ملخص
تعترض المقامرين المدمنين مآس اجتماعية مؤلمة تصل إلى حد بيع ممتلكاتهم من أجل توفير مال القمار وأحياناً إلى الطلاق وتشرد وتفكك الأسر.
يتسمر كريم كل يوم تقريباً أمام شاشة منتصبة وسط أحد المقاهي الشعبية بضواحي مدينة الرباط، يترقب انطلاق سباق الخيول في الحلبات الفرنسية، إذ يراهن بنقوده على "الحصان الفائز"، حالماً بالحصول على ثروة لعلها تأتي يوماً من حوافر الأحصنة.
كريم شاب في عقده الثالث لكنه ليس سوى واحد من أكثر من 4 ملايين مغربي يدمنون ألعاب القمار والرهان بمختلف أنواعه وصوره، وفق تقرير رسمي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي (مؤسسة رسمية)، من بينهم أكثر من 800 ألف شخص يمارسون "القمار الرياضي" الخاص بسباق الخيول والكلاب.
وفي رحلة البحث عن "سراب الثراء" الذي قد تجود به الأحصنة سواء في حلبات السباق المغربية أو الفرنسية المعتمدة في البلاد، تعترض المقامرين المدمنين مآس اجتماعية مؤلمة، تصل إلى حد بيع ممتلكاتهم، من أجل توفير مال القمار، وأحياناً إلى الطلاق وتشرد وتفكك الأسر.
حوافر الخيول
ويتابع آلاف من مدمني القمار سباقات الخيول التي تجري في الحلبات الفرنسية، وتنقل مباشرة في قنوات مخصصة لذلك داخل مقاه مرخص لها بعرض هذا النوع من الرهانات التي تشرف عليها "شبكة ألعاب سباقات الخيل" بالمغرب.
وتغري سباقات الخيول بفرنسا، التي انطلقت أول مرة في هذا البلد عام 1920 وشكلت صناعة اقتصادية قائمة بذاتها بتوفيرها آلاف الوظائف وجلبها مبالغ مالية ضخمة، المقامرين المغاربة الذين يمنون أنفسهم بالربح الوفير.
ويسمي المقامرون المغاربة سباقات الخيول "العودة" (أي أنثى الحصان)، وأيضاً "التيرسي"، وهو السباق الذي يفوز المقامر فيه إذا ما كان رهانه على الأحصنة الفائزة الثلاثة الأولى، أو "الكوارتي"، وهو السباق الرباعي.
ويحفظ عديد من المقامرين في سباقات الخيول أسماء الأحصنة والفرسان أيضاً، ويتابعون مساراتهم وصولاتهم وجولاتهم، بينما يخمن آخرون أرقام الأحصنة الفائزة من دون معرفة بهذا المجال، طمعاً في ربح سهل غير متوقع.
وهناك في المقابل سباقات خيول تجري في أربع حلبات بمدن الرباط والدار البيضاء وسطات والجديدة. يتابعها مدمنو الرهان على هذه السباقات، وهم يحفظون عن ظهر قلب أسماء أشهر الأحصنة مثل طاسيلو وسكاي بولت وغيرهما.
وتخضع الرهانات على سباقات الخيول في المغرب للشركة الملكية لتشجيع الفرس من خلال توفير 600 مقهى موزعة في أرجاء البلاد، التي تشدد على ضرورة أن "يظل اللعب مجرد متعة وهواية"، منبهة إلى "خطورة الاقتراض ومراكمة الديون في سبيل اللعب".
ملامح الإدمان
تحذير الشركة الراعية لرهانات سباقات الخيول من خطورة الاقتراض ومراكمة الديون في سبيل "اللعب"، أي القمار، يبدو أنه لم يجد آذاناً صاغية عند كريم الذي يظل كل يوم تقريباً في مقهى، واضطر مراراً إلى الاقتراض من أجل "هوايته" هذه.
يحكي هذا الشاب قصته مع إدمان القمار على سباقات الخيول الفرنسية بالقول إن "صديقاً له هو من سرب إليه عدوى اللعب في رهانات سباق الخيول، خصوصاً بعدما أفلح يوماً في الحصول على مبلغ يتجاوز 20 ألف درهم (2000 دولار)".
يكمل الشاب، الذي يعمل مستخدماً في شركة خاصة، بأنه وجد نفسه مع مرور الأيام لا يكاد يستطيع الفكاك من هذا النمط من القمار حتى أضحى يحفظ أسماء وصفات الخيول كلها، غير أنه لمتابعة لعبه كان يضطر كثيراً إلى الاستدانة من أفراد أسرته وأصدقائه.
مدمن آخر يدعى حميدة، في عقده السادس، هو الآخر يجلس القرفصاء إلى جانب شاب في مثل سن ابنه، يتصفح أوراق "التيرسي" مرات عدة، قبل أن يؤدي مبلغاً مالياً نظير اعتماد رهانه على الخيول الفرنسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول حميدة في هذا الصدد إنه يلعب "التيرسي" منذ أكثر من 30 عاماً، موضحاً أنه صار بالنسبة إليه بمثابة الماء والهواء، حتى إنه لا يقدر على التخلي عنه، على رغم خسارته المال والأهل بسبب إدمانه هذا.
يعود الرجل الستيني بذاكرته إلى الوراء قائلاً إنه "طوال هذه الأعوام فاز مرات عدة بمبالغ مالية، لكنها تظل قليلة لا تغطي أبداً ما أنفقه على القمار في سباق الخيول"، مضيفاً أنه "لا يزال يأمل بأنه سيربح يوماً ما ثروة كبيرة مثل ما حصل مع أحد جيرانه الذي فاز بملايين عدة".
"علاقات خطرة"
ومن فرط هذا الإدمان تنشأ "علاقات وثيقة" بين المقامر والفرس أو الحصان الذي يراهن على فوزه بالمال، أملاً في أن يرد له الصاع صاعين، والنقود التي قامر بها أموالاً يستطيع بها أن "يعيش الحياة"، كما قال مصطفى، مقامر مدمن على "الكوارتي" منذ سنوات.
يورد مصطفى، مطلق وله ثلاثة أبناء ويناهز عمره الأعوام الـ50، أنه من كثرة علاقته بحلبات السباق التي يتابعها ويلاحق أخبارها يوماً بعد يوم، صار يرى "العودة" تجري وتسابق الريح، أو أنه أصبح فاحش الثراء في مناماته الليلية ليستفيق على الواقع المر، وهو العامل في البناء الذي يشتغل يوماً ويظل عاطلاً أياماً أخرى.
مقامر آخر التقط خيط الحديث من صديقه مصطفى ليسرد بعض الطرائف عن علاقته الحميمية بـ"العودة" في سباقات الخيل التي أدمنها. وقال إنه "عندما لا تقام سباقات الخيول لسبب أو آخر يكاد يصاب الجنون، لأنه اعتاد على متابعتها ومناقشة تفاصيلها حتى لو لم يشارك في القمار، من ثم صارت جزء رئيساً في حياته لا يكاد يستغني عنه".
وتابع، "حصل لي أيضاً أكثر من مرة أنني أصرخ وأنا نائم إلى جانب زوجتي مشجعاً الحصان الذي اخترته للفوز بالسباق على الجري بسرعة أكبر، قبل أن تقفز زوجتي مفزوعة وتطلب مني مغادرة غرفة النوم إلى حيث يمكنني الصياح براحتي".
وزاد المتحدث بأن هذه "العلاقة الخطرة" التي تجمع المقامرين المدمنين بسباقات الخيول والرهان عليها بالمال، تصل إلى حد نعت الإنسان الحيوان بكونه أخاً له، فكثيراً ما تسمع نداءات وسط المقاهي "وأزيد أخويا... عافاك أخويا"، لتشجيع الحصان على التقدم والظفر بالسباق.
معطيات رسمية
على صعيد الأرقام أفاد تقرير سابق للمجلس الاقتصادي والاجتماعي بأن زهاء 40 في المئة من ملايين المغاربة الذين يمارسون "ألعاب الرهان والقمار" معرضون لخطر الإفراط في اللعب (القمار).
وبالرجوع إلى عام 2019 أورد المصدر الرسمي ذاته أن عدد المراهنين على سباقات الخيول تجاوز 620 ألف مراهن، أي نحو مليون تذكرة كمتوسط يومي، ووتيرة مراهنة تبلغ مرتين في الأسبوع، ومبلغ مراهنة شهري يصل إلى 1500 درهم (150 دولاراً).
واللافت في التقرير عينه أن إدمان ألعاب الرهان بأصنافه يكون مرفقاً بسلوكات إدمانية أخرى، خصوصاً السجائر بـ64 في المئة من المراهنين المدمنين، والقنب الهندي بـ25.8 في المئة من الفئة نفسها.
أما على صعيد المداخيل التي تجنيها الدولة من "ألعاب الرهان"، فوفق المصدر نفسه ارتفعت إلى أكثر من 30 مليار درهم (2.97 مليار دولار)، مما يعني تقريباً ثلاثة في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي، وهو ما دفع محللي المجلس الاجتماعي إلى التوصية بتوجيه نسبة مهمة ودائمة من المداخيل نحو العلاج من سلوكات الإدمان.
وكان لافتاً أيضاً توصية هذا المجلس، الذي يأخذ صفة رسمية، بالاعتراف بالإدمان باعتباره مرضاً يتطلب علاجاً، داعياً إلى "إحداث هيئة وطنية للتقنين التقني وأخلاقيات ومراقبة أنشطة المؤسسات والشركات العاملة في ألعاب الرهان، وذلك من أجل الوقاية من السلوك الإدماني والتصدي له".
بيع الممتلكات
الإدمان المفرط على "ألعاب الرهان"، وتحديداً سباقات الخيول سواء التي تجري بفرنسا أو التي تنظم في مضامير السباق المغربية، يؤدي في كثير من الأحيان إلى مآس اجتماعية تنتشر أخبارها وسط الناس.
ثلاث قصص واقعية من قلب المجتمع المغربي تلخص مآسي الإدمان المفرط على القمار في "العودة"، أولاها تلك التي يحكيها أحدهم الذي كان في البداية يمارس الرهان بماله الخاص الذي يقتطعه من راتبه الذي لا يكاد يكفي أسرته خلال الشهر.
هذا المقامر، واسمه أحمد (اسم مستعار)، ذاعت قصته بمدينة سلا، فمن فرط اللعب في سباق الخيول، صار شيئاً فشيئاً يقترض النقود من معارفه وأصحابه، ثم لما لم يجد ما يوفر له السيولة المالية، شرع في بيع ممتلكاته الشخصية من ساعة وهاتف وحذاء وغير ذلك.
وانتقلت المأساة إلى مرحلة أخطر، وهي أنه شرع في بيع ممتلكات بيته من تلفاز وثلاجة وغيرها، محاولاً إقناع زوجته بأنه سيعوضها عندما يفوز، وبأن "الأرقام" التي وضعها ستدخل في "لوردر"، أي بالترتيب الذي وضعه في الورقة التي اختار فيها أرقام الأحصنة التي يتوقع فوزها، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، لتستمر المأساة ويضطر إلى الطلاق لأنه لم يعد يستطيع الإنفاق على أهل بيته.
تعنيف زوجي
القصة الثانية يحكيها ممارس آخر لقمار الخيل حدثت لصديق له يعرفه حق المعرفة، إذ إنه من فرط إدمانه لم يجد سوى الضغط على زوجته حتى توفر له مالاً ليلعب بها "وريقات التيرسي".
وأوضح المتحدث أن هذا الصديق خسر زوجته وكرامته وماله لأنه لم يفز أبداً على رغم محاولاته العديدة، كما أنه كاد يخسر حياته عندما دخل في مرحلة كآبة وحاول الانتحار.
والقصة الثالثة تحكيها فتيحة بلوسي، ناشطة في جمعية تعنى بالاستماع إلى النساء ضحايا العنف الزوجي، وقالت إن عدداً من الزوجات يأتين إليها للشكوى من عنف أزواج من مدمني القمار، ومنها قصة زوجة كانت تأتي إلى الجمعية كل أسبوع والرضوض والكدمات تملأ جسدها من فرط الضرب.
وأكدت أن "الزوج المدمن ألعاب الخيل كان يخسر ماله، فيدخل إلى بيته لينتقم نفسياً من زوجته التي كانت تنهره وتطلب منه الابتعاد عن القمار، ليتطور الأمر إلى عرض القضية أمام المحاكم، والطلاق وتشريد الأبناء".
تعلق الباحثة الاجتماعية مريم العوفير بالقول إن إدمان القمار كيفما كان نوعه هو مرض سلوكي ونفسي واجتماعي بالفعل يتعين علاجه، موردة أن "القمار يستلب حياة المقامر من نفسه، فيكون عبداً لذلك القمار، حتى إنه قد يضحي بماله وولده ولا يبتعد عن تلك الأجواء التي يجد فيها لذة مازوشية حتى لو كان يخسر".
وخلصت الباحثة عينها إلى أن "الخسائر الاجتماعية والنفسية الفادحة التي يتسبب فيها القمار تتطلب وقفة حازمة من جميع المتدخلين من أجل وقف النزف الخطر الذي يتهدد الأسرة والمجتمع ككل" وفق تعبيرها.