ملخص
لم يعد سراً أن الصين وخلال العقد الماضي، جعلت الحفاظ على الأمن المعلوماتي في مقدم أهداف أمنها القومي، واعتبرته القاعدة التي تنبني عليها النجاحات الاقتصادية والسياسية كافة للدولة، والعام الماضي جدد أعضاء البرلمان تشريع مكافحة التجسس لحظر نقل المعلومات المتعلقة بالأمن القومي إلى جانب توسيع تعريف التجسس.
في أوائل شهر مارس (آذار) من العام الماضي 2023 أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ أن بلاده لا بد أن تقيم "حاجزاً أمنياً قوياً" حول الإنترنت الخاص بها تحت إشراف الحزب الشيوعي الحاكم، في أحدث دعواته إلى حماية البيانات وأمن المعلومات عبر الإنترنت.
في ذلك النهار أضاف شي في تعليمات موجهة إلى مسؤولين، خلال اجتماع لبحث أمن الفضاء الإلكتروني، أن الصين "لا بد أن تستمر في إدارة الوصول إلى الإنترنت وتشغيله وضمانه بما يتفق مع القانون".
كما نقلت وكالة الأنباء الصينية "شينخوا" وقتها عن شي قوله "لا بد أن نلتزم إدارة الحرب للإنترنت وأن نلتزم مبدأ جعل الإنترنت يعمل من أجل الناس".
استدعت تصريحات شي وقتها عديداً من علامات الاستفهام حول السبب وراء هذه الانطلاقة السيبرانية، وما إذا كان الصراع المعلوماتي مع الولايات المتحدة الأميركية هو السبب انطلاقاً من أن الحروب الافتراضية، اليوم، لم تعد أقل أهمية من المعارك على الأرض، عطفاً على المخاوف السائرة والدائرة حول العالم من المواجهات السيبرانية والقدرة على الاختراق المعلوماتي لكل دولة من قبل الدول المعادية.
لم يعد سراً أن الصين وخلال العقد الماضي جعلت الحفاظ على الأمن المعلوماتي في مقدم أهداف أمنها القومي، واعتبرته القاعدة التي تنبني عليها النجاحات الاقتصادية والسياسية كافة للدولة، والعام الماضي جدد أعضاء البرلمان تشريع مكافحة التجسس لحظر نقل المعلومات المتعلقة بالأمن القومي إلى جانب توسيع تعريف التجسس.
ما الذي يجري في الصين على صعيد الطموحات السيبرانية؟ وهل هي خطوات عسكرية، ولو بثوب مدني، تمضي في طريق مواجهة لا بد منها مع الولايات المتحدة يمكن تأخيرها بصورة أو بأخرى لكن لا يمكن تجنبها مرة وإلى الأبد؟
إعلان غامض عن قوة سيبرانية
قبل بضعة أيام أعلنت الصين تشكيل قوة عسكرية سيبرانية جديدة لتعزيز قدرتها على "خوض حروب والانتصار فيها".
في هذا الإطار قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية وو تشيان إن "قوة الدعم المعلوماتي" ستقدم "دعماً أساساً لتطوير أنظمة شبكات المعلومات بصورة منسقة وتطبيقها".
ما الذي تمثله هذه القوة السيبرانية بالنسبة إلى الصين؟
بحسب المتحدث الصيني تعتبر "خطوة استراتيجية لإقامة نظام خدمات وأسلحة جديدة وتحسين بنية القوة العسكرية الحديثة في الصين".
وعلى رغم أن المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية لم يكشف مزيداً من المعلومات عن هذه القوة العسكرية السيبرانية الجديدة، فإنه اعتبر أنها "تمثل خطوة استراتيجية لإقامة نظام خدمات وأسلحة جديدة وتحسين بنية القوة العسكرية الصينية الحديثة".
المتحدث عينه، وضمن الكلمات القليلة التي فاه بها، أشار إلى أن تلك القوة السيبرانية "تتحمل مسؤولية كبيرة في تطوير التنمية العالية النوعية والقدرة على خوض حروب عصرية والانتصار فيها".
لا يحتاج الأمر إلى كثير من المهارات التحليلية، سواء السياسية أو العسكرية، لتأكيد أن المشهد السيبراني الصيني المعاصر، يأتي ضمن الاستعدادات القائمة على قدم وساق بين واشنطن وبكين، ليوم اللقاء العسكري المحتوم، فقد أنفقت الصين، خلال السنوات الماضية، مليارات الدولارات لتطوير وتحديث قوتها المسلحة في ظل تصاعد التوتر مع الولايات المتحدة ودول أخرى في المنطقة.
وليس سراً أن الصين ترى نفسها، اليوم، محاطة بتحالفات جديدة، على رأسها تحالف "أوكوس" الذي تقوده الولايات المتحدة بصبغته العسكرية، وتحالف "كواد" بطبيعته السياسية، وتستشعر الخطر الداهم في منطقة "الإندوباسيفيك" صباح ومساء كل يوم.
عطفاً على ذلك، فإن نظرة متأنية لليابان، الجار الأقرب جغرافياً، والعدو اللدود تاريخياً، ربما تدفع الصين في مسارات ومساقات العسكرة السيبرانية، وهي ترى طوكيو تعزز من قدراتها العسكرية التقليدية وتشدد من تحالفاتها مع واشنطن، وربما سيصل الأمر قريباً حد نشر أسلحة نووية على الأراضي اليابانية.
لم يكن الرئيس الصيني شي غائباً عن مشهد هذه القوة السيبرانية، بل إنه قدم "تهانيه الحارة" للقوة الجديدة خلال مراسم احتفالية أقيمت في بكين، وهناك صرح بالقول: "تأسيس هذه القوة قرار مهم اتخذه الحزب الشيوعي الحاكم على أعلى المستويات من أجل تحسين نظام القوة العسكرية العصرية".
ويمكن للقارئ التساؤل "هل تبدي الصين نياتها في أن تضحى قوة سيبرانية عظمى في قادم الأيام؟".
بكين ومشروع سيبراني طويل الأجل
لعله من الواضح أن الصينيين قد أدركوا إدراكاً عميقاً، أنه إذا كان القرن الـ20 هو قرن السيادة على البحار حيث كانت القوة للأساطيل في النصف الأول من القرن نفسه، قبل أن تكون السيادة في النصف الثاني للقوات الجوية والصاروخية، إلا أنه رسخ لديهم يقين بأن القوة الحقيقية في القرن الـ21 ستكون للفضاء المعلوماتي السيبراني، حيث تشكل البيانات والمعلومات القوة الضاربة التي ستؤثر في توجهات العالم المعاصر.
من هنا يتبدى أن تحويل الصين إلى "قوة سيبرانية" هو مشروع استراتيجي طويل الأمد ومعقد ومنهجي يشكل كل جوانب الاقتصاد والمجتمع، والتعبير لتشن تشاوشيونغ نائب وزير الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الصيني قبل بضعة أعوام.
هل القوة العسكرية الصينية الأخيرة أمر حدث فجأة ومرة واحدة؟ أم أنها سياسة صينية طويلة الأجل كان معداً لها منذ نحو عقد من الزمن؟
المؤكد أن الرئيس الصيني شي قد تبنى مفهوماً "للقوة السيبرانية العظمى"، الذي تمت ترجمته إلى "القوة الشبكية العظمى"، في فبراير (شباط) من عام 2014، عند إطلاق أكبر هيئة معنية بقضايا الإنترنت تابعة للحزب الشيوعي الصيني وهي "المجموعة المركزية الرائدة في مجال الأمن السيبراني والمعلوماتية".
ولاحقاً اعتبر شي أن "القوة السيبرانية العظمى" هي حجر الزاوية لسياسة الإنترنت في الصين، إذ إنها خطوة مهمة جداً نحو تحقيق أهداف القرن للحرب، فهي مرحلة الإنجاز الرئيسة التي يأمل الحزب بلوغها بمرور 100 عام على تأسيسه، ومن ثم انتصاره في الحرب الأهلية الصينية 2049 .
منذ ذلك الوقت، انتشر مفهوم القوة السيبرانية العظمى على نطاق واسع في الخطاب الرسمي الصيني. فقد ظهر، باعتباره إطاراً رئيساً للاستراتيجية الصينية في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية وتكنولوجيا المعلومات على نطاق واسع، وتظهر عبارة "القوة السيبرانية العظمى" في عنوان كل خطاب رئيس تقريباً يلقيه الرئيس شي حول استراتيجية الصين في ما يتعلق بالاتصالات السلكية واللاسلكية والشبكات، الذي يستهدف الجمهور المحلي منذ عام 2014.
هل تتعامل الصين في استراتيجيتها السيبرانية بازدواجية ما ضمن سياق المناورات التكتيكية في علاقاتها مع الغرب عامة والولايات المتحدة الأميركية بخاصة؟
الشاهد أنه نادراً ما تظهر عبارة "القوة السيبرانية العظمى"، في الرسائل الموجهة إلى الجماهير الأجنبية الخارجية حيث تظهر، مرة واحدة فقط كل ست سنوات، في الملاحظات التي يدلي بها المتحدثون باسم وزارة الخارجية، ويشير عدد قليل من المراجع إلى أن عدم ذكر "القوة السيبرانية العظمى" كثيراً في الرسائل الموجهة إلى الخارج، إلى أن بكين تعمد إلى تقليل المناقشات حول طموحاتها عند التواصل مع الجماهير الأجنبية. ومثل هذا الحذر له ما يبرره بالتأكيد استناداً إلى خطابات شي وتصريحات المسؤولين ذات الصلة.
وكان الرئيس الصيني شي واضحاً في شأن برنامجه العالمي للقوة السيبرانية العظمى، ففي المؤتمر العالمي للإنترنت في عام 2015، أعلن أن "الصين ستعمل على تنفيذ استراتيجية على نحو صارم حتى تصبح قوة سيبرانية عظمى"، وذلك من خلال أمور من بينها بناء مجتمع ذي مصير مشترك في الفضاء السيبراني، وتعزيز البنية التحتية العالمية للإنترنت والمقاييس المناسبة لإدارة شبكة إنترنت صيني عالمية".
الصين ودروس أوكرانيا الإنترنتية
بدأت الصين بالفعل تنفيذ استراتيجيتها السيبرانية عبر بناء شبكة إنترنت خارقة، وتحديداً في الفضاء الخارجي، وأطلقت بكين على هذه الشبكة لفظة "شبكة الفضاء الموحدة"، وتتكون من مجموعة ضخمة من الأقمار الاصطناعية الصغيرة التي تدور حول الأرض على ارتفاع منخفض. وتهدف خطة الصين إلى إطلاق نحو 13 ألف قمر اصطناعي في الفضاء، وذلك بحلول عام 2025، ومن المتوقع أن تكون الشبكة جاهزة للاستخدام التجاري في عام 2027. وتوفر شبكة الفضاء الموحدة سرعات إنترنت عالية جداً تبلغ 100 ميغابايت في الثانية، كما أنها توفر تغطية شاملة للعالم بما في ذلك المناطق النائية.
ويمكن لنا، في هذا، السياق أن نتساءل: "هل جاءت الحرب الروسية - الأوكرانية، على نحو خاص، لتعمق من رغبة الصين في أن تكون لها شبكتها الإنترنتية الفضائية الخاصة وكذلك العملاقة في الوقت ذاته؟
المؤكد أن الأمر بالفعل يمضي على هذا النحو، لا سيما بعد أن تابعت ما فعله الفتى المعجزة إيلون ماسك من توفير شبكة إنترنت هائلة للأوكرانيين خلال حربهم مع الروس عبر مجموعة أقماره الاصطناعية، الأمر الذي تسبب في إزعاج كبير للروس.
من هنا يمكن القطع بأن الصين سعت، بالفعل، في طريق حيازة شبكة توفر لها سرعات إنترنت عالية جداً تمدها بتغطية شاملة وواسعة في أرجاء المسكونة كافة، وبما يضمن لها حماية مصالحها الاستراتيجية في الخارج، وتوفير خدمات تتعلق بأهدافها القومية في الداخل، وبخاصة في المناطق النائية إذ يمكن لهذه الشبكة أن تكون عوناً في عمليات التعليم والرعاية الصحية، كما يمكن لشبكة الإنترنت دعم النمو الاقتصادي الصيني في الحال والمستقبل.
أما عن التفاصيل العملياتية لهذه الشبكة الفضائية، فيمكن القطع بأنها ستنشأ من طريق وضع مئات أو حتى آلاف الأقمار الاصطناعية في مدارات الأرض المنخفضة، غير أنه، وبالنظر إلى حجم الخطة الصينية وأهميتها، فإن تنفيذ هذا المشروع يتطلب الوقت والجهود الكبيرة.
بكين والمواجهة مع "ستارلينك"
يتساءل كثير من المراقبين عن الدور الذي لعبه إيلون ماسك، خصوصاً، في بلورة مشروع الصين السيبراني الكبير، لا سيما في ظل ما تسرب أخيراً من أنباء عن تعاقدات بين شركته ووكالات الأمن القومي الأميركي، وهو أمر لم يكن ليغيب عن أعين العارفين ببواطن حال ومآل الدولة الأميركية العميقة.
في السنوات القليلة الماضية أثارت شركة "ستارلينك" المملوكة لماسك اهتماماً وربما مخاوف كبيرة من خلال مشروعها الخاص بإنشاء شبكة إنترنت فضائية عالية السرعة، والهدف المعلن لشبكة ماسك هو توفير اتصال إنترنت سريع وفعال في جميع أنحاء العالم باستخدام آلاف الأقمار الاصطناعية، وعلى رغم أن "ستارلينك" واجهت بعض التحديات والانتقادات، فإنها استطاعت تحقيق تقدم كبير وإطلاق عديد من الأقمار الاصطناعية في المدار.
وأدرك الصينيون وكذلك الروس، بل وبقية دول العالم، أن مشروعات "ستارلينك" ليست سوى ستار للمجمع الصناعي العسكري الأميركي، وأداة خلفية لتحقيق أهداف الاستراتيجية الأميركية الشهيرة المعروفة بـ"القرن الأميركي". وفي قلب هذا المشروع وقف النمو الروسي، ولو اقتصادياً في الأقل، أما الهدف الأكبر والأخطر فموصول بالصين بنوع خاص، ويعمد إلى قطع الطريق عليها براً وبحراً وجواً.
لم يكن هذا الشأن ليغيب عن أعين الصينيين، ولهذا عمدوا إلى توفير استثمارات ضخمة في مجال الفضاء، تتيح وجود آلاف الأقمار الاصطناعية، وربما بما يزيد عما يسعى ماسك إلى نشره فضائياً.
هنا تبدو المفارقة واضحة، ذلك أنه وعلى رغم أن شبكة "ستارلينك" توفر سرعات إنترنت عالية، فإن شبكة الصين الفضائية تعد نوعاً من التكنولوجيا الفائقة، وتعد أحدث منافسة لـ"ستارلينك".
ولعل المدهش مما يتوافر لنا من معلومات حتى الساعة موصول بالقدرة التقنية لشبكة الصين الإنترنتية، التي قد تكون تقنياً أكثر تطوراً من شبكة "ستارلينك"، إذ تستخدم تقنيات وتكنولوجيا فائقة مثل الأقمار الاصطناعية ذات الشبكات المنتشرة على نطاق واسع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على أن السؤال الذي بات يزعج الأميركيين، بنوع خاص، وينقسم إلى قسمين:
الأول: هل هناك تعاون بين موسكو وبكين في شأن هذه الشبكة ولو تعاون براغماتي موقت من النوع التكتيكي وحتى تنتهي أزمة الصراع في أوكرانيا؟
يدرك الجميع أن الطبقات الحضارية الروسية - الصينية، غير مرتاحة بعضها على بعض بصورة نموذجية كما يتخيل البعض، ولا يعدو الأمر أن يكون تحالفاً في أوقات استثنائية صعبة، يهدف إلى مواجهة التمدد الإمبراطوري الأميركي في آسيا .
وعلى رغم ذلك فإن الأمر يحتمل نوعاً من أنواع التعاون في الفضاء، والروس هم أصحاب الباع الطويل في هذا الإطار منذ زمان وزمانين، وعليه فإن القوة السيبرانية الصينية القائمة والمقبلة تحتمل تعاوناً روسياً ما، مما يجعل الأمر يتجاوز فكرة التعاون المدني.
الثاني: هل هناك بالفعل أهداف ما ورائية لهذا البرنامج السيبراني؟ بمعنى، هل هو مجرد ستار لمواجهات فضائية صينية ذات ملمح وملمس عسكري؟
الأمر غير مستبعد، لا سيما في ظل حالة الفوضى التي تعم الفضاء الخارجي أخيراً، ومن غير أدنى قدرة بشرية على تنسيق المواقف أو الاتفاق على قواعد محددة لاستخدامات الفضاء.
في هذا السياق، ظهرت أخيراً أنباء عن شبكات صاروخية يجري الإعداد لها في الفضاء الخارجي، هدفها إشعال معركة لتدمير الأقمار الاصطناعية للدول التي تعد معادية، وبالنسبة إلى الصين تأتي الولايات المتحدة في مقدم هذه القوى.
هل حديث الصين عن هذه القوة السيبرانية الجديدة مدخل طبيعي لولوج الصين على مرحلة جديدة من أجيال التكنولوجيا المتقدمة والرائدة، الأمر الذي يتم فهمه أميركياً على أنه نوع من المزاحمة، في عالم التقدم التقني الذي سيقود العالم المعاصر أول الأمر، وتالياً يمكنه أن يتسبب في إزاحة واشنطن من مشهد سيدة العالم التقني المعاصر؟
الصينيون وسباق نحو الـ5G
يصف الخطاب الصيني بوضوح الطموحات التنافسية العالمية التي تقوم عليها جهود الصين السيبرانية، والتي يقودها الحزب الشيوعي الحاكم، لصياغة مقاييس الاتصالات، هنا يمكننا الرجوع إلى عديد من المقالات والدراسات التي تنشر على يد مؤلفين في أكاديمية العلوم العسكرية الصينية، وتنشر عادة في مجلة الدفاع الوطني الصينية.
نقرأ في واحدة منها نشرت قبل عام ما نصه "إن التكنولوجيا الأساسية في الجيل الخامس 5G تكاد تكون جديدة تماماً، فمن سيتقن نموذج هذه التكنولوجيا وهندستها ومقاييسها أولاً، سيكون له الحق في التحدث في شبكة المحمول المستقبلية، وكسب ميزة ريادة سلسلة الصناعة، ومن الممكن أن يحتل مكانة استراتيجية رائدة في التجارة الاقتصادية والمنافسة العسكرية في المستقبل".
تشير هذه الخطوط إلى أن لاعباً واحداً فقط سيمكنه المطالبة بهذا "المركز الاستراتيجي الرائد"، وقد تم توضيح هذه النقطة، بصورة أكبر، في مكان آخر، فقد أطلقت صحيفة "شنتش" التجارية اليومية على الجيل الخامس 5G لقب "المكسب المطلق".
لاحقاً كان وزير الصناعة وتكنولوجيا المعلومات مياو وي يؤيد هذه الحجة بنفسه، ففي خطاب ألقاه في عام 2020 قال "كانت هناك ثلاثة مقاييس عالمية في عصر الجيل الثالث 3G ومقياسان عالميان في عصر الجيل الرابع 4G ومقياس عالمي موحد في عصر الجيل الخامس 5G".
هنا يحق للقارئ أن يتساءل: "ما سبب الأهمية الاستراتيجية لمقاييس الجيل الخامس هذه التي وصفت بالمكسب المطلق؟".
الجواب هو أنه إذا تمكنت الصين من وضع هذه المقاييس فسيمكنها التحكم بصورة أفضل في التكنولوجيا والشبكات الخاصة بها، ومن ثم دعم الاستقلال الذاتي الوطني.
هل هناك ما يخشاه الأميركيون بخاصة والغرب عامة حال توافر هذه التكنولوجيا في أيدي الصينيين؟
تكنولوجيا إنترنت الأشياء
المؤكد أن الأمر على هذا النحو بالفعل، ذلك أنه إذا تمكنت الصين من وضع هذه المقاييس فسيمكنها التحكم في كثير جداً من مساقات ومسارات الحرب الحديثة براً وبحراً وجواً وفضاءً.
هنا يبدو جلياً أنه في عصر الإنترنت أصبح كل من يمتلك سلطة الخطاب وسلطة وضع القواعد يمتلك القدرة على قيادة النظام المستقبلي.
وقبل عصر الإنترنت لعبت البلدان الأوروبية والأميركية دوراً رائداً في تشكيل النظام الاقتصادي والسياسي والقانوني العالمي الجديد، ولكن في عصر الإنترنت، بخاصة في عصر المعلوماتية الجديد الذي حملت لواء ريادته تكنولوجيا الجيل الخامس، أصبحت الصين تتمتع بالصلاحية الكاملة للقفز إلى الأمام وتقديم إسهامات أكبر.
هنا يضحى واضحاً للغاية أن الفرصة التاريخية التي منحها الإنترنت ستصبح بكل تأكيد دفعة مهمة لتعزيز القدرة التنافسية الدولية للصين.
إن حيازة الصين شبكة إنترنتية قوية ومتقدمة من طراز الجيل الخامس أمر يفتح الباب واسعاً أمام قفزات صينية على صعد مختلفة، منها على سبيل المثال تطوير اقتصادها، لا بصورة تقليدية، وهو ما برعت فيه، حتى الساعة، عبر بضائعها التي تغزو أسواق العالم ومنها السوق الأميركية فحسب، بل عبر الدخول في عصر ما يسمى الاقتصاد الرقمي، فحال تمكن الصين، مرة واحدة، من اقتصادات بهذا النوع، سيمكنها من الولوج إلى بقية بقاع وأصقاع العالم وبصورة لا تصد ولا ترد.
عطفاً على ذلك، تتيح تكنولوجيا إنترنت الأشياء إمكانية التحكم في العالم الحقيقي عبر الشبكة، وهو خلاف ما جرت به المقادير من قبل.
في الماضي كانت الفكرة تتلخص في فصل البنية الأساسية المادية عن البنية الأساسية لتكنولوجيا المعلومات، فمن ناحية تأتي المطارات والطرق السريعة والمباني، ومن الناحية الأخرة تأتي مراكز البيانات وأجهزة الكمبيوتر الشخصية والنطاق العريض وما إلى ذلك.
أما اليوم وفي عصر إنترنت الأشياء فسيتم الدمج بين الخرسانة المسلحة والكابلات، وبين الرقائق الإلكترونية والنطاق العريض في بنية أساسية موحدة، وبهذه الصورة أصبح كل من الشبكة والواقع يمثلان قالباً متكاملاً، وبالتبعية سيمتد العالم الذي يمكن تحديده بوضع مقاييس الجيل الخامس عبر كل من الواقع والافتراضي ليفرض سلطته على الفضاء المادي مثلما يفرضها على حركة المعلومات.
هل مشروع إنترنت الصين تتجاوز أهدافه الواقع الحالي إلى العالم الافتراضي؟
غالب الظن أنها خطوة تسعى في طريقين عسكري ومدني، وإن كان كلاهما يمضي دفعة واحدة في طريق قطبية عالمية صينية لن يمكن منعها من الانطلاق في قادم الأيام.