ملخص
اللافت أن عودة مصر إلى انقطاع الكهرباء وتبريرها بنقص الموارد المالية جاء بعد أسابيع من توقيع الحكومة صفقة منطقة "رأس الحكمة" على البحر المتوسط مع الإمارات، وهي أكبر صفقة استثمار أجنبي مباشر في تاريخ مصر بقيمة 35 مليار دولار.
كان وداع رمضان وعيد الفطر صعباً على المصريين، ليس لفراق الشهر الكريم أو أيام الإجازات في مصر، وإنما لأن الكهرباء ستنقطع مجدداً بعد استئناف الحكومة العمل بخطة خفض استهلاك الكهرباء، رغبة في توفير النقد الأجنبي بتصدير الغاز المستخدم في محطات توليد الكهرباء.
تزامن استئناف ما يطلق عليه المواطن "قطع النور" أو ما تسميه الحكومة "تخفيف الأحمال" مع موجة حارة وعودة المحال وأماكن العمل لطاقتها الطبيعية، جعل من القرار الحكومي الشاغل الأول للمصريين، وبقدر ما أثار على مواقع التواصل نداءات للدولة لوقف انقطاع التيار الكهربائي وأحاديث عن المعاناة من تبعاته، أطلق المصريون كعادتهم العنان للسخرية من أوضاعهم.
واستأنفت وزارة الكهرباء، الإثنين الماضي، تطبيق خطة تخفيف الأحمال في جميع المحافظات، بداية من الـ11 صباحاً وحتى الخامسة عصراً، بحد أقصى ساعتين وربع الساعة على كل مشترك في الخدمة، باستثناء أربع محافظات هي مرسى مطروح والبحر الأحمر وشمال وجنوب سيناء، وهي الخطة التي ترجعها الحكومة إلى الرغبة في توفير كميات الغاز الطبيعي المستخدمة في تشغيل محطات الكهرباء، من ثم توفير النقد الأجنبي لبلد عانى أزمة نقص العملة الصعبة على مدى العامين الماضيين.
سخرية المصريين
وسخر البعض على موقع "إكس" معتبرين أن الـ14 من أبريل (نيسان) هو المتمم لأيام عدم انقطاع الكهرباء، على طريقة إعلان دار الإفتاء عن رؤية هلال شهر شوال وأيام عيد الفطر، فيما عبر آخرون عن عدم تخوفهم من "إطلاق الشياطين" بعد رمضان بقدر خوفهم من عودة انقطاع الكهرباء، بينما اتخذ آخرون منحى أكثر جدية في تناول الأمر بوصف انقطاع التيار الكهربائي بأنه "لا يليق بمصر"، وأكد البعض أن ذلك يضر بأعمالهم لاستحالة العمل دون إنترنت مثلاً أو لإمكانية تلف البضائع في غياب الكهرباء، إضافة إلى مناشدات بعض أولياء الأمور بوقف قطع الكهرباء لعدم قدرة أبنائهم على المذاكرة في تلك الأجواء بخاصة مع ارتفاع درجات الحرارة التي بلغت 36 درجة الأربعاء الماضي.
بداية أزمة الكهرباء كانت في الصيف الماضي، حين شهد مطلع أغسطس (آب) 2023 بدء تطبيق خطة لـ"تخفيف الأحمال" تراوحت مدة انقطاع التيار فيها ما بين ساعة وساعتين، وأرجعت الحكومة ذلك إلى موجة الحر وارتفاع استهلاك الكهرباء، وقال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في مؤتمر صحافي آنذاك إن الحكومة توقف تصدير الغاز خلال أشهر الصيف، فيما يتم تصدير الفائض منه في الشتاء والخريف والربيع عندما يقل الاستهلاك.
لكن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي صارح الشعب في سبتمبر (أيلول) 2023، قائلاً إن أزمة الكهرباء نتيجة ارتفاع أسعار البترول اللازم لتشغيل محطات الكهرباء، ولعدم التأثير في الموازنة العامة للدولة، وفي وقت لاحق أوضح السيسي أن "تخفيف أحمال الكهرباء" لمدة ساعة في اليوم، يوفر 300 مليون دولار شهرياً.
توفير المال على رغم توافره
وكانت الحكومة أطلقت خطة لـ"ترشيد استهلاك" الكهرباء في أغسطس (آب) 2022، بهدف توفير النقد الأجنبي، إذ وجه رئيس الحكومة المحافظين حينها بتطبيق الخطة لأن توفير 15 في المئة من الاستهلاك يوفر 450 مليون دولار قيمة الغاز الطبيعي الذي يتم توجيهه إلى التصدير للخارج بدلاً من محطات الكهرباء، وفق ما جاء في اجتماع لمجلس المحافظين برئاسة مدبولي.
اللافت أن العودة إلى انقطاع الكهرباء وتبريرها بنقص الموارد المالية جاء بعد أسابيع من توقيع الحكومة صفقة منطقة "رأس الحكمة" على البحر المتوسط مع الإمارات، وهي أكبر صفقة استثمار أجنبي مباشر في تاريخ مصر بقيمة 35 مليار دولار، تسلمت منها دفعة أولى 15 مليار دولار، أنعشت الخزانة المصرية ومنحت شهادة ثقة للاقتصاد المصري، وفتحت الباب أمام قرض ممدد من صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار، وتمويلات ميسرة من الاتحاد الأوروبي بقيمة 7.4 مليار يورو (7.9 مليار دولار)، إضافة إلى 6 مليارات دولار من البنك الدولي، وانعكس ذلك في ارتفاع صافي الاحتياط النقدي لدى البنك المركزي المصري إلى 40.361 مليار دولار في مارس (آذار)، من 35.311 مليار دولار في فبراير (شباط) الماضي.
ودفع ذلك إلى تساؤل كثر عن سبب عدم استغلال تحسن الوضع الاقتصادي والمالي للحكومة في إنهاء خطة قطع الكهرباء، ومن بين هؤلاء عضو مجلس النواب مها عبدالناصر، التي تقدمت بطلب إحاطة إلى رئيس الوزراء ووزير الكهرباء "بعد انتهاء أزمة العملة الصعبة" حسب تعبيرها، مؤكدة أن انقطاع التيار الكهربائي له آثار جانبية على أية تنمية اقتصادية حقيقية، سيعوقها الانقطاع المنتظم للكهرباء، فضلاً عن الرسالة السلبية التي توجه للمستثمرين، إضافة إلى "الغضب الشديد للمواطنين وعدم شعورهم بوجود أي أمل لحل معاناتهم انقطاع خدمة يقومون بدفع مقابل لها".
رد الحكومة
تساؤلات الشارع والبرلمان عن استخدام "أموال رأس الحكمة" للاستغناء عن قطع الكهرباء، رد عليها المتحدث باسم مجلس الوزراء، محمد الحمصاني، إذ قال في تصريحات تلفزيونية إن "الدولة في إطار الحرص على ترشيد السيولة الدولارية ما زلنا مستمرين في خطة تخفيف الأحمال"، ولم يحدد موعداً للتخلي عن تلك الخطة، واكتفى بتأكيد أنه بمجرد أن يتوافر مزيد من السيولة الدولارية لتستطيع الدولة التخلي عن تخفيف الأحمال ستفعل ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح الحمصاني أن الدولة تستورد الوقود بالأساس، ومع تزايد الحاجات من الكهرباء في ظل المشروعات القومية الكبرى والتوسع العمراني يتطلب الأمر استيراد مزيد من الوقود، مشيراً إلى أنه على رغم النجاح في توفير سيولة دولارية كبيرة فإن الدولة تعمل على ترشيد إنفاقها، لوجود عديد من المتطلبات مثل استيراد الأدوية والأغذية والأعلاف ومستلزمات الإنتاج بخلاف الوقود، مضيفاً "ممكن نتجاوز تخفيف الأحمال بس مانقدرش نستغني عن الدواء والغذاء".
وزاد من الغضب الشعبي على انقطاع الكهرباء، مصرع مواطن علق في المصعد بمنزله إثر قطع التيار الكهربائي، ومع محاولاته للخروج من المصعد سقط من الطابق السابع ليلقى مصرعه على الفور، وهي الواقعة التي حظيت باهتمام وتعاطف كبير على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام.
بدائل
تخفيف الأحمال الحكومية زاد الحمل على بعض المواطنين الذين بدأوا البحث عن بدائل في مواجهة تداعيات انقطاع التيار، فمنذ إعلان استئناف تنفيذ خطة تخفيف الأحمال، ازدحمت أسواق الأجهزة الكهربائية بالراغبين في شراء كشافات الكهرباء، والشواحن والمراوح المعتمدة على الشحن، كما اتجه كثير من أصحاب محال البقالة والمطاعم والشركات إلى شراء أجهزة منظم التيار التي تعمل على حماية الأجهزة من تذبذب التيار الكهربائي.
قبل نحو ثلاث سنوات كان الحديث عن قطاع الكهرباء محل فخر رسمي، فبعد أزمة طاحنة وساعات انقطاع طويلة للتيار الكهربائي في الفترة بين 2011 و2013، استثمرت الدولة 355 مليار جنيه (7.36 مليار دولار) منذ عام 2014 حتى نهاية 2021، مما أثمر تحقيق فائض يصل إلى 13 ألف ميغاواط يومياً، وفق تقرير صادر عن المركز الإعلامي بمجلس الوزراء في فبراير 2022، بعد عجز وصل إلى 6 آلاف ميغاواط في يونيو (حزيران) 2014، إذ أضيفت نحو 30 ألف ميغاواط قدرات كهربائية بعد الانتهاء من تنفيذ 31 محطة إنتاج طاقة كهربائية ومجمع بنبان للطاقة الشمسية.
إنهاء الدعم
تزامناً مع زيادة الاستثمارات في قطاع الكهرباء، بدأت الحكومة المصرية خطة لإنهاء دعم أسعار الكهرباء، إذ كان مقرراً أن تستمر من العام المالي 2014/2015 حتى 2018/2019، ولكن مع بدء تنفيذ خطة الإصلاح الاقتصادي وارتفاع كلفة الطاقة الكهربائية تم مد فترة الدعم حتى 2025.
وقدرت قيمة دعم الكهرباء في 2014/2015 بنحو 23.6 مليار جنيه (490 مليون دولار) وارتفع في 2015/2016 إلى 28.5 مليار جنيه (590 مليون دولار)، ثم انخفض في 2016/2017 إلى 27.6 مليار جنيه (570 مليون دولار) حتى وصل الدعم في العام المالي 2018/2019 إلى 16 مليار جنيه (330 مليون دولار)، فيما أوضح وزير الكهرباء محمد شاكر أن حجم الدعم المقدر عبر "الوقود المدعوم للمحطات" خلال الفترة من 2022 حتى 2027 يقدر بنحو 76 مليار جنيه (1.58 مليار دولار)، مؤكداً مواصلة الدولة دعم محدودي الدخل بعد عام 2025 عندما تكون الكلفة الحقيقية للخدمة الكهربائية تدفع من المواطنين، وذلك من خلال تحمل أصحاب الشرائح العليا (الاستهلاك الكثيف) من الكهرباء فاتورة دعم الشرائح الدنيا، ليصبح حاصل ما تتحمله الحكومة "صفر"اً.
حين بدأت الحكومة رفع الدعم عن أسعار الكهرباء في 2014، كان سعر شرائح الاستهلاك يراوح ما بين 7.5 قرش لكل كيلووات/ساعة، و74 قرشاً لكل كيلووات/ساعة، وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، وصلت الأسعار إلى 58 قرشاً لأقل شريحة و165 قرشاً لأصحاب أعلى استهلاك.
وتعتمد مصر على الوقود الأحفوري في تشغيل محطات الكهرباء بنسبة 85 في المئة، وفق تصريحات سابقة لرئيس الحكومة، إذ يتم استخدام مزيج بين الغاز الطبيعي والمازوت الذي نستخدمه لتشغيل الجزء الأكبر من محطاتنا، إلى جانب الطاقة الجديدة والمتجددة والتي ترتبط بالسد العالي ومشروعات الطاقة المتجددة من الشمس والرياح التي تتوسع الدولة المصرية في تنفيذها، بحسب مدبولي.
تصدير الغاز
وفي سبتمبر 2018، أعلنت مصر تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، لكن بحساب كلفة الفرصة البديلة أي إمكانية تصدير الغاز بدلاً من توريده لمحطات الكهرباء، أصبح من المكلف الاستمرار في توليد الكهرباء بالمعدلات السابقة نفسها، مما دفع الحكومة في أغسطس 2022 إلى تنفيذ خطة لترشيد الاستهلاك الكهربائي واستغلال الغاز في التصدير لتلبية الطلب العالمي المرتفع عالمياً في أعقاب الحرب الروسية - الأوكرانية، وأسفر ذلك عن نمو قيمة صادرات مصر من الغاز الطبيعي بنسبة 171 في المئة، لتصل إلى 8 ملايين طن بقيمة 8.4 مليار دولار خلال عام 2022.
لكن الوضع انقلب في العام التالي، فتراجعت الصادرات المصرية من الغاز المسال بنسبة 51.8 في المئة في عام 2023 مقارنة بالعام السابق، وهو ما يرجعه الخبراء إلى انخفاض إنتاج حقل ظهر في البحر المتوسط، الذي أقرت به وزارة البترول المصرية في يوليو (تموز) 2023، إذ وصل الإنتاج إلى 2.4 مليار قدم مكعبة يومياً في العام المالي 2022/2023، بدلاً من 2.7 مليار قدم مكعبة يومياً خلال 2021/2022، بما يعني تراجعاً بنسبة 11 في المئة.
وتحولت مصر من كونها مصدراً للغاز في بداية العقد الماضي إلى استيراده في عام 2015، قبل أن تعود للتصدير في 2018 بعد عام من تشغيل حقل ظهر، لكن مع تراجع إنتاج الغاز المصري إلى أقل المعدلات منذ فبراير 2018، تتجه الحكومة إلى السوق لسد حاجاتها، إذ نقلت تقارير إعلامية عن مصادر حكومية أن مصر تدرس شراء الغاز الطبيعي المسال من الأسواق، لتفادي نقص الوقود خلال الصيف المقبل.
وذكرت وكالة "بلومبيرغ" أن الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية الحكومية اشترت أخيراً شحنة واحدة في الأقل من الغاز الطبيعي المسال للتسليم الفوري إلى محطة العقبة للتغويز في الأردن.
كما أفادت تقارير إعلامية بأن الحكومة المصرية تستهدف التعاقد على سفينة تغويز (تحويل الغاز المسال إلى الحالة الغازية) لمدة خمس سنوات، وإلى جانب الاعتماد على استيراد الغاز الإسرائيلي لتلبية بعض الطلب المحلي، أفادت تقارير بأن القاهرة تتجه إلى شراء الغاز من قطر والجزائر.