ملخص
بعد نحو سنتين رحل كافكا عن عالمنا من دون أن يضيف كلمة واحدة إلى ما كان قد بدأه
ذات يوم من خريف عام 1922 توقف فرانز كافكا عن كتابة واحدة من رواياته الأكثر قوة إذا حكمنا عليها من الصفحات العديدة التي كان أنجزها منها حتى ذلك التاريخ.
بعد نحو سنتين سيرحل كافكا عن عالمنا من دون أن يضيف كلمة واحدة إلى ما كان قد بدأه. بل إنه كما سيؤكد صديقه ومنفذ وصيته لاحقاً ماكس برود كانت مسودة ما أنجزه من تلك الرواية، في مقدمة الكتابات التي تركها كافكا معلناً أسفه لكونه بات عاجزاً عن إحراقها بنفسه مكلفاً برود بقوة وإصرار وهو على فراش الموت بأن "يعدم" كل أعماله وألا يعيد نشر ولو صفحة واحدة مما كان نشره مسبقاً.
ونعرف طبعاً أن برود لم ينفذ تلك الوصية، بل راح يمعن في تراث صديقه نشراً وتعديلاً و"ضبطاً" و"أدلجة"، لا شك أن كافكا كان من شأنه أن يتقلب في قبره لو درى بذلك. ولكن ثمة سؤالاً لا بد من طرحه دائماً. إذا كان كافكا نفسه صادقاً في رغبته، لماذا تراه لم يتلف أوراقه بنفسه، لا سيما منها مسودات "القصر" التي توقف فجأة عن كتابتها وهو في منتصف جملة منها لعلها آخر ما خطه؟
سؤال السينما بالأحرى
بل أكثر من ذلك، لماذا ترى كافكا قد راح طوال السنتين الأخيرتين يكتب إلى برود بين الحين والآخر مسرياً عن نفسه بأن يحكي له بكثير من التفكه والضحك، مشاهد يفترض أنها تنتمي إلى الجزء الذي لم يكتبه من "القصر" وطرائف من حياة المساح "كا"، الشخصية المحورية في الرواية ومن أهمها مشهد موته الذي يفترض كافكا أنه كان ينبغي أن تختتم به الرواية وقد أتى رسل القصر يبلغونه أن الأوامر صدرت بمنعه من مواصلة الإقامة في القرية التي يعلوها القصر وأن عليه الآن أن ينهي عمله هناك ويرحل هو الذي لم تعد ثمة حاجة إليه بعد أن أرسل من قبل إدارة المساحة ليقوم بأشغال في القصر لم يقم منها بشيء بل أمضى أيامه ممنوعاً أصلاً من دخول القصر الغامض والمليء بأسرار لم يكتشف منها شيئاً لكنه بقي حتى جاءت الأوامر بطرده وهو مسجى، كما نعرف، على فراش الموت، فيوافق وهو بالكاد واع بما قيل له، ويلفظ أنفاسه الأخير؟
الحقيقة أنه لئن كان ماكس برود كذب كثيراً بصدد تركة كافكا، فإنه ما كان يمكنه أن يكون كاذباً بصدد تلك الحكايات الكافكاوية الأخيرة التي راح يتفتق عنها ذهن الكاتب وهو فريسة اليأس والمرض والإحباط المطلق. فثمة إجماع على أن كافكا كان يرويها حقاً وفي رسائله إلى برود ما يؤكد ذلك. وبالتالي يبقى الغموض ماثلاً وكبيراً يحيط بكل هذه المسألة.
الكذب الذي أنقذ أدب كافكا
لكن المهم في الأمر بالنسبة إلينا الذي نجد أنفسنا نعود إليه هنا في الذكرى المئوية الأولى لرحيل كافكا، هو أن برود بأكاذيبه وتأكيداته حول هذا الموضوع عرف في نهاية الأمر كيف يقدم لسيرة كافكا وأدبه خدمة لا يمكن نكرانها.
فرانز كافكا (1883 – 1924) الذي مات في مثل هذه الأيام قبل 100 سنة، كان في نهاية الأمر أحد كبار مفتتحي الحداثة في الأدب العالمي على رغم حياته القصيرة، ومن الصعب اليوم تصور مصير الرواية من دون كتاباته.
وفيما يعنينا هنا بالنسبة إلى رواية "القصر" التي سيقول برود أنه استجمع "لإنقاذها" كل طاقاته وذكرياته وغاص في حياة رفيقه الراحل وأسلوبه وجملة المتفرقات التي كان يخبره بها خلال سنتيه الأخيرتين حتى تمكن من "استكمال" ما تصور أنه رغبة كافكا الخفية في أن تبقى وتنشر الرواية على رغم "معارضته" ذلك، وتصبح جزءاً أساساً من تراث ذلك الكاتب التشيكي الكبير باللغة الألمانية، إلى جانب "المحاكمة" و"المسخ" و"معسكر العقاب" و"أميركا" وحتى "رسالة إلى الأب" و"سور الصين".
من كافكا إلى الكافكاوية
والحقيقة أننا ما ذكرنا هنا تلك الأعمال الكبرى إلا انطلاقاً من معرفتنا بأن استعراض هذه العناوين في حد ذاتها إنما يضعنا في قلب المسألة الكافكاوية المتشعبة، التي يقول المترجم والأديب السوري إبراهيم وطفة، المقيم في ألمانيا منذ شبابه المبكر منصرفاً إلى دراسة هذا الكاتب الكبير وترجمة، وإعادة ترجمة، أعماله بعدما أعمل فيها المترجمون العرب وغير العرب، وربما على خطى ماكس برود نفسه، تشويهاً بحسب رأيه، أن مجموع ما كتب وترجم للغوص في تلك المسألة مكتبة كاملة تعد بالآلاف!.
وهي دراسات متفاوتة القيمة والصدقية أتاحت لكافكا ليس فقط أن يكون صاحب اسم كبير في تاريخ الأدب العالمي، بل أن يعير اسمه لنوع وتيار أدبي متكاملين: الكافكاوية.
ومن هنا لمناسبة استعادة ذكرى كافكا في مئويته الأولى، لا بد لنا من طرح سؤال لم يطرح بما يكفي في رأينا: إذا كان معظم الذين كتبوا عن كافكا أجمعوا دائماً على قوة البعد البصري في رواياته وقصصه القصيرة وإلى درجة أنه هو نفسه رسم مشاهد كثيرة مستقاة من كتاباته، لماذا ترانا نقول أن حظه مع السينما لم يكن رائعاً؟
صحيح أنه وبالنسبة إلى روايته الكبرى "المحاكمة" حظي بواحد من كبار سينمائيي العالم مؤفلماً لها هو أورسون ويلز في عام 1965. وكان الفيلم من مفاخر الأخير. وصحيح أن ثمة في التداول دائماً نحو ثلاث دزينات من شرائط مقتبسة عن هذه الرواية أو تلك من رواياته ومن قصصه القصيرة. لكنها كانت في معظمها مصنوعة للتلفزة بما تستدعيه هذه من تقشف وتبسيط يلائم الجمهور العريض لتلك الأداة الفنية الطاغية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يجرنا هذا إلى القول بأن حتى السينمائي النمسوي العالمي الكبير ميشال هانيكي، الذي بكر في إعلان نفسه في أفلامه وإبداعه الفني بصورة عامة "كافكاوياً من دون لف ودوران"" حين أتيح له أن يؤفلم "القصر" تلك الرواية، غير المكتملة إلا بعناية ماكس برود وبما يلائم أيديولوجية الأخير، طلع فيلمه التلفزيوني عنها في نهاية الأمر مفككاً لا كافكاوياً.
لم يتمكن أحد من أن يقيم مقارنة، مثلاً، بينه وبين الفيلم السينمائي الأميركي "كافكا" من إخراج ستيفن سودربرغ، الذي كانت "تهمته" الكبرى بالنسبة إلى الكافكاويين أنه ليست له مكانة هانيكي ولا قيمته الفكرية، ومع ذلك بدا فيلماً كافكاوياً من دون أن يكون مقتبساً من أي رواية لكافكا بل عن خليط من الحياة المتخيلة للكاتب الكبير وبعض أفكاره وأحلامه وهواجسه.
انتصار هوليوودي غريب
لقد فعلها هانيكي إذاً وبذل جهده. ومع ذلك انتصر الهوليوودي عليه وبقي أورسون ويلز الشكسبيري العريق سيد السينما المعتمدة على أدب كافكا حتى اليوم. فلمَ لم يوفق هانيكي في رغباته الكافكاوية وهو صاحب الجوائز السينمائية الكبرى وصولاً إلى أكثر من سعفة ذهبية في مهرجان كان؟ ولماذا ظل كافكا بشكل عام على أي حال، عصياً على فن السينما وكان هو من أوائل المبدعين الكبار الذين اكتشفوه كما تشهد على ذلك شذرات عديدة في مذكراته.
بل حتى صفحات عديدة من نثره الذي لم يكن أورسون ويلز بعيداً من الصواب حين قال مرة في معرض إجابته عن سؤال عما دعاه إلى أفلمة "المحاكمة" وهو الشكسبيري الكلاسيكي المتمكن "فهل ثمة يا مستر ويلز في رأيك، قاسم مشترك بين سيد المسرح الإنجليزي وسيد رواية الشرط الإنساني في مفتتح القرن العشرين"؟ فكان جوابه: أجل فالإثنان يتشاركان في كونهما أعظم كاتبين للسيناريو في التاريخ، شكسبير من دون أن يكون واعياً ذلك لأنه وجد قبل ما يقرب من نصف ألفية من ولادة السينما، وكافكا عن وعي في رأيي، لأنه عرف السينما وأحبها وتركت آثارها العميقة في فكره وحياته منذ شبابه المبكر وشباب السينما التي جايلت مراهقتها سنوات مراهقته".