ملخص
تكنولوجيا العمل عن بعد ظهرت وتنامت وستبقى في المستقبل المنظور، فتأثيرات هذه التكنولوجيا أصبحت تمس عدداً من القطاعات سلباً أو إيجاباً وبصورة غير مسبوقة، حتى أصبح بالإمكان الاستدلال بها كمؤشر مبكر لاتجاهات أسواق العقار والاقتصاد ككل.
أصبح من الممكن للمتابع الدقيق لنتائج أرقام شركات وأدوات العمل عن بعد أن يحصل على مؤشر مبكر لتغييرات قادمة في سوق العمل والعقار والاقتصاد بأسلوب لم يكن متاحاً من قبل، فمبيعات برمجيات العمل عن بعد يمكن اعتبارها مؤشراً استباقياً مفيداً للاقتصاد وسوق العقارات، لأن الطلب المتزايد على هذه البرمجيات يعكس التحولات الكبرى في بيئات العمل.
وينعكس ذلك على عدد من مؤشرات الأسواق والعقار والاقتصاد مثل معدل البطالة والإنتاجية، وعلى المدى الطويل الناتج المحلي بصورة غير مباشرة، وكذلك معدلات إشغال العقارات في المدن المركزية وبعض أسهم الشركات في قطاعات مثل البرمجيات التكنولوجية والتجارة الإلكترونية والنقل والمواصلات والمطاعم.
تأثير جائحة كورونا
عندما أعلنت الشركة الأميركية "زووم" لاتصالات الفيديو نتائجها المالية للربع الرابع من عام 2020، سجلت إيرادات تصل إلى 882 مليون دولار، بزيادة قدرها 369 في المئة مقارنة بالعام السابق، وهذه النتائج جاءت مع تبني الشركات لحلول العمل عن بعد بصورة متزايدة بعد الجائحة.
وقابله انخفاض في طلب العقارات التجارية في نيويورك بنسبة 25 في المئة في 2020 مقارنة بعام 2019، وارتفعت معدلات الشواغر في مانهاتن إلى 15.1 في المئة، وهي أعلى نسبة منذ 24 عاماً.
وفي أوائل عام 2024 أعلنت "زووم" نتائج أرباحها للربع الأول من العام، إذ ارتفعت إيراداتها بنسبة 40 في المئة مقارنة بالعام السابق، وجاء في التقرير أن هناك زيادة كبيرة في عدد مستخدمي المنصة، بسبب استمرار تبني نمطي العمل عن بعد والهجين من الشركات، وقلل ذلك من الحاجة إلى السفر لعقد الاجتماعات التجارية، ونتيجة لهذا الإعلان انخفضت أسهم شركات الطيران مثل "دلتا إيرلاينز" و"يونايتد إيرلاينز" بنسبة ثمانية في المئة في غضون يومين.
وشهدت شركات الفنادق الكبرى مثل "ماريوت هيلتون" انخفاضاً في قيمة أسهمها بنسبة خمسة في المئة، إذ كانت تعتمد بصورة كبيرة على حجوزات الأعمال التي تقلصت بسبب الاعتماد على الاجتماعات الافتراضية.
تأثيره في الخليج
وتقول المتخصصة في الموارد البشرية نادية الموسوي "تبنى عدد من الشركات في دول مجلس التعاون الخليجي نماذج العمل عن بعد والهجين، خصوصاً الشركات الكبرى ومتعددة الجنسيات".
لقد أدركت هذه الشركات قيمة هذه النماذج، خصوصاً في تعزيز الإنتاجية والحفاظ على استمرارية الأعمال خلال فترة الجائحة، وأصبحت نماذج العمل الهجين هي القاعدة الجديدة في عدد من القطاعات، مما يسمح للموظفين بالتناوب بين العمل في المكتب والعمل عن بعد.
وبحسب الموسوي استمر استخدام هذا النموذج بعد الجائحة، خصوصاً في القطاعات القائمة على المعرفة مثل التكنولوجيا والاستشارات والخدمات المالية، إذ تتطلب هذه القطاعات مهمات يمكن إدارتها عن بعد مثل التعاون الرقمي والتحليل وإدارة العملاء، من جهة أخرى كانت القطاعات التي تعتمد على الأدوار الميدانية مثل التصنيع والخدمات أبطأ في التكيف مع هذه النماذج، على رغم تحول بعض الأدوار الإدارية في هذه القطاعات إلى العمل الهجين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف متخصصة الموار البشرية "أجرينا استبياناً لعدد من الشركات في المنطقة أظهر أن أكثر من نصف الشركات تطبق النموذج الهجين، بينما تواصل نحو ثلث الشركات اتباع النموذج التقليدي القائم على العمل من الموقع، أما نسبة 17.7 في المئة من الشركات فتطبق العمل عن بعد، وبين الاستبيان أيضاً أن ثلثي الشركات يسمحون لبعض الوظائف بالعمل الهجين أو عن بعد، بينما يسمح الثلث المتبقي لجميع الموظفين باستخدام هذه النماذج".
وتابعت الموسوي "على رغم ذلك يختلف تنفيذ العمل عن بعد والهجين عبر القطاعات، ففي حين أن قطاعات التكنولوجيا والمالية والاستشارات تدعمه بصورة أكبر، تجد القطاعات الأخرى مثل التصنيع والتجزئة والرعاية الصحية صعوبة أكبر في تطبيق هذه النماذج نظراً إلى الحاجة إلى الحضور الفعلي، ويكتسب العمل الهجين جاذبية متزايدة في المنطقة، خصوصاً في القطاعات التي تتمتع بمرونة أكبر لتطبيق هذه النماذج".
ارتفاع الإنتاجية
بحلول نهاية عام 2021 تجاوز عدد مستخدمي "ميكروسوفت تيمز" 270 مليون مستخدم نشط شهرياً، وهذا الانتشار الواسع ساعد الشركات في تبني نموذجي العمل عن بعد والهجين.
ووفقاً لتقارير "ميكروسوفت" زادت إنتاجية الفرق العاملة عن بعد بنسبة 23 في المئة في بعض القطاعات، وأدى هذا إلى تقليل الشركات لعدد الموظفين في المكاتب بنسبة 20 أو 30 في المئة في 2022، خصوصاً في قطاع التكنولوجيا.
وتشير نادية الموسوي إلى أن "الهدف الأساس لصاحب العمل هو تحقيق الربحية من خلال تقديم منتجات أو خدمات ذات جودة عالية وتسريع العمليات وتقليص التكاليف، لذا فإن تبني نماذج العمل عن بعد والهجين يعتمد على طبيعة القطاعات التي يمكنها بسهولة تنفيذ هذه النماذج مثل التكنولوجيا والاستشارات، وتجد في العمل عن بعد فرصة لزيادة الإنتاجية وخفض التكاليف".
ووفقاً لدراسة من جامعة ستانفورد، فإن الموظفين الذين يعملون من المنزل أظهروا زيادة في الإنتاجية بنسبة 13 في المئة بسبب تقليل الانقطاعات، والوقت المستغرق في التنقل، والقدرة على العمل في بيئة مريحة.
ويشير تقرير صادر عن "ماكينزي أند كومباني"، وهي شركة استشارات أميركية، أن العمل عن بعد يمكن أن يقلل بصورة كبيرة من التكاليف المرتبطة بالإيجارات والمرافق، خصوصاً في المدن الكبيرة، إذ ترتفع كلفة الإيجارات، وفقاً للتقريرد فإن الشركات التي تتبنى العمل عن بعد يمكن أن تقلل نفقاتها التشغيلية الإجمالية بنسبة تتراوح بين 20 و25 في المئة.
العمل عن بعد لا يساعد فقط في توفير تكاليف الإيجارات والنقل، ولكنه أيضاً يسهم في تحسين الكفاءة التشغيلية وتقليل التكاليف اللوجستية، ويساعد في تقليل استهلاك الكهرباء للشركات وخدمات التنظيف والصيانة.
المكاتب المشتركة
مع تزايد عدد الموظفين الذين يعملون عن بعد أصبح بإمكان الشركات توفير مساحات كبيرة من مكاتبها المستأجرة، وبالتالي خفض المصاريف الشهرية على نحو ملموس، وأدى ذلك أيضاً إلى زيادة الطلب على المساحات المكتبية المشتركة، مما يعد تغييراً رئيساً في السياسات التأجيرية للشركات، إذ كانت الفكرة من إنشائها هو تأجيرها على المبادرين والشركات الناشئة.
وتوقعت شركة الأبحاث والاستشارات "جارتنر" في تقرير لها نشر في نوفمبر (تشرين ثاني) أن 40 في المئة من الشركات ستتحول إلى استخدام مساحات مشتركة بحلول عام 2025، مع توقعات بأن يكون أكثر من نصف المساحات المكتبية مشتركة بحلول عام 2030.
وسيؤثر ذلك أيضاً في الشركات التي تقدم الخدمات للمكاتب وإدارة المرافق، إذ إن الطلب على خدمات التنظيف والصيانة انخفض بصورة كبيرة بسبب تقليل الحاجة إلى المكاتب الفعلية، مما أثر في العاملين في هذه القطاعات.
حجم التأثير في العقار السكني
في المقابل شهد الطلب على العقارات في الضواحي والمناطق الريفية ارتفاعات ملاحظة، إذ أصبح الموظف الذي يتاح له العمل عن بعد يفضل الابتعاد عن صخب المدينة والعيش في الضواحي والمناطق الريفية، إذ يمكنه الاستمتاع بالمساحات الخارجية الأكبر، حتى لو تطلب ذلك زمناً أطول للتنقل لمكاتب الشركة في حالات العمل الهجين.
وبهذا الخصوص يقول الرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك" لاريس فنك "العمل عن بعد أدى إلى زيادة هائلة في الطلب على العقارات في الضواحي والمناطق الريفية، الأشخاص يفضلون الابتعاد من المدن الكبرى، مما يزيد ضغط الطلب على تلك المناطق، ويغير الديناميكية التقليدية لسوق العقارات".
وفي دراسة حديثة من شركة "ماكينزي آند كومباني" الأميركية توقعت الدراسة أن يستمر التحول نحو العمل عن بعد في تغيير أنماط السكن على المدى الطويل، إذ يفضل 30 إلى 40 في المئة من الموظفين العيش في مناطق ذات تكاليف معيشة أقل بعيداً من المدن الكبيرة، مما يسهم في زيادة الطلب على المنازل في الضواحي والمناطق الريفية.
هذه المؤشرات ليست طارئة، ولم يعتد سوق العقار التقليدي عليها، وسيحتاج سوق العقار سنوات إلى التصحيح والتأقلم مع التغييرات التي سببها العمل عن بعد.
تصاميم المنازل تأثرت من خلال تطويرها لتصبح ملائمة للعمل عن بعد، أصبحت هناك تغييرات محددة يطلبها الأشخاص لضمان توفير بيئة مريحة وإنتاجية، ومن التغييرات الرئيسة التي تطلب في المنازل الريفية لتلبية احتياجات العمل عن بعد تصميم مساحات المخصصة للعمل، مثل غرف المكتب الخاصة أو حتى مساحات عمل مزدوجة، إذ أصبحت ضرورة لكثير من الأشخاص، فالأشخاص الذين يعملون عن بعد يفضلون وجود مساحات منفصلة عن بقية أجزاء المنزل لتوفير بيئة مناسبة للتركيز والخصوصية في المنازل الريفية، كما أن إضافة طبقات من العزل الصوتي في الجدران والأبواب أصبح أمراً مطلوباً بصورة متزايدة.
وفي العقارات السكنية الأصغر يتم تصميم المنازل بحيث تكون المساحات الداخلية مرنة، وتسمح بإعادة ترتيب الأثاث بسهولة بحسب الحاجة للعمل عن بعد، وهذه المرونة في التصميم تتيح للأشخاص تحويل غرف النوم أو مناطق الجلوس إلى مكاتب عند الحاجة، إذ أصبح الموظفون يستثمرون في تحسين بيئة العمل من المنزل بشراء قطع المكاتب المنزلية والكراسي المريحة والأجهزة الإلكترونية كشاشات الكمبيوتر والطابعات وحتى الأجهزة الذكية مثل المساعدات الرقمية كـ"غوغل هوم" و"أمازون إيكو"، التي تتيح للمستخدمين التحكم في بيئتهم المنزلية بسهولة، هذه الأجهزة ساهمت في زيادة الإنتاجية من خلال الأوامر الصوتية وتنظيم المواعيد.
كما أن البنية التحتية الرقمية أصبحت جزءاً أساسياً من متطلبات أي منزل يستخدم للعمل عن بعد، ففي المناطق الريفية أصبح تحسين الاتصال بالإنترنت عالي السرعة، بما في ذلك الألياف الضوئية أو الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية، من الأولويات لضمان اتصال سريع ومستقر للاجتماعات عبر الإنترنت والأعمال اليومية، إذ أفادت زيلو بأن أسعار المنازل في المناطق الريفية التي تحتوي على بنية تحتية رقمية قوية ارتفعت بنسبة 10 إلى 15 في المئة خلال العامين الماضيين.
وشهدت بعض المناطق زيادة في الطلب بنسبة تصل إلى 30 في المئة في بعض الأحيان، ولضمان عدم تعطل العمل عن بعد، بدأ عدد من المنازل الريفية بدأت في دمج أنظمة طاقة احتياطية مثل المولدات أو أنظمة البطاريات والطاقة الشمسية لضمان استمرارية العمل حتى في حالة انقطاع التيار الكهربائي.
هذه التغييرات أصبحت شائعة جداً في المنازل الريفية نتيجة لزيادة العمل عن بعد والعمل الهجين، وغيرت من شكل المناطق الريفية للأبد.
ويرى الخبير والمستشار في التخطيط العمراني والتكنولوجيا نبهان النبهان أن "التأثير ناتج من أن العمل دخل البيت من الباب الواسع وهو باب العمل عن بعد والعمل الهجين، وبذلك نافس بقية الوظائف التقليدية للبيت على المساحات المكانية لكل وظيفة، فالإنسان يمكنه أن يعمل غرفة النوم أو حتى من سريره، وكذلك الحال مع بقية الغرف والمساحات بالمنزل".
وأضاف النبهان "الشرط الوحيد هو تحقق إمكان الربط والاتصال مع مكان العمل أياً كان موقعه، والتنافس الآخر هو على الوقت وتقسيمه بين العمل عن بعد وبقية الأنشطة البشرية الأخرى".
وأكد المستشار في التخطيط العمراني والتكنولوجيا "من يعمل عن بعد أو بأسلوب العمل الهجين في حاجة إلى تنظيم الزمان والمكان في الحيز الذي يسكنه، فبدأت أفكار مثل مكتب المنزل هي من الأنشطة التي يجب أن تدخل في التخطيط والتصميم للمنزل مع كل المتطلبات الواجب توافرها للمكتب من اتصال أو طباعة بأنواعها وكذلك من حاسبات ووسائل تخزين وتوصيلات كهربائية وأجهزة مساندة، وكل ذلك يؤثر بصورة جذري ومباشرة في التخطيط والتصميم وحتى في اختيار موقع المسكن".
وبناء على هذه المتغيرات، انتشرت ظاهرة مراكز العمل المشترك في المجمعات السكنية مع تصاعد العمل عن بعد.
وهذه المراكز توفر بيئات عمل مرنة ومجهزة تقنياً، مما يجعلها بديلاً عملياً للمكاتب التقليدية والعمل من المنزل، كما تسهم في تعزيز التفاعل الاجتماعي بين السكان وتزيد جاذبية العقارات، مما دفع شركات كبرى إلى دمجها كجزء من تصميم المجمعات الحديثة في مدن مثل دبي ونيويورك.