ضرورة إقامة مرجعية شيعية عربية
إذا نظرنا في تاريخ "الحوزة العلمية" في النجف الأشرف، منذ تأسيسها على يد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (385-460 ه) وصولاً إلى علي السيستاني (1930-)، فإن عدد الذين تولوا منزلة المرجعية الشيعية العليا 67 مرجعاً، منهم 5 عرب فقط، والبقية غالبيتها فارسية من الطوسي إلى السيستاني! مما يثير الكثير من الشكوك والتساؤلات عن سببية هذه القبضة الفارسية على رمزية المرجعية الدينية. لا سيّما عندما تتناقض المواقف أو الفتاوى مع مجريات وأحداث الواقع سياسياً واجتماعياً.
فعلى سبيل المثال، كانت مواقف السيستاني قبيل الغزو العسكري الأميركي للعراق تميل نحو الجهاد المسلح، لكن بعد دخول القوات الأميركية إلى بغداد في 9 أبريل (نيسان) 2003، فإنه أفتى بتقديم الجهاد السلمي وتأخير الجهاد المسلح، ونصّ على أن وجود الجنود الأميركيين "إذا كان هناك حاجة إليهم فليكن عملهم بإشراف الأمم المتحدة لا قوات احتلال". وعلى الرغم من كل الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأميركي، سواء في "سجن أبو غريب" مطلع 2004، أو استخدام القنابل المحرمة دولياً (الفسفور الأبيض في معركة الفلوجة الثانية نوفمبر (تشرين الأول) 2004، أو ما تلاها الكثير من الجرائم البشعة واللاإنسانية، فإن السيستاني لم يغير موقفه حيال التمسك بالجهاد السلمي قط.
وكذلك مع تفاقم الأوضاع المزمنة في العراق من الفساد المالي والإداري في معظم أجهزة ومؤسسات الدولة، والانحطاط الأمني بعدم وقف القتل اليومي الذي يسيل فيه دماء الأبرياء على أساس طائفي، والتأخر في جميع المجالات العلمية والتربوية والخدمية والصحية، وانعدام المشروعات الزراعية والصناعية والعمرانية وغيرها، وتفشي الأمية التي وصلت نسبتها إلى 30% بين المراهقين والشباب، وانتشار الفقر الذي تجاوزت نسبته 25% من عموم الشعب، وتصاعد البطالة التي بلغت في بعض المحافظات لأكثر من 50% من الأيدي العاملة. ورغم كل هذه الحقائق المفزعة والوقائع المفجعة، التي جلبها المحتل الأميركي عبر العملية السياسية، التي سلم دفتها إلى الكتلة المصنوعة والمدعومة إيرانياً، فإن السيستاني ما زال إلى الآن يؤيد الاستمرار بالحفاظ على هذه العملية السياسية البائسة والفاشلة بحق العراق وشعبه.
والأنكى من ذلك، كان السيستاني يحث العراقيين على المشاركة بالتصويت في جميع الانتخابات التشريعية، دون أن يدعو ويصرّ على محاسبة الذين سرقوا قوت الشعب، وبددوا ثروات البلاد، وغاصوا بالفساد المالي والإداري، ولا يطالهم العقاب جراء حمايتهم من أحزابهم المسيطرة على هذه العملية السياسية. ناهيك بالكلام عن الميليشيات الطائفية المسلحة سواء في "عصائب أهل الحق" أو "حزب الله العراقي" أو الميليشيات المدمجة بقوات الجيش والشرطة الاتحادية، الذين يرتكبون جرائم القتل الطائفي جهاراً نهاراً من دون وازع يردعهم، ولا فتوى تصدر ضدهم. مجزرة الحويجة في 23 أبريل (نيسان) 2013 نموذجاً من بين مجازر أخرى تبعتها.
وحتى عندما أثبتت المقاومة العراقية بسالتها وقدرتها على المواجهة والمجابهة لقوات الاحتلال الأميركي المدججة بأحدث التقنيات القتالية، وألحقت فيها خسائر مريرة بالأرواح والمعدات، فأعلنت الأخيرة هزيمتها الميدانية عبر وضع جدول زمني رسمي للخروج من العراق. تجد في 24 مايو (أيار) 2008 أن مصادر المرجعية في النجف قد نفت الأنباء التي تناقلتها بعض وكالات الأخبار عن صدور فتوى من السيستاني تجيز الجهاد المسلح لإخراج القوات الأجنبية من العراق.
لقد صدرت عدة كُتب لقادة عسكريين وسياسيين أميركيين يشيرون فيها إلى التعاون مع بعض الرموز في العراق. منها ما أشار إليه وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد (2001-2006) في مذكراته "المجهول والمعلوم"، أنه التقى السيستاني، وأن الإدارة الأميركية دفعت للمرجع 200 مليون دولار على سبيل الهدية في إسقاط العراق، ولإصداره فتوى تُحرم قتل الأميركيين. وأكد أن له علاقة قديمة بالسيستاني تعود لعام 1987، وأنه في خضم إعداد قوات الاحتلال لشن الهجوم على العراق، كان لا بدّ من مشورة السيستاني حتى نخرج بنتائج لا تسبب خسائر فادحة في صفوف قوات الاحتلال. وفعلاً تَمَ الاتصال به عن طريق وكيله في الكويت جواد المهري. ولأسباب مجهولة فقد تراجع رامسفيلد عن أقواله، وتم سحب الكتاب من المطبعة، حيث حذفت النصوص المتعلقة بالسيستاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أن هذا لا يمنعنا من استخدام الاستدلال العقلي والاستنتاج المنطقي في الواقع والوقائع، التي تؤكد على ليونة وتساهل السيستاني تجاه المحتل الأميركي، وأبعاد ذلك في تسلم السلطة لكتلة طائفية موالية لحُكم الملالي الصفوي في إيران. وما زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (2005-2013) إلى بغداد في 3 مارس (آذار) 2008، تحت الحماية الأميركية، إلا لتثبيت تلك الكتلة الطائفية على مقاليد الدولة والسلطة. ووجدنا في نتائج انتخابات 2010، كيف أن "قائمة دولة القانون"، التي يترأسها نوري المالكي الموالي لإيران، قد خسرت أمام "القائمة العراقية" التي يتزعمها إياد علاوي غير الموالي للملالي، 89 مقابل 91 مقعداً نيابياً. إلا أن إيران أصرت على بقاء المالكي في السلطة. فاستجابت الإدارة الأميركية، خصوصاً أن الرئيس الأميركي باراك أوباما (2009–2017)، كان ميالاً ومرناً نحو إيران، وتمت التحويرات السمجة في قراءة القوانين، لتستمر الكتلة الطائفية بالحُكم ويستمر معها انحدار العراق نحو الحضيض دولياً، وعلى الرغم من كل المآسي والمعاناة التي تزداد وتستعر بالعراقيين، ومع كل ممارسات رئيس مجلس رئاسة الوزراء نوري المالكي (2006–2014) من نزعة طائفية، وسياسة الأستبداد والبطش والتهميش، التي طالت حتى شركائه في العملية السياسية، فإن السيستاني استمر بالتزام جانب الصمت!
ويتطرق أيضاً الحاكم الأميركي في العراق بول بريمر (2003-2004) في كتابه "عام قضيته في العراق"، عن علاقته بالسيستاني ودوره الجوهري في تمرير الاحتلال، حيث يقول، "بعد التحرير مباشرةً، أبلَغَنا السيستاني بواسطة قنوات خاصة أنه لن يقابل أحداً من التحالف. ولذلك لم أطلب بعقد اجتماع شخصي معه". وقال لي هيوم المختص بالشأن العربي، إن "السيستاني لا يمكن أن يقبل بأن يظهر علانية بأنه يتعاون مع قوة احتلال، لكنه سيعمل معنا، فنحن نشترك معه في الأهداف ذاتها". (ص 165، 2006)، طبعة بالإنجليزية.
ويواصل بريمر قوله، "كان هيوم محقاً في تحليله، فقد أرسل لي السيستاني ذات يوم يقول: إن عدم لقائه بنا ليس ناتجاً عن عداء للتحالف، وإنما لأنه يعتقد أنه بذلك الموقف يمكن أن يكون أكثر فائدة لتحقيق أهدافنا المشتركة، وبأنه سيفقد بعض مصداقيته لدى أنصاره لو تعاون بشكل علني مع مسؤولي التحالف، كما فعل بعض العلمانيين من الشيعة والسُّنة". وأكد بريمر، في مذكراته، "أن وسائل الإعلام العربية والأجنبية، التي تحدثت عن الصلات المقطوعة بيننا وبين السيستاني، فإنني كنت على اتصال مستمر معه حول القضايا الحيوية، من خلال الوسطاء".
ومن هذا الأمر، نستدل على أن السبب الحقيقي في استمرار المراجع الفارسية بالاستحواذ المتوالي على رمزية "الحوزة العلمية" في النجف الأشرف، لكي توجهها حسب المصالح المرتبطة بالسياسة الإيرانية في المنطقة العربية. إذ إن سلسلة المراجع الفارسية في النجف، تبقى مرتبطة بمرجعية مدينة قم والحكومات الإيرانية لدواعٍ خفية لا أحد يفصح عنها علناً، لكنها تنكشف جراء تمشية المصالح الإيرانية على المصالح العربية.
ومن الأمثلة، ما جرى يوم الخميس المصادف 13 فبراير (شباط) 2014، عندما قام محافظ النجف عدنان الزرفي ونائبه الأول عباس العلياوي بمعية مفارز من حماية العتبة العلوية المقدسة، وكذلك أفراد من الشرطة المحلية، بحملة إزالة وتمزيق لصور جميع المرجعيات الدينية العربية من شوارع النجف، والإبقاء على الفارسية فقط. وقال أحد المصادر في ديوان المحافظة، إن عدنان الزرفي التقى السيستاني في بيت الأخير، وحضر اللقاء محمد رضا نجل السيستاني، وزعيم حزب "المستقلون" في البرلمان والحكومة، وإن المرجع السيستاني أصدر أوامره للمحافظ بضرورة إزالة صور المرجعيات الدينية العربية من شوارع النجف، والإبقاء على صور المرجعيات الفارسية وغير العراقية. وأعد أساتذة "الحوزة العلمية" هذا الإجراء سابقة خطيرة لم يجرؤ على فعلها أحد في الماضي، مؤكدين أن هذا يعكس مدى تسلط الحوزة التقليدية الفارسية بقيادة السيستاني ونجله محمد رضا.
وكذلك في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) 2013، انطلقت حملة وطنية عراقية تطالب السيستاني بنشر شجرة انتسابه إلى رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم، واشترطت أن تكون شجرة النسب موقعة ومصدقة من قِبل النَّسَّابة المعروفين. وفي حالة عدم إثبات ذلك، فعلى السيستاني الرحيل من العراق والعودة إلى إيران. وجاء في هذه الدعوة أن مجموعات من الشباب الإسلامي الشيعي وعدداً من المثقفين ورجال الدين وشيوخ عشائر سيتوجهون إلى مدينة النجف للقاء المرجع السيستاني أو ولده ومدير مكتبه محمد رضا في حالة تعذر لقاء المرجع، وسيوجهون السؤال له مباشرة من دون وسيط حول هذا الموضوع، وسيطالبونه بتزويدهم بالوثائق التي تثبت نسب السيستاني. وفي حالة رفض السيستاني أو ولده أو مكتبه تزويدهم بهذه الوثائق، أو عدم امتلاكهم لها، فإنهم سيطالبون المرجع بتوضيح حول هذا الخداع الذي مارسوه عليهم طيلة هذه السنين، وستبقى خياراتهم مفتوحة، منها تحشيد جماهيري كبير في مطالبة السيستاني بالرحيل من العراق لممارسته الخداع. ولكن هذه الحملة لم تصل إلى النتيجة المطلوبة. خصوصاً أن غالبية النسابة المعروفين قد رفضوا الإجابة عن شجرة نسب السيستاني والخوئي الذي سلمه المرجعية. واكتفوا بتكرار القول لا نعلم، أو لا تعليق، حتى أن بعضهم رفض اللقاء بمجرد معرفتهم أن الموضوع يخص السيستاني والخوئي.
وقبل هذه الحملة اتجه أيضاً بعض الشباب الشيعة بالسؤال مباشرة إلى مكتب المرجع السيستاني عن نفس الموضوع، لكنهم جوبهوا بالإهانة الشديدة والطرد القاسي. مما أثارت الشكوك أكثر عن سبب امتناع السيستاني بالإفصاح عن شجرة نسبه. وهذه الشكوك هي التي دفعت بالحملة الوطنية الآنفة الذكر. لكن الأمر لم يتفاقم ويتوسع، بل تم احتواؤه أو خنقه.
على أي حال، بما أن المراجع العربية الشيعية لا تقوى بمفردها على مجابهة الكتلة الهيكلية المزمنة والمهيمنة على نمطية الوصول إلى منزلة المرجع الأعلى للشيعة، خصوصاً أن المرجع العربي إذا ما فكر برئاسة المرجعية العليا تنهال عليه التُهم والتشكيك بمقدرته العلمية وقدراته العقلية، كما جرى مع بعض المراجع أمثال: محمد صادق الصدر (1941-1999) في العراق، ومحمد حسين فضل الله (1935-2010) في لبنان، لذلك على النظام الرسمي العربي أن يحتضن ويدعم المراجع العربية الشيعية مالياً وإعلامياً ومعنوياً. بل إنه من الضرورة الواجبة لضمان الاستقرار المستقبلي أن تكون هناك مرجعية عربية شيعية تحل محل المراجع الإيرانية في النجف الأشرف، لكي تتمكن من تأدية دورها العروبي في تغليب المصالح العربية سياسياً وأمنياً واجتماعياً.