Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مآسي الحرب الأهلية الصومالية تختصرها ثلاث نساء

 نظيفة محمد ترصد وقائع الصراع الدموي بين النظام والمنشقين في رواية "بستان الأرواح الضائعة"

صوماليون نازحون خلال الحرب الأهلية في بلادهم (أ ف ب)

ملخص

تستعيد الروائية الصومالية البريطانية نظيفة محمد، في روايتها "بستان الأرواح الضائعة" التي صدرت حديثا بالترجمة العربية، مشهداً مأساوياً مؤثراً عن دولة الصومال خلال الحرب الأهلية التي شهدتها في ثمانينيات القرن الماضي ، وسقط خلالها عشرات الآلاف من الضحايا من كل الاعمار. تسرد  نظيفة محمد هذه الأحداث من خلال ثلاث نساء، عانين الفقر والذل والنزوح، في وسط الحرب الدائرة بين النظام الحاكم والجماعات العسكرية المنشقة والمتمردة، الساعية إلى إطاحته والانقلاب عليه.

ترسم رواية "بستان الأرواح الضائعة" للكاتبة البريطانية من أصل صومالي، نظيفة محمدNadifa Mohamed الصادرة حديثاً في ترجمة عربية انجزها عن الإنجليزية سمير محفوظ بشير (المركز القومي للترجمة) صورة مأساوية لدولة الصومال في ظل حرب أهلية راح ضحيتها عشرات الآلاف. تتقاطع في أحداث الرواية عوالم ثلاث نساء بأعمار مختلفة في أوج الحرب الدائرة رحاها بين نظام الحكم والجماعات العسكرية التي تسعى للإطاحة به في ثمانينيات القرن الماضي. تمضي أحداث الرواية في خطين متوازيين لا يمكن الفصل بينهما سوى نظرياً. الأول يتعلق بالاضطرابات السياسية العنيفة التي عصفت بالشعب الصومالي في تلك الفترة، والثاني يتمثل في انعكاس هذه الأحداث على حياة كل من المرأة الخمسينية "كوثر"، والمجندة الثلاثينية في الجيش الصومالي "فلسان"، والطفلة اليتيمة ذات العشرة أعوام "ديكو"، بعوالمهن المأساوية المغموسة في أشكال شتى من القهر والحزن والفقد والشعور بالوحدة. تتشابك عوالم أولئك النسوة في مظهر متوتر وعنيف في البداية لتعود في النهاية إلى الاتصال، لكن هذه المرة في تواؤم هربًا من الجحيم الذي صنعته أحداث العنف التي جعلت البلد غير صالح للعيش فيه. بلد يعاني سياسيّاً، فضلاً عن معاناته من الجفاف تارة، والفيضانات تارة أخرى، حتى أن الأمر يبدو "كأن الصوماليين ليس عليهم سوى توقع المصائب وخيبة الأمل دومًا" ص 165.

يكشف الخط الأول الكوارث التي تسبّب فيها الانقلاب العسكري الذي قضى على الحياة الديمقراطية في البلاد عام 1969، وغير اسمها إلى "جمهورية الصومال الديمقراطية". هلَّل له كُثر بدعوى أنهم يفضلون الحكم العسكري على الفوضى التي تُحْدثها الديمقراطية. ذلك النظام بدأ طريقه بالحروب مع الجارتين، كينا وإثيوبيا، ومع هزيمته العسكرية استدار إلى الداخل، لينكل بالصوماليين. قصفت الدبابات بيوت الآمنين الذين فرض النظام العسكري عليهم حظر تجوال بدءاً من الرابعة عصراً، أخذ سرق الأطفال من أِضانِ أمهاتهم ليزج بهم في أتون الحرب.

الإعدامات الجائرة

ومع الهجمات الإرهابية لمنظمة ثوار NFM على بلدتي "شيخ" و"وابوراعو" التي جرت في عام 1984 باتت المحاكم العسكرية تصدر أحكامها على العسكريين والمدنيين على حد السواء، بالإعدام، فيما كان الحاكم العسكري لمدينة هرغيسا ويدعى ماجان، يأمر بإعدام المئات من السكان بدون محاكمة. حكم، على سبيل المثال، بالإعدام على عشرة أطباء لأنهم نظموا حركة لتنظيف وتطهير المستشفيات، فأظهروا أن الحكومة غير كفء. وحين قامت تمظاهرات احتجاجاً على هذا الحكم الظالم جرى قتل العديد من المتظاهرين، وذلك بخلاف الإعدامات الميدانية التي تجري في الشوارع على أيدي الجنود من دون إجراء أي محاكمة. كانوا يقتلون النساء والشيوخ وكل ما تقع عليه أعينهم بمجرد الشك وبلا أي تدقيق. وقد يكون حال هؤلاء الذين قتلوا بوحشية مباشرة أفضل من السجناء المنسيين في زنازين سرية في قلاع حصينة.

يتحول جنود النظام الديكتاتوري إلى مصاصي دماء حين يأمرون الأطباء بأن يستنزفوا دماء مجموعة من التلاميذ حتى الموت، لنقل هذه الدماء إلى الجنود المصابين في المعارك. أما رئيس البلاد، فأغلق كل المنافذ لانتقال سلمي للسلطة: "أراد أن يعلم جميع المواطنين أن لا أحد يستطيع إقصاءه من مركزه، وأنه ليس هناك سوى الموت الذي يستطيع أن ينال منه". هذا التشبث بسدة الحكم رغم الأزمات التي وضع البلاد فيها، تسبب في تشكل العديد من الحركات المسلحة التي تسعى للتخلص منه، مما أدخل البلد في حرب أهلية طاحنة؛ أتت على الأخضر واليابس.

في هذا العالم المضطرب ترصد النساء الثلاث كيف تتهاوى الصومال وتنهار. يتنقَّل السرد المتقن بين عوالمهن المختلفة؛ بداية مع "كوثر" التي عاصرت استقلال بلادها وحلمت بتحقيق نهضة حقيقية فيه؛ لكن تحطمت الآمال في 18 عاماً حكم فيها الجيش البلاد. وهناك الطفلة "ديكو" التي تعيش في أحد مخيمات النازحين، يتم إغراؤها بحذاء جديد، إذا هي شاركت في أحد الاحتفالات الحكومية في هرغيسا. أما "فلسان" فقد تربت في كنف أب قاسي الطباع، والتحقت بالجيش لتشارك السلطة إجرامها.

الفقدان والنزوح

تجمع المآسي بين بطلات الرواية الثلاث، ويلعب الفقد الدور الأكبر فيها. الفقد بكل صوره وأشكاله. فقد الأحباب والأصدقاء، فضلاً عن الحرمان العاطفي، وفقد الحرية، ومن ثم فقدان الشعور بالأمان. فقدت "كوثر" أمها التي لم تكن بعد وفاة أبيها تؤخر لها أي طلب. ثم فقدت "كوثر" ابنتها الوحيدة "هودان" التي انتحرت بإحراق نفسها بعد تعرضها للاغتصاب في أحد السجون. ومن قبل، فقدت الزوج الذي مات بسكتة قلبية، ثم رحلت صديقة عمرها "دهبو" إلى خارج البلاد هرباً من جحيم فرضه نظام الحكم على الناس، وقُتلت "مريم" الإنجليزية العشرينية التي طالما اعتنت بها. ويأتي اسم الرواية من عالم الفقد الذي تحياه "كوثر"، فهو الذي يحيل إلى البستان الذي زرعته بنفسها في بيتها وكانت تدفن فيه أطفالها الذين يلفظهم رحمها قبل اكتمال نموهم. وتتواصل سلسلة الفقد تلك بفقدانها الحركة بعد تعرضها للتعذيب في أحد السجون، عقب اعتقالها بسبب دفاعها عن طفلة صغيرة في أثناء قيام جنود بضربها. ويصل معها الفقد إلى قمته حين ترى الحي الذي تسكن فيه قد انهار تمامًا بسبب اقتحام دبابات الجيش له وقصف بيوته، فلم تعد بذلك تملك أي شيء من ماضيها أو حاضرها. فحتى المدخرات التي كان من المفترض أن تعينها، فقدت قيمتها مع انهيار العملة المحلية.

تعيش "ديكو" في عالم متكامل من الفقد. لم ترَ أمها قط، ولا تعرف عنها شيئاً. والطفلة التي اتخذتها أختاً لها في ملجأ الأيتام، ماتت بداء الكوليرا؛ "منذ أن ماتت صديقتها عناب لم يعد هناك أحد ينام بجوارها ليلاً، أو تستطيع أن تبوح له بأسرارها" ص56. أحلامها في الحياة بسيطة جداً: أن يكون لها أب. أطلقت منظمة "الصليب الأحمر" عليها اسم "ديكو"؛ نسبة إلى اسم المستوصف الذي كانت تعيش داخله. لم تحظَ بالحنان سوى من بضعة أشخاص، منهم "بشير"؛ بائع الماء الذي يسمح لها بالشرب مجاناً، و"قمر" التي تحضنها وتربت عليها ما إن تراها في السوق. بعد خروجها من الملجأ، باتت تعيش وحيدة في أحد الخنادق الموحشة. تنام في برميل اتقاءً للبرد. توفر قوت يومها من خلال قطف الثمار من الحدائق وبيعها. ترى العالم بعيون بريئة لا تفهم التعقيدات التي فيه 58. جُلبت من بلدتها "سبعاد" إلى مدينة "هرغيسا"؛ لأداء رقصة شعبية أمام مسؤولين حكوميين في الاستاد؛ لكنها فشلت في أدائها مما عرضها للضرب المبرح؛ ولولا تدخل امرأة لا تعرفها، ما نجحت في الهرب منهم، لتفتش في تلك المدينة الجديدة عن مكان تنام فيه، وطعام يقيم أودها.

وتعاني "فلسان" من أشكال شتى من الفقد؛ منها فقدان حنان الأم بعد انفصالها عن والدها الذي عاملها بقسوة، وعدم قدرتها على تكوين صداقات لأن أباها كان يمنعها من الاختلاط مع الآخرين. لم تكن حتى قادرة على التواصل مع زملائها في العمل. تركت العاصمة مقديشو التي نشأت فيها إلى مدينة هرغيسا لتعاني مع الفقد حالة من الغربة المكانية والاغتراب النفسي: "تكتب بأحرف متوهجة عبر تعاريج ذهنها: أنت عبارة عن مسخ ووحش" ص197. تشعر أنها غير محبوبة وغير مرغوب بها من جميع المحيطين بها. فاتها قطار الزواج بعد أن وصلت إلى سن الثلاثين: "ظل شعورها بالوحدة كثيفاً كأنه ظل ثقيل" ص184. تعود إلى غرفتها التي تبدو في نظرها كأنها سجن، فتطاردها الأحلام المزعجة بسبب من قتلتهم بلا ذنب. كسرت حوض "كوثر" التي تدخلت لإنقاذ "ديكو"، من الضرب وتسببت لها في عاهة مستديمة. قتلت عجائز في قرية "سالاهي" من دون جريرة وكتبت تقارير مزورة أنهم كانوا من المتمردين. وحين أحبّت رئيسها في العمل، قُتِل هذا الحبيب على يد الثوار، فتقرر ترك وظيفتها العسكرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تجتمع النساء الثلاث مصادفة في نهاية الرواية. "ديكو" ترى عجوزاً مقعدة فتعرف أنها هي المرأة التي أنقذتها من أيدي الشرطة في الاستاد، ثم "فلسان" تعرف الجندية التي تسببت لها في إعاقة جسدية لا شفاء منها. تقرر "كوثر" تكفيراً عن ذنبها أن تصحبهما بعيداً عن المدينة المحترقة، وتصل بهما إلى معسكر للاجئين على الحدود الإثيوبية. هناك تحقق "ديكو" أمنيتها، فتخبر العاملين هناك  أن معها أمها وجِدتها.

عبّرت الكاتبة نظيفة محمد بذكاء شديد، عن ثلاث طبقات اجتماعية تمثل ثلاثة أجيال مختلفة في دولة الصومال. أعطت صورة كلية عن الأحداث التي تجري داخل المجتمع وكيف تعبر كل طبقة عن مصالحها، وكيف ترى العالم من خلال الوعي الطبقي. جسّدت "كوثر" الطبقة المتوسطة التي حلمت بالتحرر وبناء صومال أقوى، وبعد التحرر نجحت في تأسيس حي جديد في مكان لم يسكنه أحد من قبل، قبل أن يدمره القصف. وكشفت نظيفة (جرت ترجمة اسمها على أنه نديفا) عبر نافذة "كوثر" عادات وتقاليد المجتمع الصومالي وتخوفاته والأساطير التي يؤمن بها والطب الشعبي الشائع الذي يتوارثه الصوماليون. فيما جسّدت "فلسان" جيل الوسط والطبقة الأرستقراطية العسكرية التي تحكم الصومال بالحديد والنار. ورصدت الرواية عبر عالم "فلسان" حياة العسكريين والفساد الذي ينخر في عظام الدولة مما قادها إلى التفكك. وشكّل عالم "ديكو" الجيل الأصغر. طفلة لا تعرف لها أباً أو أماً؛ عاشت في المخيمات، فرصدت الكاتبة بعينها عالم الفقر المتفشي بين سكان الأكواخ، حيث عالم البغاء. يجمع الثلاث في النهاية مصير واحد كلاجئات من خلال حبكة متصاعدة ومحكمة صنعتها الكاتبة التي ولدت عام 1981 في مقاطعة هرغيسا، وبعد اندلاع الحرب الأهلية انتقلت للعيش في لندن. حصلت روايتها الأولى "فتى المامبا الأسود" على العديد من الجوائز، منها "جائزة بتي تراسك"، و"جائزة غورديان للكتاب الأول"، و"جائزة توماس ديلان". وحصلت روايتها "بستان الأرواح الضائعة" "جائزة سومرست موم"،  واختيرت عام 2013 كأفضل الروائيين الشباب الإنجليز، ومن ضمن أفضل الكتاب الأفريقيين تحت سن الأربعين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة