراء الإسرائيلي بأكثر من أية مرحلة أخرى، وشاهد ذلك هو التصعيد المتواصل في المواجهة ضد إيران وحلفائها في المنطقة، وأن نتنياهو يتصرف بعقل مغامر، ولكن السؤال الى أي حد ستصل هذه المغامرة؟
تصعيد ليس جديداً
لم تتوقف خطوات التصعيد المتبادل منذ أن أصبحت إيران لاعباً في تفاعلات الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، لكنه لم يتحول إلى مراحل متقدمة إلا خلال الأعوام الأخيرة، وتجاوز توجيه إسرائيل ضربات ضد "حزب الله" اللبناني أو "الحشد الشعبي" العراقي، سواء في لبنان أو الساحة السورية، ولكن كانت تغلب المواجهة الإعلامية واللفظية بأكثر من استهداف أهداف إيرانية مباشرة، حتى كان اغتيال قائد "الحرس الثوري" قاسم سليماني بواسطة أميركية لتجنيب إسرائيل المواجهة المباشرة، لكن هذا لم يُحدث رد فعل إيرانياً مساوياً له في الخطورة والأهمية حتى الآن، وعندما بدأت حرب غزة سارع المحللون والمراقبون إلى اعتبار التحركات العسكرية الأميركية موجهة ضد احتمالات تدخل إيران في الصراع، لكن هذا لم يحدث وشهدنا رسائل إيرانية تترك مسافة بينها وبين هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ثم حرصت إسرائيل على استباق أي استفزاز من "حزب الله" باستفزاز مسبق وكأنها تجرها إلى حرب، ولكن نصرالله أوضح أيضاً أنه لا ينوى مشاركة حقيقية في القتال، مع تطمينات بأن الفصائل الفلسطينية قادرة على المواجهة المنفردة، وكانت هناك أيضاً تلميحات للوضع الداخلي اللبناني ثم تصاعدت المناوشات أخيراً بين إسرائيل و"حزب الله".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن من الواضح أن إخفاق إسرائيل في تحقيق أهدافها بغزة دفعها إلى تسريع وتيرة التصعيد، ومن ثم كان استهداف قادة "الحرس الثوري" وعلى رأسهم محمد رضا زاهدي في دمشق، تصعيداً ملموساً وسط سلسلة أخرى من خطوات التصعيد الإسرائيلي في استباحة الساحة السورية، وتلا هذا سلسلة التهديدات وردود الفعل الإيرانية، سواء من المرشد الإيراني على خامنئي أو من مساعده على شمخاني الذي سارع إلى اتهام واشنطن بالمشاركة، ولكن الأخيرة حرصت من خلال عدد من مسؤوليها على نفي أي دور أو علم لها بما حدث.
وكانت إسرائيل قامت بعملية أخرى كبيرة سابقة ضد مستودع صواريخ لـ "حزب الله" جنوب حلب أسفر عن مقتل 37 شخصاً، وقبلها هجوم آخر في دير الزور أسفر عن مصرع 13 شخصاً بينهم مسؤول آخر كبير في "الحرس الثوري" الإيراني.
المنطق الإسرائيلي
عندما بدأت الحرب الراهنة في غزة سادت التحليلات بأن إسرائيل ستُبقي على مستوى التوتر في الجبهات الأخرى منخفضاً ما دامت الأطراف الأخرى ستلتزم بذلك، ورجح هذا الاحتمال ردود الفعل الإيرانية ومن حلفائها كذلك، فضلاً عن تماشي هذا مع افتراضات بعضهم أن واشنطن لا تريد توسيع الصراع بما قد يؤدى إلى تهديد نفوذها ووجودها في المنطقة، وكان التفسير الفوري للتحركات العسكرية الأميركية في أكتوبر 2023 أنها تود طمأنة إسرائيل ومنعها من الإقدام على خطوة توسيع الصراع مع إيران، وهو ما تحقق بدرجة ملحوظة حلال شهور الحرب الأولى.
وبالسرعة نفسها الآن برزت التعليقات والتفسيرات المنطقية بأن تعسر نتنياهو في غزة وعدم القدرة على الحسم حتى الآن وتعقيدات رفح، وكونه لا يعبأ سوى بعدم فقد وظيفته وبدء محاكمته بتهم الفساد التي تنتظره منذ أعوام، هي التي تدفعه إلى هذا التصعيد وتفضيل سيناريو مواجهة شاملة تزيد خلط الأوراق في المنطقة، وقد تجبر واشنطن على التدخل.
على أنه من المهم الإشارة إلى أن نتنياهو يتحرك من أرضية أكثر صلابة في هذا التصعيد من الخصم الإيراني، فالردود الإيرانية المحتملة والتي يطرح بعضهم أنها قد تشمل استهداف سفارة إسرائيلية في الخارج ستضع إيران في حرج ومشكلات أكبر، بخاصة أن الساحة السورية ينظر إليها كساحة صراع في دولة لا يملك أحد السيطرة على كل أراضيها، بينما سيسبب تنفيذ هذا الهجوم في عاصمة ما صديقة أو غير ذلك إحراجاً لطهران.
كما أن اغتيال قيادات إسرائيلية، على رغم صعوباته، سيضطر الوكيل "حزب الله" أو "الحشد الشعبي" إلى القيام به وسيفضي أيضاً إلى توسيع الضربات الإسرائيلية في لبنان وجر "حزب الله" إلى مواجهة أوسع لا تريدها الدولة اللبنانية، وهو نفسه ما سيحدث عندما يطلق "حزب الله" وابلاً من الصواريخ من الأراضي اللبنانية.
من ثم فإن أفضل خيارات طهران إذا لم تكن ترغب في مواجهة واسعة أيضاً هي اتخاذ خطوات أسرع في برنامجها النووي للوصول إلى الردع النووي الذي يمثل قمة مخاوف إسرائيل وإستراتيجيتها منذ أعوام، وسيعني في حال استهدافه إذا نجح هذا الوصول إلى الحرب الشاملة وانفجار عملاء إيران قبل أن تفقد كل أوراقها كلاعب إقليمي، بخاصة وأنه من الواضح أن عجز إيران وحلفاءها عن أية ردود فعل جوهرية على خطوات التصعيد الإسرائيلية قد كشف كثيراً من الثغرات في المشروع الإيراني، كما أنه يمس بوضوح هيبتها وهيبة وكلائها في المنطقة.
نتنياهو المغامر
مراجعة المشهد الكامل في هذه الحرب وخطوات نتنياهو التصعيدية تشير إلى أن بعض هذه الحسابات رشيدة ومحسوبة بشكل جيد، وطالما ستنحو طهران باتجاه ردود فعل محسوبة فستجد خياراتها ضيقة وليست برحابة خيارات إسرائيل في التصعيد ضدها، وتحركها الأخير للشكوى أمام مجلس الأمن سيعرقله الـ "فيتو" الأميركي الذى يواجه العالم دفاعاً عن إسرائيل، ولا تحظى الاعتداءات ضد إيران بالتعاطف الدولي المتصاعد حالياً حول غزة، وربما لن يبقى لطهران سوى عمليات من الأراضي السورية تذكّر المنطقة والعالم بما آلت اليه أحوال هذا البلد من استباحة ومعاناة.
ومع ميلنا إلى استنتاج أن مساحة المغامرة في التصعيد الإسرائيلي موجودة وإن كانت أقل مما تبدو للوهلة الأولى، ففي الوقت نفسه هي انعكاس لإدراك متزايد من إسرائيل بأنها تخفق في تحقيق أهدافها في حرب غزة، صحيح أنها نجحت في تدمير غزة وجعل الحياة شبه مستحيلة إن لم تكن كذلك، ولكن بمواصلتها لهذه الحرب تفقد الدعم الأميركي بشكل متزايد، وخطواتها التي تقربها من تحقيق الأهداف التي تتخيلها، أي اقتحام رفح، قد تعود عليها بخسائر كبيرة دولياً وأميركياً، وقد اكتشف نتنياهو أيضاً أنه في مقابل كل هذا أصبح النداء الدولي أكثر جدية في شأن الدولة الفلسطينية، وهو الخيار الذى بذل سنوات عمله السياسي لإضعافه وإنهائه، ولكن تظل المشكلة قائمة مع هذه التركيبة العقلية لنتنياهو متمثلة في أن خيارات المغامرة غير المحسوبة قد تقفز إلى السطح بقوة مع توالي مظاهر الإخفاق والانكشاف، أو تؤدي إلى ذلك أيضاً التداعيات وردود الفعل المتبادلة، فالتاريخ يعلمنا أن الخيط رفيع في هذا الصدد.