ملخص
إذا ما كان الاحتلال الأميركي لأفغانستان قد أعطى طهران هدية مجانية إذ ساعدها في التخلص من خصم وعدو عسكري وأيديولوجي تمثل في حركة "طالبان"، فإنها لم تكن على استعداد لتفويت الفرصة مرة أخرى، عندما قرر الأميركي الهجوم على العراق واحتلاله عام 2003، فلم يكن أمامها من خيار سوى العودة إلى اعتماد مبدأ "الحياد الإيجابي" مرة أخرى.
في اللحظات الحساسة والمصيرية يبدو النظام الإيراني ومنظومة السلطة التي تديره وتسيطر على مفاصل القرار فيه، أكثر استعداداً لممارسة أعلى درجات البراغماتية والذرائعية التي تضمن له الحفاظ على مصالحه وإبعاد الأخطار المحدقة به، بخاصة إذا ما شعر أن الأمور تتجه نحو مزيد من التصعيد الذي يضع مصير واستقرار واستمرار النظام في دائرة الخطر الحقيقي، سواء كان هذا الخطر عسكرياً أو اقتصادياً أو داخلياً.
ولعل بعض المحطات التاريخية تمثل مؤشراً واضحاً على هذه الليونة والقدرة على تدوير الزوايا والذهاب إلى خيار التعامل البراغماتي مع أي من المستجدات، بما يضمن مصالح النظام الاستراتيجية، وقد تشكل قضية أو فضيحة "إيران - كونترا"، وزيارة مستشار الأمن القومي الأميركي روبرت ماكفرلين في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان إلى طهران، وتزويد إيران أنظمة وصواريخ "هوك" للدفاع الجوي، وغيرها من حاجاتها من عتاد لاستخدامها من أجل استعادة التوازن الميداني في حربها مع العراق، واحدة من أبرز المحطات على هذا المسار حصلت ووقعت في ظل وجود المؤسس والزعيم السيد الخميني إضافة إلى غيرها.
وإذا ما كان وجود المؤسس في البداية قد شكل ضابط الإيقاع لهذه الحوارات وهذه الاتصالات، فإن ذلك لم يحدث خرقاً في جدار الشعار العقائدي والأيديولوجي للثورة والنظام الإسلاميين، باعتبار العداء مع أميركا وبوصفها الشيطان الأكبر، ما دام جدار الثقة لم يتم ترميمه بين الطرفين، وما دامت القيادة في إيران ما زالت تمتلك كماً من الخوف والقلق من سياسات الإدارات الأميركية التي أعلنت مراراً أن مسألة تغيير النظام من ضمن الخيارات الموضوعة على طاولة القرار الأميركي في التعامل مع إيران.
منحى اختبار الثقة بين الطرفين استمر في الصعود والهبوط بخاصة من الجهة الأميركية، لأنه كان محكوماً بالتطورات المرتبطة بالوضع في الشرق الأوسط وحجم الدور والتدخل الإيراني في ملفات وأزمات هذه المنطقة التي كانت تشكل محط اهتمام وأولوية لدى الإدارات الأميركية في تلك المرحلة، في حين أن الجانب الإيراني لم يخف رغبته في تعزيز هذه الثقة وإعادة بنائها بما يخدم مصالحه ويبعد عنه شبح التهديد الأمني والعسكري والاقتصادي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إمكانية اعتماد طهران سلوكاً مختلفاً في الملفات الإقليمية ظهرت في موقفها من عملية تحرير الكويت عام 1991، عندما التزمت مبدأ "الحياد الإيجابي" لكنها رفضت أن تؤدي العملية إلى إسقاط النظام، بل بإمكانية بقائه منزوع الأظافر والقدرات، بحيث لا يعود يشكل خطراً على أي من دول المنطقة، إلا أن ذهاب واشنطن لإطلاق مسار التسوية الإقليمية في مؤتمر مدريد حول القضية الفلسطينية، واستبعادها طهران عن هذه المفاوضات أو حتى المشاركة بها، أسهم في انهيار ما تم بناؤه من ثقة بين الطرفين، ودفع إيران إلى تطوير وتضخيم دورها ونفوذها المعارض لعملية السلام ولاحقاً لاتفاق أوسلو، من خلال إشعال الجبهة اللبنانية على مرحلتين بين عامي 1993 و1996.
وعلى رغم هذه السلوكات المشككة لدى الطرفين فإنهما أبديا حرصاً على استمرار التواصل والبحث عن إمكانية التوصل إلى حلول لما هو قائم بينهما من صراع، إذ عادا والتقيا على ضرورة التعاون والتفاهم، على خلفية العملية العسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة ضد "طالبان" واحتلال أفغانستان على خلفية اعتداء الـ11 من سبتمبر (أيلول) في نيويورك. وقد تولى حينها محمد جواد ظريف بصفته ممثلاً لإيران في الأمم المتحدة وضع إطار التفاهم مع واشنطن حول مستقبل السلطة في أفغانستان في مؤتمري بون وطوكيو، في حين أسهم "حرس الثورة الإسلامية" في دفع الفصائل الأفغانية المرتبطة به في لعب دور القوات البرية التي أكملت مهمة القوات الأميركية في الضربات الجوية التي قامت بها قبل دخولها البري.
ومرة أخرى لجأت إيران ونظامها ومؤسستها العسكرية لاعتماد خيار "الحياد الإيجابي"، والتزمت حتى عدم التعرض للطيران الحربي الأميركي في حال اضطر إلى استخدام الأجواء الإيرانية، فضلاً عن المساعدة في نقل المساعدات الغذائية الآتية من أميركا عبر أراضيها انطلاقاً من ميناء "تشابهار" إلى كابول، إلا أن التطور الذي حصل في مياه بحر غزة، إعلان تل أبيب عن توقيف سفينة "كارين أي" المحملة بالأسلحة الإيرانية إلى الفصائل الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، دفع الرئيس الأميركي حينها جورج دبليو بوش إلى إدراج إيران في "محور الشر" الأمر الذي كان بمثابة انهيار كل الجهود التي بذلت لبناء جدار الثقة بينهما قبل الحرب على أفغانستان والعودة إلى المربع الأول من العداء والتصعيد.
وإذا ما كان الاحتلال الأميركي لأفغانستان قد أعطى طهران هدية مجانية إذ ساعدها في التخلص من خصم وعدو عسكري وأيديولوجي تمثل في حركة "طالبان"، فإنها لم تكن على استعداد لتفويت الفرصة مرة أخرى، عندما قرر الأميركي الهجوم على العراق واحتلاله عام 2003، فلم يكن أمامها من خيار سوى العودة إلى اعتماد مبدأ "الحياد الإيجابي" مرة أخرى، انطلاقاً من أن هذه الحرب ستقدم لها هدية مجانية في التخلص من النظام الذي خاضت معه حرباً مدمرة لمدة ثماني سنوات، وتفتح الطريق أمامها لتوسيع نفوذها في العراق والسيطرة على القرار فيه من خلال القوى والأحزاب العراقية المعارضة التي كانت في غالبيتها ترتبط مع طهران بعلاقة صداقة وتعاون وحتى موالاة.
هذا التراكم في التقدم والتراجع في الحوار، الذي كان يجري بينهما بصورة غير مباشرة، أسس لعديد من التفاهمات حول أكثر من أزمة وملف، إلا أنه لم ينتقل إلى مستوى الحوار المباشر، إلا بعد الخطوة التي قام بها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بالاتصال هاتفياً بنظيره الإيراني حسن روحاني، ليؤسسا لمرحلة جديدة من الحوار حول البرنامج النووي ومختلف الملفات الإقليمية الأخرى.