ملخص
تمثل حرب بلاسي التي غلب فيها الإنجليز آخر والٍ مقاوم نقطة بداية الحكم الإنجليزي على الهند وهذه الحادثة كانت بمثابة إعلان مغادرتهم من الهند وبداية النهاية لحكمهم.
قبل 105 أعوام بالضبط في الـ13 من أبريل (نيسان) عام 1919، وقعت مأساة في حديقة جاليانوالا في مدينة أمريتسار الهندية أضاءت شمعة الحرية في البلاد.
يتفق المؤرخون المتخصصون في حركات الاستقلال في الهند أنه إذا كان هناك حدث واحد أنهى إمكانية بقاء الإنجليز في الهند فهو حادثة جاليانوالا إذ كانت لها آثار بعيدة المدى ودفعت الهند نحو مسار الحرية الكاملة التي أمسك بزمام حركتها مهاتما غاندي.
يقال إن حرب بلاسي التي تغلب فيها الإنجليز على آخر والٍ مقاوم تمثل نقطة بداية الحكم الإنجليزي على الهند، بينما كانت حادثة جاليانوالا بمثابة إعلان مغادرتهم من الهند وبداية النهاية لحكمهم.
من جانب آخر، أدرك الإنجليز بعد 63 عاماً من الحكم المباشر على الهند أن الشعب الهندي غير راض عن سياسة الإنجليز في إدارة شؤون البلاد، وأن هناك غضباً شعبياً مكبوتاً ضد الاحتلال قد ينفجر في أي وقت. ظن الإنجليز أنه يمكن حل هذه المشكلة باستخدام القوة حتى يذعن الناس لهم من الخوف والرعب، لذا جاء تعيين مايكال فرنسيس أوداير المعروف بشدته وجبروته حاكماً على إقليم البنجاب.
ما قبل المأساة
وقعت حادثة حديقة جاليانوالا أثناء حكم أوداير للبنجاب عقب الحرب العالمية الأولى التي كان للهند دور كبير فيها، إذ تم تجنيد 400 ألف شاب من البنجاب إجبارياً من قبل أوداير للمشاركة في الحرب العالمية بطريقة قاسية وكان الرافض للتجنيد يواجه عقاباً جماعياً لأفراد قريته بسبي النساء ونهب المحاصيل الزراعية حتى يقبل بالتجنيد.
إضافة إلى ذلك، صادرت بريطانيا 100 مليون جنيه استرليني من خزينة الهند لسد عجز الميزانية العسكرية البريطانية مما أدى إلى موجة غلاء في البلاد، وتفاقم الأمر بسبب المجاعة عام 1918 وأودت الإنفلونزا والطاعون بحياة ستة ملايين شخص في نفس العام.
في خضم هذه الأزمات، فرضت الإدارة البريطانية قوانين مجحفة في الهند بدلاً من التخفيف عنهم مقابل تضحياتهم في الحرب العالمية بغرض القضاء على تمرد محتمل كانت التقارير الاستخباراتية تحذر منه، إذ كان الإنجليز يتخوفون من تمرد مماثل لذلك الذي حصل عام 1857، بخاصة أن المسلمين كانوا قلقين للغاية على دور التاج البريطاني في تفكيك الخلافة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى.
وكانت بوادر التمرد ظهرت في البنجاب متمثلة في "حزب الغدر" الذي أنشأه هارديال سينغ في ولاية كاليفورنيا الأميركية عام 1913 بهدف استرجاع إقليم البنجاب من الإنجليز إلى السيخ. أصدر الحزب مجلة باسم "الغدر" التي لاقت رواجاً كبيراً في البنجاب وبلغ عدد المنضمين للحزب خمسة آلاف عضو في وقت قصير وانتشرت المكاتب الفرعية للحزب في دول عدة، وكان هارديال يحرض السيخ على العودة إلى الهند ومحاربة الإنجليز من أجل الاستقلال أثناء انشغال بريطانيا في حربها مع ألمانيا.
وحدث ذلك بالفعل إذ توافد أعضاء "حزب الغدر" إلى البنجاب فور اندلاع الحرب العالمية الأولى وبدأوا مقاومة مسلحة ضد الإنجليز بتأييد خفي من ألمانيا وتركيا حتى إن 18 سيخياً قتلوا في اشتباك مع الشرطة في كولكاتا أثناء عودتهم من كندا في مايو (أيار) عام 1914.
زادت هذه الحادثة من الكراهية ضد الحكومة في البنجاب ووصل عدد أعضاء حزب غدر إلى ثمانية آلاف، وزادت أعمال العنف ضد الإنجليز إلا أن هذه الحركة لم تنجح في أغراضها وتمت محاكمة أعضائها في قضية "مؤامرة لاهور" التي حكمت على 42 شخصاً من السيخ والمسلمين بعقوبات صارمة بعد إدانتهم بالخيانة وأعدم 18 منهم، وفر هارديال سينغ إلى سويسرا بعد إطلاق سراحه بكفالة. وعلى رغم من فشل حزب الغدر فإنها لعبت دوراً مهماً في دفع المقاومة ضد الإنجليز إلى الأمام.
القشة التي قصمت ظهر البعير
منعت الإدارة الإنجليزية الأنشطة السياسية القومية في الهند بموجب قانون سمته "دفاع الهند" نظراً لخطر حدوث تمرد محتمل ضد الإدارة بعد بدء الحرب العالمية الأولى، وكان يتوقع أن هذا القانون سيتم إلغاؤه بعد انتهاء الحرب لأن الهند أضحت بمالها ودمها في الحرب لصالح الإنجليز إذ شارك فيها 1.5 مليون جندي هندي، منهم 400 ألف من البنجاب، وقتل 74 ألف جندي هندي أثناء قتالهم في الدفاع عن التاج البريطاني. لكن بدلاً من الاعتراف بهذه التضحيات، تم فرض قانون رولات الجاحف الذي حوَّل الهند دولة بوليسية، وكانت الشرطة تعتقل أي شخص بموجب هذا القانون بسبب قيامه بأنشطة مناهضة للحكومة من دون إعطائه حق الاستئناف ضد الاعتقال.
وعندما تمت مناقشة هذا القانون في المجلس التشريعي الهندي، عارضه جميع الأعضاء الهنود باستثناء عضو واحد، حتى إن محمد علي جناح استقال من عضوية المجلس احتجاجاً على هذا القانون، وغاندي أيضاً كان يحضر جلسات المجلس أثناء مناقشة هذا القانون في الجمعية التشريعية.
على رغم المعارضة القوية من الأعضاء الهنود أقرت الإدارة البريطانية هذا القانون في 18 مارس (آذار) 1919، حينها يئس غاندي من النظام ودعا إلى إضراب شامل بالهند في الـ30 من مارس. كانت هذه أول مقاومة شعبية وقعت خلالها مأساة حديقة جاليانوالا.
عمت الاحتجاجات والإضرابات أرجاء الهند إثر دعوة غاندي، وحاولت السلطة وقف المتظاهرين باستخدام القوة إذ قُتل ثمانية أشخاص على يد الشرطة أثناء الإضراب وتم حبس الدكتور سيف الدين كاجلو والدكتور ساتية بول في أمريتسار التي خرج فيها 38 ألف شخص للتظاهر.
في الجانب الآخر، تم منع غاندي من القدوم إلى أمريتسار وأجبر على الذهاب إلى مومباي مما أدى إلى زيادة التوتر في أرجاء الهند وشهدت أمريتسار وغوجرات ولاهور احتجاجات عنيفة ضد هذا الإجراء. بعد عدة أيام وتحديداً في السادس من أبريل (نيسان)، خرج حشد كبير بلغ عدده 50 ألف شخص في مظاهرة بقيادة المحامي بدر السلام في أمريتسار ومشاركة المسلمين والهندوس والسيخ على حد سواء ضد الاعتقالات الأخيرة واتجه المتظاهرون وهم يرفعون الهتافات إلى مكتب نائب الحاكم فمنعتهم قوات الأمن أولاً ثم فتحت النار عليهم ليلقى عدد من المتظاهرين حتفهم، وتم استدعاء الجيش الذي فتح النار مرة أخرى أثناء تفقد الناس ذويهم من القتلى والجرحى وقتل عدد من الأشخاص برصاص الجيش. استهدف المتظاهرون الممتلكات الحكومية والمسؤولين البريطانيين رداً على ذلك وقتل عدد من الأوروبيين.
أصبح الوضع متوتراً للغاية في أمريتسار لذا تم تسليم المدينة للجيش وأرسل العميد إدوارد هاري داير الذي كان يقود لواء في جالاندهار إليها إذ بدأ اعتقالات عشوائية عند وصوله وحوَّل المدينة إلى معسكر، كما تلقى العميد داير تعليمات صارمة من حاكم البنجاب مايكل فرانسيس أودواير بأنه لا ينبغي السماح بأي نشاط أو تجمع سياسي في المدينة بأي حال.
كان هذا قبل أيام من موعد مهرجان بيساكي المقدس للسيخ المقرر في الـ13 من أبريل الذي اعتاد السيخ فيها أن يأتوا من أماكن بعيدة للاستحمام في بركة أمريتسار المقدسة. أعلنت الحكومة قبل يوم من موعد المهرجان أنه لن يسمح بالتجمع في المدينة، لكن على رغم ذلك وصل الناس إلى الاجتماع في جاليانوالا باغ بل وتظاهروا ضد وحشية البريطانيين.
في الساعة الرابعة مساء ذلك اليوم، وصل العميد داير إلى موقع التجمع برفقة 90 جندياً، وكان معه أيضاً مركبتان مدرعتان مثبت عليهما مدافع رشاشة وحلقت طائرة عسكرية فوق مكان الاجتماع، وحالما وصل الجنرال داير إلى مكان الاجتماع، أصدر أوامره للجنود بإطلاق النار من دون سابق إنذار.
كان مدخل جاليانوالا ضيقاً لذا لم يتمكن أحد من الحصول على فرصة للهروب، واستمر إطلاق النار بأمر من الجنرال داير حتى نفاد الرصاص من بنادق الجنود. تقول المصادر المستقلة إن أكثر من 1000 شخص قتلوا نتيجة هذه المذبحة.
كان مئات الجرحى يئنون طوال الليل إذ لم يسمح للناس بالذهاب إلى موقع الحادثة والتقاط الجثث إلا في اليوم الثاني، كما تم قمع أي مظاهرة ضد هذه الحادثة في كل أنحاء البنجاب.
عودة غاندي وأول انتخابات في الهند
عاد غاندي إلى الهند خلال الحرب العالمية الأولى في التاسع من يناير (كانون الثاني) 1915 بعد أن أمضى 21 عاماً في جنوب أفريقيا وبث روحاً جديدة في حركة التحرر من الإمبريالية البريطانية في نفوس الهنود بطريقة سلمية.
لم تتمكن الإدارة البريطانية من فعل أي شيء ضد سلمية غاندي وأصبحت البنجاب بقيادته مركزاً للاحتجاجات ضد القوانين السوداء التي فرضها البريطانيون خلال الحرب العالمية الأولى.
قدم غاندي إلى لاهور في أكتوبر (تشرين الأول) عندما عاد الوضع إلى طبيعته عقب مأساة جاليانوالا وتجمع حشد من الناس للترحيب به في محطة السكك الحديد، وبرز غاندي كزعيم مشترك لجميع الطبقات وأتباع جميع الأديان ليصبح زمام حركة الحرية في الهند في يد غاندي الذي تحدى الحكم البريطاني في كل مكان من خلال طريقته السلمية.
دقت أجراس الإنذار للحكومة البريطانية بعد مأساة حديقة جاليانوالا وبدأت بالتفكير في كيفية ترويض الهنود. في ذلك الوقت، كان إدوين مونتاجو وزيراً للهند وكان اللورد تشيلمسفورد حاكماً عاماً على الهند.
نتيجة لذلك، تم إدخال إصلاحات لإعطاء تمثيل أكبر للهنود المعروفة باسم "إصلاحات مونتاجو تشيلمسفورد" كما تم منح المسلمين والسيخ والهندوس تمثيلاً منفصلاً. أعطت هذه الإصلاحات الهنود حق التصويت لأول مرة لكن في نطاق محدود مما أدى إلى أول انتخابات عامة في الهند في عام 1920 التي قاطعها غاندي لأنه كان يطالب بالاستقلال الكامل وليس بإصلاحات محدودة.
ولأول مرة كان عدد الأعضاء المنتخبين في المركز والمقاطعات أكثر من الأعضاء المرشحين (من قبل الحكومة الإدارية الإنجليزية) إلا أن الوزراء البريطانيين حافظوا على الأغلبية في مجلس الوزراء الاتحادي.
مصير حاكم البنجاب والعميد داير
يشكل على الناس أسماء العميد داير وحاكم البنجاب فرنسيس أودواير عند ذكر مأساة جاليانوالا ويعتقدون أن كليهما نفس الشخص بسبب تشابه أسمائهما. ينتمي السير مايكل فرنسيس أودواير، حاكم البنجاب في وقت المأساة، إلى الخدمة المدنية الهندية.
ولد مايكل في إيرلندا عام 1864. وانضم إلى الخدمة المدنية الهندية عام 1882 بعد إكمال التعليم، وكان أول تعيين له في مدينة سارجودا الباكستانية الآن. وتم ترشيحه لمنصب حاكم البنجاب من قبل اللورد هاردينغ نائب الملك في الهند.
لكن الشخصية التي نزلت في حديقة جاليانوالا وارتكبت المذبحة كان العميد الإنجليزي إدوارد هنري داير الذي ولد في التاسع من أكتوبر 1864 في مدينة مري الباكستانية إذ كان والده إدوارد داير يمتلك شركة "Murray Brewery"، وتلقى داير تعليمه المبكر في كلية لورانسفي مري لينتقل بعد ذلك إلى إنجلترا إذ حصل على تكليفه في الجيش عام 1885 بعد إكمال التعليم.
في عام 1916 تمت ترقيته إلى رتبة عميد، وبعد شهر من جاليانوالا باغ، تم إرساله إلى الحرب الأنجلوأفغانية الثالثة حيث تولى قيادة اللواء الخامس في جمرود.
تقاعد داير في يوليو (تموز) 1920، وأوصى تشرشل الذي كان وزيراً للحرب آنذاك بمحاسبته لكن مجلس الجيش البريطاني عارض التوصية، وتمت مناقشتها أيضاً في البرلمان البريطاني، لكن قرار محاسبة الجنرال داير رُفض بـ230 صوتاً مقابل 129.
في الجانب الآخر، صورت الصحف البريطانية الجنرال داير على أنه بطل، وجُمع 26 ألف جنيه إسترليني (تعادل أكثر من مليون جنيه إسترليني في الوقت الحالي) من التبرعات له من جميع أنحاء المملكة المتحدة.
توفي الجنرال داير في الـ23 يوليو 1927 بينما اغتيل الداير الآخر السير مايكل فرنسيس أودواير الذي كان حاكم البنجاب في الـ13 من مارس 1940 في لندن عن عمر يناهز 75 سنة على يد السيخ أودهام سينغ الذي قال إنه انتقم لمأساة جاليانوالا.
نقلا عن اندبندنت أوردو