ملخص
تقول مصادر: "كان من المفترض أن لا تتحرك قطعة أثرية إلا برعاية الشرطة وعمل محضر استلام، ومحضر لوصف القطع بشكل دقيق مدعوم بالصور، لكن ذلك لم يحدث". كيف اختفى تمثال الإله أوزوريس؟ وهل سُرق من المتحف المصري الكبير؟
شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر أخيراً ردود فعل واسعة على إثر انتشار تسريبات منقولة عن مواقع إخبارية محلية بإحالة قيادات في المتحف المصري الكبير إلى الجنايات، بسبب إخفائهم تمثالاً أثرياً خاصاً بالإله أوزوريس، واختلاس أصل المحضر الرسمي من إجراءات تسلّمه، في وقت أكدت مصادر لـ"اندبندنت عربية" أن الواقعة "حدثت منذ نحو 12 عاماً، ومن دون إطلاع الرأي العام على تفاصيلها وقت اكتشافها".
وأحيطت تفاصيل واقعة اختفاء التمثال وحقيقة التسريبات المتداولة على مواقع التواصل بتباين والتباس شديدين، خصوصاً بعدما نشر أحد المواقع المحلية خبراً تحت عنوان "أكبر قضية فساد إحالة قيادات الآثار إلى الجنايات لاتهامهم بسرقة المتحف المصري الكبير"، قبل أن يحذف سريعاً، مفاده بأن النيابة العامة المصرية أحالت عدداً من كبار المسؤولين من قطاع الآثار إلى محكمة الجنايات بتهمة سرقة تمثال أثري من المتحف المصري الكبير.
كيف اختفى التمثال؟
وتواصلت "اندبندنت عربية" مع مصدر مسؤول في المتحف المصري الكبير، لكنه اعتذر من عدم التصريح، مبرراً الأمر بأنه "جاءتنا تعليمات (لكل المسؤولين) في إدارة المتحف بعدم التحدث عن الواقعة، بخاصة أننا نستعد لافتتاح المتحف، والقضية قيد التحقيق، ولا نريد أن نستبق الأحداث".
لكن مصدراً آخر مسؤولاً في المتحف يحمل درجة وظيفية أعلى ومطلع على تفاصيل ما جرى، أكد "اختفاء التمثال منذ عام 2012".
وأوضح المصدر المسؤول الذي فضل عدم الإفصاح عن هويته أن "التسريبات المتداولة صِيغت بصورة غير دقيقة، وتضمنت معلومات منقوصة خرجت من سياقها، بخاصة أن الواقعة حدثت منذ ما يزيد على 10 أعوام، أي قبل بناء المتحف المصري الكبير، لافتاً إلى أن عملية الإخفاء جرت "أثناء نقل القطع الأثرية من أماكنها الأصلية إلى مركز الترميم الذي بُني قبل المتحف، وأن المسؤولين عن الواقعة حُوسبوا بالفعل".
وفي شأن الجهود المتعلقة بطرق استرداد التمثال قال المصدر "نقوم بأدوار لاسترداد قطع خرجت على نحو غير قانوني لا يمكن الإفصاح عن تفاصيلها".
ووفق الادعاءات التي ساقها الخبر المحذوف فإن المتهمين هم أمين عهد آثار ورئيس مخزن سابق ورؤساء أقسام حاليون في المتحف سرقوا تمثالاً برونزياً لإله أوزوريس من المتحف، مستندة إلى أمر الإحالة الذي أشار إلى أن المتهمين اختلسوا التمثال الذي يعود للعصر الفرعوني المتأخر من مخزن الآثار غير العضوية، إذ "كانوا مسؤولين عن حفظه، وكذلك سرقوا المحضر الرسمي الذي يثبت إجراءات تسلم التمثال، وحجبوا التمثال والمحضر عن تسليمهما إلى الجهة المختصة بقصد تملكهما وإخفائهما عن الجهات المسؤولة".
وبمواجهة مسؤول المتحف المصري حول مدى صحة هذه التسريبات والطرق التي استُخدمت في عملية إخفاء التمثال نفى أن يكون التمثال سُرق من المتحف، موضحاً أنه "معلوم أن محتويات المتحف المصري الكبير جاءت من محافظات مصرية متعددة، وعملية إخفاء التمثال حدثت أثناء عملية انتقال التمثال إلى مركز الترميم، أي إن الفقد حدث خارج نطاق مركز الترميم، وليس كما يشاع".
وحول طبيعة إخفاء محاضر تسليم التمثال، قال المصدر "التلاعب في الأوراق والكشوفات حدث بعد تنفيذ العملية التي وقعت عند نقل التمثال من مكانه إلى مركز الترميم، وكان التلاعب في المحاضر بغرض إخفاء الواقعة، والتمثال لم يصل من الأساس إلى مركز الترميم، وأي شيء داخل المتحف المصري الكبير لا يمكن التعدي عليه لوجود أكثر من 2500 كاميرا، مهمتها تأمين المتحف، المزود بأعلى أنظمة تأمين في العالم، ومن المؤكد لم تسرق أي قطعة داخله من إجمالي 60 ألف قطعة، ويجري التسويق للحادثة بصورة منافية للحقيقة".
تغيير القطع الأثرية أثناء نقلها
وفي المقابل، يقول رئيس اتحاد الأثريين العرب محمد الكحلاوي إن "اختفاء القطع الأثرية من الحوادث المألوفة في مصر، وليس الأمر جديداً، فمتحف الحضارة تعرّض لواقعة مشابهة، وتغيير القطع الأثرية يحدث أثناء نقلها إلى المخازن، إذ تجري عملية الاستبدال والتبديل، ولا تصل القطع الأصلية إلى المتحف أو تسجل إنما تقيّد أخرى غير أصلية، وتستبدل بعد الاتفاق مع الفريق العصابي من القائمين على المشروع أو المنوط بهم حفظ وسلامة هذه القطع، ويجري تسهيل عملية تهريبها".
وأضاف الحكلاوي في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن "مشكاوات نادرة سرقت من المتحف الإسلامي أثناء نقلها إلى متحف الحضارة، وبدلاً منها سُلمت قطع مقلدة، وجرى تهريب المشكاوات الأصلية خارج البلاد"، لافتاً إلى أن "نقل القطع الأثرية يجري بواسطة فريق معين من ثلاثة أفراد منوط بهم إيصالها إلى المكان الجديد، لكن من الصعب خروج القطع الأثرية من المتحف حتى في حال كان غير مزود بنظم تأمين حديثة، إلا إذا كان القائم بالعملية أمين العهدة".
وعام 2014 أثيرت ضجة على مواقع التواصل في مصر بعد اكتشاف سرقة مشكاوات من محتويات مخزن الحضارة، وتناقلت وسائل إعلام محلية معلومات تشير إلى أن هذه المشكاوات ترجع إلى السلطان حسن والسلحدار، وبيعت بمبلغ نصف مليون دولار لأحد هواة جمع التحف الإسلامية.
وفي تلك الأثناء شكّل رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية بوزارة الآثار لجنة للتحقيق في وقائع سرقة أربع من أروع المشكاوات الإسلامية الأثرية المصرية النادرة بعضها منسوب إلى كل من السلطان حسن والسلحدار التي جرى تهريبها لعرضها للبيع من هواة اقتناء التحف الأثرية.
وبالعودة لتمثال أوزوريس فإن مسؤول المتحف الكبير كشف في تصريحاته لـ"اندبندنت عربية" "عن عدم التزام إجراءات التأمين خلال عملية نقل التمثال إلى مركز الترميم"، موضحاً أنه "كان من المفترض ألا تتحرك قطعة أثرية إلا برعاية الشرطة وعمل محضر تسلّم ومحضر لوصف القطع على نحو دقيق مدعوم بالصور، لكن ذلك لم يحدث".
وأضاف أنه "حالياً ننسخ المحضر ست نسخ، الأولى في مكان تسليم القطع، والثانية مع القوة المتحركة تطلع الشرطة عليها، وكذلك يتسلّم أمين عهدة المخزن نسخة، وتكون لدى الشرطة نسخة أيضاً لضمان أن القطعة موجودة في ستة أماكن وليس مكاناً واحداً".
وتطرق مسؤول المتحف إلى أنه "في السابق كانت المسألة مقتصرة على محضر أصل في حوزة أمين العهدة وصورة في المكان الذي خرجت منه العهدة، لكن أخيراً تخرج لجنة لمراجعة ما جرى جلبه والتبين من مدى مطابقته للجنة الجرد والتسلم، ومن ثم يتم فحصه ونقل القطع إلى المعامل وتأخذ الدورة الخاصة بها".
وعلى الجهة الأخرى أخبرنا مسؤول في المتحف المصري الكبير أن "أكثر من 25 في المئة من كلفة المتحف كانت لأنظمة التأمين، إذ نمتلك أحدث أجهزة في العالم، ولدينا ’كوماندا كنترول روم‘، ويطلق عليها أيضاً عسكرياً مركز إدارة التحكم والسيطرة، ومهمتها مراقبة كل شيء يحدث داخل المتحف".
أما بالنسبة إلى المخاوف المتعلقة بانتشار خبر اختفاء التمثال ومدى القدرة على حماية القطع الأثرية في المتحف المصري الكبير، فقال "لدينا في المتحف مركز تحكم رئيس، إضافة إلى 11 مركزاً فرعياً"، مؤكداً أن "التسريبات صيغت بصورة غير دقيقة توحي بأن التمثال خرج من داخل المتحف المصري الكبير، وهو أمر عار من الصحة"، وأشار إلى أن التمثال الذي دارت حوله الواقعة "قيمته العلمية والأثرية لا تذكر، لكن في النهاية المحقق ينظر على أنها قطعة أثرية بغض النظر عن قيمتها، والتمثال مكرر وليس قطعة أثرية فريدة".
مخازن متحفية عشوائية
من جانبه اعتبر رئيس اتحاد الأثريين العرب أن المخازن المتحفية في مصر "تعاني مشكلة أنها أقرب إلى العشوائيات، ويجب أن تكون تحت رقابة وتوثيق علمي سليم، مصور ومحدد، وتكون عملية التخزين مراقبة بالكاميرات مع إدخال الوسائل الحديثة مثل الأشعة البنفسجية، لاكتشاف عمليات سرقات المخازن وتنبيه الأمن، وكل هذه الوسائل غير موجودة، ولا صحة لما يجري ترويجه بامتلاك أحدث وسائل التأمين في العالم، نظراً إلى عدم مواكبة الحداثة".
وبحسب الموقع الرسمي للأمم المتحدة فإن تمثال الإله أوزوريس هو تمثال برونزي يعود لعام 700 قبل الميلاد، وأوزوريس هو إله الخصوبة والزراعة والبعث في هذه الفترة، مع الأمل في حياة جديدة بعد الموت. وبدأ أوزوريس الارتباط بدورات الطبيعة، بما في ذلك فيضان النيل وبدء زراعة محصول جديد، وكانت رسومات وتماثيل أوزوريس شائعة في الألفية الأولى قبل الميلاد.
ويعود مسؤول المتحف المصري الكبير للحديث عن واقعة اختفاء التمثال، مؤكداً أنه "كان هناك تستر على الواقعة وقت حدوثها قبل نحو 12 عاماً، واكتشفنا الواقعة بعد ذلك، والتحقيقات المسرّبة تشير إلى وجود يقين بفقد التمثال ووجود خطأ إداري قوي، لكن توقيتها الآن سيئ، وأبلغنا جهات الاختصاص عند اكتشاف الواقعة، وليس المطلوب إعلان الواقعة للشعب".
بينما أبدى الباحث في علم المصريات بسام الشماع دهشته من حدوث الواقعة عام 2012 من دون أن يعلم بها أحد ولم يكشف عن تفاصيلها للرأي العام، معتبراً أنه إذ صحت تسريبات سرقة تمثال يشترك فيها مسؤولون بهذا القدر فإنه أمر "يتطلب حلّ جميع مناصب وزارة الآثار والسياحة وتجديدها" ومشدداً على أهمية إعلان "تفاصيل متعلقة بمكان التمثال وهل جرى تهريبه من عدمه".
واختلفت الروايات التي تتعلق بطريقة اختفاء التمثال، ومنها ما نشرته مواقع محلية من أنه جرى استبداله بعملة قديمة مقلدة، مما كان سبباً في الكشف عن عملية تورط قيادات تشغل مناصب رفيعة في قضية فساد وسرقة التمثال.
وإحالة المتهمين إلى الجنايات تشمل أمين العهد الأثرية ورئيس مخزن الآثار غير العضوية السابق (رقم 91) في مركز ترميم الآثار بالمتحف المصري الكبير، ورئيس قسم الآثار اليونانية والرومانية في المتحف ومدير إدارة المخازن الأثرية والتسجيل السابق بمركز ترميم الآثار ومدير إدارة اختيارات القطع الأثرية للعرض المتحفي في المتحف المصري الكبير ومدير شؤون الآثار والمعلومات ومسؤول قاعدة البيانات الإلكترونية السابق في المتحف المصري الكبير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من يشرف على عمليات التأمين؟
وتواصلت "اندبندنت عربية" مع أحد المديرين السابقين للمتحف المصري الكبير، فضّل عدم ذكر اسمه، تولى منصبه بعد واقعة استبدال التمثال، إذ أكد "عدم درايته بسرقة التمثال وقت إدارته المتحف"، قائلاً "لم تكن لدينا معلومات حول هذه الواقعة، كنا نتبع البروتوكول العام لنقل وحماية الآثار المتبع في وزارة الآثار المصرية، والإجراءات المعتادة بالتعامل مع القطع الأثرية، ولم يخاطبنا أحد في هذه القضية، وعلمت بالأمر عبر الـ’سوشيال ميديا‘"، وأوضح أن "المتحف الكبير يضم مخازن ضخمة مؤمنة، وهناك كميات هائلة من القطع الأثرية في هذه المخازن، والكشف عن عملية الاختفاء يبرهن أن عملية المتابعة تحدث بصورة جيدة".
واقترح المدير السابق تزويد المتحف بـ"تقنيات حديثة تسمح بتأمين القطع على نحو أفضل من موقع نقلها إلى المكان الذي تصل إليه، وبذلك يجري توثيقها وتسجيلها تصويرياً وتزويدها بعلامات سرية للتأكد من أصليتها عند وصولها إلى المكان الجديد الذي تنقل إليه لزيادة تأمين القطع الأثرية".
وحول أساليب تأمين المتحف المصري الكبير قال لـ"اندبندنت عربية" إن "جهة سيادية هي التي تقوم بإجراءات تأمين المتحف، ولم يكُن يتم إطلاعي عليها".
ويشكك رئيس اتحاد الأثريين العرب محمد الكحلاوي في إجراءات التأمين المتبعة، معتبراً أنها ليست بـ"الجودة المطلوبة" ومستعرضاً حوادث مشابهة منها "سرقة سجلات في متحف كلية آثار جامعة القاهرة التي كانت تثبت العهدة الموجودة، لكن عثر على نسخة منها كانت موجودة في الوزارة"، بحسب روايته.
ووفق الكحلاوي فإنه "لا بديل عن إدخال التكنولوجيا الحديثة في عملية الحفظ والصيانة، ووضع حد لعملية التخزين العشوائي، في ظل وجود قطع بالآلاف مخزنة من دون رقابة"، وسلط الضوء على أن "كثيراً من عمليات التسليم والتسلم تجري على الورق من دون جرد بصورة سنوية، وكلها عناصر ينفذ من خلالها الخارجون عن القانون للسرقة أو لاستبدال القطع الأثرية".