المتجول في عدد من مدن وشوارع تونس العاصمة، وحتى في بعض المدن الأخرى يلاحظ بالتأكيد كميات كبيرة من بقايا الغذاء والخبز ملقاة على قارعة الطرق أو في "المزابل" في وقت تعرف فيه البلاد أزمة اقتصادية جسمها النقص الحاد في توفر المواد الأساسية.
وعلى رغم شح المواد الأساسية، وخصوصاً الغذائية منها وأثقال موازنة الدعم، يتجرأ التونسيون على إلقاء مئات من الكيلوغرامات من الأغذية والخبز غير عابئين بمدى خطورة اللامبالاة وعدم وعيهم بعملية هدر الغذاء في بلد أنهكته الازمات الاقتصادية والمالية.
موقع محوري للدعم
ومع إعداد كل موازنة يتوجه الاهتمام في تونس إلى مسألة الدعم والجدل حول إمكانية التقليص من حجم الدعم، خصوصاً في المواد الأساسية الغذائية مما يزيد من الضغط على الحكومات التي تجد نفسها مجبرة على الإبقاء على حجم كبير من الدعم.
وستبقي تونس على نفقات الدعم المخصصة للغذاء والمحروقات، وهي خطوات معاكسة تماماً لطلبات صندوق النقد الدولي التي قوبلت برفض قاطع من الرئيس التونسي قيس سعيد، إذ قال إنها تهدد السلم الأهلي في البلاد.
ورصدت موازنة الدولة لسنة 2024 دعماً للمواد الأساسية بقيمة 3591 مليون دينار (1158.3 مليون دولار) بنسبة 19 في المئة من إجمالي نفقات الموازنة و23.1 في المئة من إجمالي إيرادات الموازنة و6.5 في المئة مــن الناتج المحلي الإجمالي.
سلوك محير
وترتفع وتيرة تبذير الغذاء في تونس في شهر رمضان، إذ تبلغ أوجها بسكب مئات من الكيلوغرامات من الأكل في المزابل على قارعة الطرق أو في أكياس بلاستيكية مكدسة إلى جانب حاويات الفضلات التي امتلأت بطريقة تدل على أن سكان تونس ميسوري الحال إلى درجة أنهم يتخلصون من أكلهم بطريقة غريبة.
وقال المواطن سليم الحذيري إن ظاهرة هدر الغذاء في تونس باتت لافتة وتثير الاستغراب، مضيفاً أن "ذلك يدل على وجود انفصام لدى التونسيين"، موضحاً من جانب يتذمرون من فقدان المواد الأساسية الغذائية على غرار "الفارينة" والمعجنات إلى درجة الغضب على السلطة الحاكمة التي عجزت عن توفير أبسط الحاجات، بينما من جانب آخر يلقون بقايا الأكل والخبز في المزابل وعلى قارعة الطرق بكميات كبيرة، مستنكراً في حديثه إلى "اندبندنت عربية" معتبراً هذا السلوك غير حضاري وينم عن عدم وعي بمسالة عواقب التبذير.
وتابع الموظف الخمسيني والأب لثلاثة أطفال أنه مع غلاء المعيشة صار يقتني الخبز بحسب أعداد أفراد أسرته لتفادي هدر الأكل قدر الإمكان، مشدداً على أنه مع قرار زيادة أسعار المواد الأساسية، خصوصاً الخبز لكبح التبذير، موضحاً أن رفع الأسعار قد يدفع عموم التونسيين إلى التفكير جدياً في وقف هدر الخبز، مشيراً إلى أن سعر الخبز في تونس يعد زهيداً يبلغ سعره الحقيقي للخبز كبير الحجم من دون دعم 465 مليماً للخبزة الواحدة (150 سنتاً من الدولار)، ويباع للمستهلك بسعر 230 مليماً، فيما تباع "الباقات"، وهي وحدة الخبز الأقل حجماً بـ190 مليماً مقابل سعر حقيقي بـ274 مليماً (88 سنتاً من الدولار).
تونس الثالثة أفريقياً في هدر الغذاء
في غضون ذلك، حلت تونس في المرتبة الثالثة في أفريقياً في مؤشر هدر الغذاء، بحسب ما أفاد تقرير هدر الأغذية الصادر حديثاً عن البرنامج البيئي للأمم المتحدة، إذ حلت في تلك المرتبة بمعدل هدر 172 كيلوغراماً لكل فرد، خلف تنزانيا بمعدل 245 كيلوغراماً لكل فرد في المرتبة الأولى، ثم مصر بمعدل 207 كيلوغرامات لكل فرد في المرتبة الثانية.
ووفقاً للتقرير، تقدمت تونس على البلدان التي تفوقها مساحة في أفريقيا من حيث الطعام الذي يذهب إلى الفضلات، ومنها ليبيا التي لا يتجاوز فيها مستوى الهدر 84 كيلوغراماً للفرد الواحد، وأيضاً جنوب أفريقيا التي لا يتجاوز أقصاها 134 كيلوغراماً، ويمكن أن يصل فقط إلى ثمانية كيلوغرامات فحسب في بعض محافظاتها، في حين تقدمت تونس في التصنيف على كل من نيجيريا وكينيا والسنغال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال تقرير برنامج الأمم المتحدة، الصادر في مارس (آذار) الماضي، إن "الغاية من نشر إحصاءات حول الهدر العالمي للغذاء، هو قياس هدر الطعام، مما يمكن البلدان من فهم حجم المشكلة، ومن ثم منح الفرصة لتدارك هذه الظاهرة".
ويقدم التقرير التقدير العالمي الأكثر دقة في شأن هدر الأغذية في مرحلتي البيع بالتجزئة والاستهلاك، إلى جانب إرشادات للبلدان في شأن تحسين جمع البيانات، ويقترح أفضل الممارسات في الانتقال من قياس مقدار هدر الأغذية إلى الحد منه.
مطالب بتحسين الجودة
في تلك الأثناء، يبرر جانب كبير من التونسيين هدر الغذاء خصوصاً الخبز بسوء جودته المتأتية من أبرام صفقات دولية تقوم بها تونس لاقتناء مادة الفارينة المعدة لتصنيع الخبز، والتي تكون عادة ذات جودة متدنية لسعرها الزهيد في الأسواق العالمية.
وتتصاعد المطالب بالتسريع في تحسين جودة الخبز المدعم في تونس لمكافحة هدر الغذاء الذي يسبب خسائر فادحة لموازنة الدولة، وكشفت بيانات لدراسات محلية عن هدر قياسي للغذاء والخبز في تونس، يصل إلى حدود 46 في المئة من الاستهلاك اليومي للأسر لهذه المادة الحيوية، إذ يجري يومياً يجري القاء أكثر من 900 ألف خبزة (رغيف) في الحاويات خلال شهر رمضان، أي ما يعادل 27 مليون خبزة خلال شهر الصيام، وهو ما يسبب فقدان 373.7 مليون ليتر من المياه يومياً التي تستعمل في كامل مراحل إنتاج الخبز.
ووفق دراسة لمعهد الوطني للاستهلاك (حكومي) فإن قيمة إلقاء الخبز غير المستعمل، والذي يتم إلقاؤه في الحاويات أو المزابل يصل إلى أكثر من 100 مليون دينار سنوياً (32.2 مليون دولار) ما يمثل خسائر فادحة في منظومة تصنيع الخبز في البلاد.
ويرى رئيس منظمة إرشاد المستهلك (مستقلة) لطفي الرياحي أن "هدر الغذاء، ولا سيما الخبز، أصبح أمراً مقلقاً في تونس التي تعاني تواتر سنوات الجفاف وارتفاع كلفة توريد الحبوب"، مقراً بأن رداءة نوعيات الخبز المعروضة من أبرز أسباب الهدر، مطالباً بالاشتغال على تحسين الجودة من أجل الحد من الظاهرة المكلفة.
وأكد في تصريح إلى "اندبندنت عربية" أن رداءة نوعية الخبز من بين أسباب الهدر وعدم سعي الأسر لتدوير الكميات الزائدة على الحاجة، مشدداً على ضرورة المرور سريعاً إلى تنفيذ مشروع طرح الأصناف الجديدة الذي أعلنته السلطات قبل أشهر.
ويتوقع الرياحي أن يساعد طرح الخبز المعزز بالألياف على تقليص الهدر، مؤكداً أن جودة الخبز تساعد على تدويره وتقسيط الاستهلاك والاحتفاظ به لمدة أطول.
يشار إلى أن وزارتي التجارة والفلاحة (الزراعة) أعلنتا منذ نهاية العام الماضي الاستعداد لطرح أنواع جديدة من الخبز المعزز بالألياف في إطار خطة لمكافحة المضاربة في الدقيق وإنهاء أزمة التموين التي يعانيها التونسيون منذ أشهر.
ويرى الرياحي أن تعديل أسعار الخبز يمكن أن يكون حلاً للحد من هدر الخبز، مشدداً على أهمية الاشتغال مستقبلاً على عامل الجودة على مستوى الصناعة والمادة الأولية. ووفق بيانات رسمية لمعهد الاستهلاك الحكومي ترتفع نسبة هدر الأسر للخبز خلال شهر رمضان إلى أكثر من 45 في المئة.
وعاشت تونس في الأشهر الماضية أزمة توريد الخبز المدعم الذي تراجع عرضه في مناطق عدة مع تواصل الصعوبات في حصول المواطنين على أنواع عدة من المواد الأساسية الأخرى على غرار الزيت النباتي المدعم والسكر والفارينة والمعجنات.